رأى

قطاع الزراعة والمياه العادمة وتهيئة بيئة مواتية للتغيير من أجل التنمية المستدامة

أ.د/علاء البابلي

بقلم: أ.د/علاء البابلي

خلال نصف القرن الماضى، اتسعت الرقعة المؤهلة للري بما يتجاوز الضعفين، وزاد عدد الماشية إلى أكثر من ثلاثة أضعاف، وتنامت تربية الأحياء المائية في مسطحات داخلية بما يزيد على عشرين ضعفاً.

تتعرض المياه للتلوث من قطاع الزراعة فى كثير من الدول عندما تُضاف الأسمدة وغيرها من المواد الكيميائية الزراعية الأخرى بمقادير تتجاوز قدرة المحاصيل الزراعية على امتصاصها أو في حالة تعرضها للانجراف. وقد تُسهم مخططات الري الفعالة في تخفيض معدل إهدار الموارد المائية وفقدان الأسمدة تخفيضاً كبيراً. وفضلاً عن ذلك، يمكن أن تؤدي تربية الماشية والأحياء المائية إلى تلوث المياه بالعناصر المغذية ويمكن أن يكون قطاع الزراعة مصدراً للعديد من أنواع الملوثات الأخرى، بما في ذلك المواد العضوية، والكائنات المسببة للأمراض (مسببات الأمراض)، والمعادن، والملوثات الحديثة. وخلال السنوات العشرين الماضية، ظهرت ملوثات زراعية جديدة تضم على سبيل المثال المضادات الحيوية، واللقاحات، ومحفزات (منشطات) النمو، والهرمونات، التي يمكن أن تنتقل إلى البيئة من مزارع الماشية ومزارع تربية الأحياء المائية.

وتُعد المياه العادمة مصدراً هاماً وثميناً لزيادة الموارد المائية والعناصر المُغذية على حد سواء، وذلك في حالة معالجتها على النحو الملائم واستخدامها بشكل آمن. وفضلاً عن تعزيز مستوى الأمن الغذائي، يمكن أن تعود عملية إعادة استخدام المياه في قطاع الزراعة بفوائد هامة على الصحة البشرية والبيئية على حد سواء، بما في ذلك تحسين مستوى التغذية السليمة.

وتشيع ممارسات استخدام المياه العادمة البلدية كنموذج مشترك في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وأستراليا، وبلدان البحر الأبيض المتوسط، والصين، والمكسيك، والولايات المتحدة الأمريكية. وتبلغ هذه الممارسات ذروة النجاح في المناطق الحضرية وشبه الحضرية، حيث يسهل الحصول على المياه العادمة مجاناً عادة.

يتمثل أحد التحديات الرئيسية المتعلقة بـالمياه العادمة في قارة أفريقيا في الافتقار بوجه عام إلى البنية التحتية اللازمة لتجميع ومعالجة المياه. ويتسبب ذلك في تلوث موارد المياه السطحية والجوفية المحدودة في الكثير من الأحيان.

وتتنامى المدن الأفريقية بوتيرة سريعة، وتعجز نُظمها القائمة لإدارة المياه عن مواكبة الطلب المتزايد.  وعلى الرغم من ذلك، يتيح هذا الوضع فرصاً بفضل تحسين إدارة المياه العادمة في المناطق الحضرية عن طريق استخدام تكنولوجيات متعددة الأغراض من أجل إعادة استخدام المياه واسترداد المنتجات الثانوية النافعة. ولابد من بذل جهود كبيرة على صعيد الدعوة والمناصرة لإقناع واضعي السياسات بأن تكلفة التقاعس عن العمل باهظة في مجالات التنمية الاجتماعية والاقتصادية، والجودة البيئية، والصحة البشرية.

وقد أوضحت عملية استخدام المياه العادمة المعالجة بطريقة آمنة وسيلة لزيادة توفير المياه في عدد من البلدان العربية، وأدُرجت كعنصر أساسي في خطط إدارة الموارد المائية. وفي عام 2013، خضع 71% من الموارد المائية التي تم تجميعها في الدول العربية للمعالجة بطريقة آمنة، علماً بأنه يجري استغلال 21% منها لأغراض الري وإعادة تغذية طبقات المياه الجوفية في المقام الأول.

وتوفر الإدارة المتكاملة للموارد المائية والأخذ بنهج تراعي الروابط بين المياه والطاقة والغذاء وتغير المناخ إطاراً عاماً للنظر في سُبل دعم وتحسين عمليات تجميع ونقل ومعالجة واستخدام المياه العادمة في منطقة الدول العربية من منظور الأمن المائي.

وتنطوي المنتجات الثانوية المستخلصة من المياه العادمة المنزلية، ومنها على سبيل المثال الملح والنيتروجين والفوسفور، على قيمة اقتصادية محتملة يمكن استغلالها في تحسين سُبل العيش في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. وقد أزاحت دراسات الحالة التي أجُريت في منطقة جنوب شرق آسيا الستار عن ارتفاع الإيرادات التي تتحقق من استخلاص المنتجات الثانوية من المياه العادمة، ومنها على سبيل المثال الأسمدة، وذلك بمعدلات كبيرة تتجاوز تكاليف تشغيل نُظم استخلاص المنتجات الثانوية من المياه العادمة، وهو ما يوفر أدلة تؤكد قيمة نموذج استرداد الموارد من المياه العادمة باعتباره نموذجاً تجارياً مجدياً يدرّ أرباحاً.  وينبغي بذل المزيد من الجهود في كافة أنحاء المنطقة لمساعدة البلديات والسلطات الحكومية المحلية على إدارة المياه العادمة في المناطق الحضرية والاستفادة من فوائد استرداد الموارد التي تحتوي عليها.

ويعدّ مستوى إتاحة خدمات الصرف الصحي المحسنة في جميع أرجاء قارة أوروبا ومنطقة أمريكا الشمالية مرتفعاً نسبياً لتصل 95% وتحسنت هناك أيضاً مستويات معالجة المياه العادمة خلال السنوات الخمس عشرة أو العشرين الماضية.

وعلى الرغم من تزايد خدمات المعالجة الثالثة تدريجياً، يجري تجميع كميات كبيرة من المياه العادمة وتصريفها بدون معالجة، ولا سيما في منطقة أوروبا الشرقية. وقد تسببت التغيرات السكانية والاقتصادية في تخفيض فعالية بعض النُظم المركزية الواسعة النطاق إلى ما دون المستوى الأمثل، وهو ما يتبين في العديد من النُظم التي تعاني من فرط حجمها وتواضع قدرتها على التكيف والتي تقع في بعض أجزاء الاتحاد السوفيتي السابق. وتواجه المدن الواقعة في مختلف أنحاء المنطقة أعباءً مالية ناجمة عن إصلاح أو استبدال البنية التحتية المتقادمة.

واتسع نطاق توفير خدمات معالجة المياه العادمة في المناطق الحضرية في أمريكا اللاتينية والكاريبي بمقدار الضعفين تقريباً منذ أواخر تسعينات القرن الماضي، وتتراوح نسبة المعالجة في الوقت الحاضر بين 20% و30% من إجمالي كميات المياه العادمة التي يتم تجميعها في نُظم المجاري بالمناطق الحضرية وفقاً للتقديرات.

ويُعزى هذا التحسن في المقام الأول إلى تزايد مستويات توفير المياه وخدمات الصرف الصحي، وتحسن الوضع المالي للعديد من جهات تقديم الخدمات التي حققت في السنوات الماضية تقدماً هاماً في استرداد التكاليف، وارتفاع مستوى النمو الاقتصادي والاجتماعي في المنطقة خلال العقد الماضي.

وساهم إدماج الاقتصادات الإقليمية في الأسواق العالمية في هذا التحسن. ويمكن أن تكون المياه العادمة المُعالجة مصدراً هاماً للإمداد بـالمياه في بعض المدن، ولا سيما تلك التي تقع في مناطق قاحلة أو في مناطق تعتمد على نقل المياه لمسافات طويلة لتلبية الطلب المتزايد، وبخاصة خلال فترات الجفاف كما حدث فى ساو باولو.

لذلك يجب ان يكون هناك تهيئة بيئة مواتية للتغيير يساعد تحسين نُظم معالجة المياه العادمة، وزيادة معدل إعادة استخدام المياه، واسترداد المنتجات الثانوية النافعة، على الانتقال إلى الاقتصاد التدويري عن طريق المساهمة في خفض معدلات سحب المياه والحد من إهدار الموارد في نُظم الإنتاج والأنشطة الاقتصادية.

*كاتب المقال: خبير المياه الدولى واستاذ الأراضى والمياه بمعهد بحوث الأراضى والمياه.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى