رأى

فجوة الأجيال وتراجع «الإرشاد الزراعي»

بقلم: د.شكرية المراكشي

الخبير الدولي في الزراعات البديلة ورئيس مجلس إدارة شركة مصر تونس للتنمية الزراعية

الإرشاد الزراعي كان، ولا يزال، العمود الفقري لدعم الفلاحين ونقل المعرفة الزراعية إلى الحقول. فقد كان المرشد الزراعي يمثل حلقة وصل فاعلة بين الأبحاث العلمية والمزارعين، مما ساهم في تطوير الإنتاجية وتحسين أساليب الزراعة. لكننا اليوم نواجه تراجعا ملحوظا في هذا القطاع، لدرجة أن الأجيال الجديدة لم تعد تعيره اهتماما يُذكر.

تابعونا على قناة الفلاح اليوم

تابعونا على صفحة الفلاح اليوم على فيس بوك

في مقالي السابق عن الإرشاد الزراعي، أثارت التعليقات نقاشا عميقا حول قضية تمس جوهر هذا القطاع الحيوي، وكان أكثر ما لفت انتباهي تعليق تحدث عن انقطاع حبل التواصل بين جيل العظماء الذين أسسوا قواعد هذا القطاع الحيوي، وبين الجيل الحالي الذي يكافح وسط تحديات ضخمة.

هذا التعليق لم يكن مجرد رأي عابر، بل سلط الضوء على مشكلة جوهرية تعاني منها كثير من المجالات في بلادنا، وهي فقدان الجسر الذي يربط بين الماضي العريق والحاضر المتعثر. وهو أمر دفعني للتأمل في الوضع الراهن للإرشاد الزراعي الذي يتناقص دوره شيئا فشيئا، حتى بات في خطر فقدان مكانته وتأثيره.

إن هذه الإشكالية الكبرى ليست فقط أزمة في الإرشاد الزراعي، بل هي أزمة وطنية تعكس عمق الفجوة بين أجيال حملت على عاتقها النهوض بالبلاد، وأخرى تبحث عن طريقها وسط ظلال هذه الإنجازات التي لم تصل إليها كاملة. فما الذي أدى إلى هذا الانقطاع؟ وكيف يمكن لنا ترميم هذا الجسر وإعادة بناء حبل التواصل بين الأجيال؟ انقطاع حبل التواصل بين جيل العظماء والجيل الحالي: خسارة للخبرة والمعرفة.

لا يمكن لأي أمة أن تنهض دون أن تحافظ على تراثها الفكري والمعرفي، وأن تعمل على تمرير الخبرات والتجارب من جيل إلى آخر. غير أن ما نشهده اليوم في كثير من المجالات، ولا سيما في القطاع الزراعي، يكشف عن فجوة مؤلمة بين جيل “العظماء” الذي بنى القواعد وأسهم في تحقيق إنجازات، وبين الجيل الحالي الذي يواجه تحديات ضخمة في ظل نقص الموارد وضياع الخبرات.

اقرأ المزيد: رحلة التحول الزراعي من التحدي إلى الابتكار عبر الإرشاد الزراعي

اقرأ المزيد: تكامل الأدوار في الإرشاد الزراعي.. نحو تنمية مستدامة وأمن غذائي متكامل

الإشكالية الكبرى: تأخر التعيينات وانقطاع التواصل 

من أبرز أسباب هذا التراجع هو تأخر التعيينات في قطاع الإرشاد الزراعي لسنوات طويلة. جيل الخبراء والمخضرمين، الذين أسهموا في بناء هذا المجال، تقاعد أو غادر الميدان دون أن يُتاح لهم الفرصة لنقل خبراتهم إلى الشباب. ومع غياب الكوادر الشابة، أصبحت الفجوة بين الأجيال أعمق، وضاعت خبرات تراكمت عبر عقود.

تأخر التعيينات يعني غياب الوجوه الجديدة القادرة على التواصل مع الفلاحين بلغة العصر. فالمرشد الزراعي اليوم ليس مجرد ناقل للمعلومة، بل هو صانع للتغيير، يحتاج إلى مهارات في التواصل واستخدام التكنولوجيا الحديثة التي تُحدث فرقا في حياة المزارع.

إن تأخر التعيينات في المؤسسات الزراعية والبحثية أدى إلى فجوة عميقة بين الأجيال. فجيل العظماء، الذين كانوا يمزجون بين الخبرة العملية والمعرفة النظرية، بدأ يبتعد عن الساحة إما بالتقاعد أو بالرحيل عن الحياة. ومع غياب آليات فعالة لنقل تلك الخبرات إلى الجيل الجديد، باتت المعلومات التي كانوا يحملونها أشبه بالجواهر المتناثرة في الهواء، ضائعة ومنسية.

هذا الانقطاع لا يقتصر على نقل المعلومات التقنية فقط، بل يشمل القيم المهنية، وروح الاجتهاد، والقدرة على الابتكار التي كان يتميز بها الجيل السابق. فقد كان جيل العظماء يحمل رؤية عميقة ويملك إحساسا قويا بالمسؤولية تجاه وطنه ومجتمعه، وهو ما نحتاجه اليوم لمواجهة التحديات المتزايدة في مجالات الزراعة والأمن الغذائي.

آثار الانقطاع على القطاع الزراعي 

الزراعة ليست مجرد مهنة، بل هي شريان حياة الأمم، وأي تراجع في هذا القطاع ينعكس على استقرار المجتمع ككل. انقطاع التواصل بين الأجيال أدى إلى:

1ـ فقدان الخبرة العملية: مع مرور الوقت، تواجه القطاعات المختلفة خطرا حقيقيا يتمثل في ضياع الممارسات العملية التي طورها الجيل السابق، والتي تستند إلى فهم عميق للعوامل البيئية مثل المناخ والتربة وظروف الزراعة المحلية. هذا الإهمال يعود في الأساس إلى غياب آليات فاعلة لنقل هذه المعارف من الخبراء المخضرمين إلى الأجيال الجديدة. إن عدم توثيق هذه التجارب ومشاركتها بشكل منهجي يؤدي إلى انقطاع التواصل المعرفي، مما يحرم الجيل الحالي من الاستفادة من خبرات عملية طويلة الأمد شكلت ركيزة أساسية للإنتاج والاستدامة. معالجة هذه القضية تتطلب جهوداً منظمة للحفاظ على هذا التراث العملي وضمان استمراره عبر الأجيال.

ضعف الإرشاد الزراعي: يعاني الإرشاد الزراعي، الذي كان يمثل العمود الفقري في دعم المزارعين وتحقيق التنمية الزراعية، من تراجع ملحوظ في دوره بسبب غياب الكفاءات المدربة القادرة على الدمج بين الخبرة العملية والمعرفة العلمية الحديثة. أدى هذا النقص إلى ضعف في تقديم الحلول المناسبة للتحديات الزراعية المتزايدة، وابتعاد المزارعين عن استخدام التقنيات المتطورة التي تسهم في تحسين الإنتاجية. إن إعادة بناء هذا القطاع الحيوي تتطلب الاستثمار في تدريب وإعداد كوادر جديدة تجمع بين التجربة الميدانية والفهم العميق للابتكارات الحديثة، لضمان عودة الإرشاد الزراعي إلى دوره المحوري في تعزيز استدامة القطاع الزراعي.

تكرار الأخطاء: يواجه الجيل الجديد تحديا كبيرا يتمثل في إعادة ارتكاب الأخطاء التي سبق أن عانى منها الجيل السابق، مما يؤدي إلى إهدار الوقت والجهد والموارد. يعود ذلك إلى غياب قنوات فعالة لنقل الخبرات والتجارب المتراكمة، ما يجعل الشباب وكأنهم يعيدون اختراع العجلة بدلا من البناء على أسس متينة تم وضعها من قبل. إن تفادي هذه الأخطاء يتطلب توثيقا منهجيا للمعارف السابقة وتوفير منصات تفاعلية تتيح للشباب التعلم من تجارب من سبقوهم، مما يمكّنهم من التركيز على الابتكار والتطوير بدلاً من الوقوع في نفس المعضلات.

كيف يمكن إعادة بناء جسور التواصل؟ 

إصلاح هذا الخلل يتطلب رؤية شاملة وإجراءات عملية:

1ـ إنشاء برامج لتوثيق الخبرات: يعد توثيق تجارب وخبرات الجيل السابق من خبراء الزراعة خطوة ضرورية للحفاظ على الإرث المعرفي وضمان انتقاله إلى الأجيال القادمة. ينبغي تسريع هذه العملية من خلال تصميم برامج متكاملة تشمل إعداد كتب متخصصة تسرد النجاحات والدروس المستفادة، وإنتاج فيديوهات تعليمية تعرض التجارب الميدانية بأسلوب جذاب وواضح، بالإضافة إلى تنظيم محاضرات وندوات حية تتيح للخبراء مشاركة خبراتهم مباشرة مع العاملين في القطاع والباحثين الجدد. هذه الجهود ليست مجرد حفظ للمعرفة، بل استثمار في تمكين الأجيال القادمة من مواجهة التحديات الزراعية برؤية مستندة إلى خبرة الماضي ومعطيات الحاضر.

2ـ دمج الأجيال في العمل الميداني وتفعيل التواصل بين الخبرات: لتحقيق تكامل حقيقي بين الأجيال في القطاعات المختلفة، ينبغي إطلاق برامج تدريبية مبتكرة تجمع بين الشباب الواعد والخبراء المتقاعدين. تهدف هذه البرامج إلى توفير منصة للتفاعل المباشر، حيث يشارك الخبراء معارفهم وتجاربهم العملية، بينما يقدم الشباب رؤى جديدة وحلولا مبتكرة مستندة إلى أحدث التقنيات. يمكن تنفيذ هذه البرامج من خلال ورش عمل ميدانية، جلسات إرشاد فردية، ومبادرات تعاونية تُنفذ على أرض الواقع. يضمن هذا النهج تعزيز المعرفة المشتركة ونقل الخبرات بشكل مباشر، مما يسهم في بناء قاعدة قوية من الكفاءات القادرة على مواصلة مسيرة التقدم والتنمية المستدامة.

3ـ تعزيز الإرشاد الزراعي: يتطلب إعادة هيكلة قطاع الإرشاد الزراعي بشكل يجعله حلقة وصل حقيقية وفاعلة بين المزارعين والخبراء، بما يضمن تدفق المعرفة الحديثة والتقنيات المتطورة إلى الحقول الزراعية. يشمل ذلك تحديث منظومة العمل الإرشادي، وتأهيل الكوادر البشرية المختصة، وتطوير وسائل الاتصال المباشر مع المزارعين لتقديم حلول عملية ومبتكرة تُعزز الإنتاجية وتواجه التحديات الزراعية بكفاءة. هذه الخطوة ليست مجرد تحسين إداري، بل هي استثمار في مستقبل الزراعة وضمان لدور الفلاح كشريك أساسي في تحقيق التنمية الزراعية المستدامة.

4ـ تفعيل سياسات توظيف الشباب: يتطلب الإسراع بتعيين الشباب في القطاعات الحكومية والمؤسسية نهجا مدروسا يضمن تحقيق العدالة والشفافية في اختيار الكفاءات بعيدا عن أي محسوبيات. يجب أن تتم التعيينات وفق خطط استراتيجية تشمل تحديد الاحتياجات الفعلية لكل قطاع، مع وضع معايير واضحة لإعطاء كل ذي حق حقه. بالإضافة إلى ذلك، ينبغي التركيز على تأهيل الشباب وتدريبهم على أحدث التقنيات والأساليب العملية، لضمان دمجهم بسلاسة في سوق العمل وتطوير قدراتهم بما يتماشى مع متطلبات العصر. تهدف هذه السياسات إلى سد الفجوات الوظيفية، وتعزيز تواصل الأجيال لضمان استمرارية التنمية وتحقيق التكامل بين الخبرات المتراكمة والطموحات المستقبلية.

5ـ تقدير قيمة المرشد الزراعي: يتطلب إعادة الاعتبار لدور المرشد الزراعي باعتباره عنصرا محوريا في تحقيق التنمية الزراعية المستدامة. يجب أن يتم ذلك من خلال تحسين أوضاع العاملين في هذا القطاع على المستويين المادي والمعنوي. يشمل ذلك توفير رواتب عادلة تتناسب مع الجهود المبذولة، وإتاحة فرص للتدريب والتطوير المستمر، إلى جانب الاعتراف المجتمعي بقيمة هذا الدور الحيوي. كما ينبغي تعزيز بيئة العمل لتكون محفزة وداعمة، بما يضمن استمرارية الأداء المتميز ويشجع الكفاءات على الانخراط في هذا المجال المهم.

6ـ تحديث أدوات الإرشاد: يتطلب النهوض بقطاع الإرشاد الزراعي تبني التكنولوجيا الحديثة كجزء أساسي من تطوير منظومته. يمكن تحقيق ذلك من خلال استخدام التطبيقات الرقمية المتخصصة التي تُتيح للمزارعين الوصول إلى المعلومات والإرشادات بسهولة وسرعة، بالإضافة إلى توظيف قنوات التواصل الإلكتروني مثل المنصات التفاعلية والوسائل الإعلامية الرقمية لنقل المعرفة بشكل أكثر فاعلية. هذه الأدوات تساهم في تقريب المسافات بين الخبراء والمزارعين، وتوفر حلولاً آنية للتحديات الزراعية، مما يعزز الإنتاجية ويواكب تطورات العصر في مجال الزراعة الذكية والمستدامة.

لا نهضة بدون تواصل الأجيال

انقطاع حبل التواصل بين جيل العظماء والجيل الحالي ليس مجرد مشكلة تنظيمية، بل هو تهديد لمستقبل الزراعة والتنمية. علينا جميعًا أن ندرك أن الخبرات المتراكمة هي إرث وطني لا يمكن التفريط فيه. إذا أردنا أن نحقق نهضة حقيقية، فعلينا أن نعيد بناء هذا الجسر بين الأجيال، وأن نعمل على استعادة ما فقدناه من تراث معرفي وروحي، ليكون منارة للأجيال القادمة.

الإرشاد الزراعي مستقبل الأمن الغذائي 

الإرشاد الزراعي ليس مجرد مهنة، بل هو رسالة محورية لضمان استدامة الإنتاج الزراعي وتأمين الأمن الغذائي للأجيال القادمة. تجاوز التحديات التي تواجه هذا القطاع يتطلب إدراكا عميقا بأن الوقت ليس في صالحنا. إن إعادة النهوض بالإرشاد الزراعي هي مسؤولية مشتركة تتطلب تضافر جهود أصحاب القرار، والكوادر العلمية والبحثية، والمجتمع المدني. لتحقيق ذلك، لا بد من وضع خطط استراتيجية والعمل بجدية لضمان ارتباط الفلاح المصري بالعلم والمعرفة، وتمكينه من استغلال أرضه بأفضل الطرق الممكنة لتحقيق إنتاجية مستدامة ومتميزة.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى