رأى

غياب الدعم الفني للفلاح البسيط: لماذا لا تنجح زراعة النباتات البديلة في القرى؟

بقلم: د.شكرية المراكشي

الخبير الدولي في الزراعات البديلة ورئيس مجلس إدارة شركة مصر تونس للتنمية الزراعية

في القرى البعيدة، حيث تشرق الشمس على أراضٍ عطشى تنتظر وعد الحصاد، يقف الفلاح البسيط وحيدًا في وجه عالم معقّد. بين يديه حفنة من بذور الأمل، وفي قلبه رغبة حارقة في أن يغيّر مصيره بيده. لكن الأرض لا تستجيب دومًا لمن يحرثها، بل لمن يفهم لغتها. وزراعة النباتات البديلة – تلك التي تُبشّر بإنقاذ المستقبل الزراعي والغذائي – لا يمكن أن تنمو في تربة الجهل، ولا أن تثمر وسط عزلة الفلاح عن المعرفة والدعم.

في هذا الواقع، تغيب يد الدولة حين يحتاجها أكثر من غيره. لا إرشاد زراعي حقيقي، ولا تدريب ميداني يواكب التحديات، ولا منظومة فنية تعترف بحاجات الريف المتغيّرة. الفلاح البسيط لا يملك سوى تجربته الشخصية، التي غالبًا ما تكون محدودة وموروثة، يصارع بها أمراض التربة، وعناد المناخ، وتقلّبات السوق. وحين تظهر فكرة “الزراعة البديلة” كخلاص اقتصادي وغذائي، يجد نفسه أمام مشروع لا يفهمه، وبذور لا يعرف كيف يزرعها، وتقنيات لا يمتلك أدواتها، ولا مَن يرشده إليها.

المشكلة أعمق من مجرد نقص في المعرفة. إنها حالة غياب مؤسسي كاملة، حيث تتخلى السياسات العامة عن دورها في دعم المجتمعات الزراعية، وتُترك القرى تتخبط وسط عشوائية المشهد. لا خارطة واضحة للزراعات البديلة، ولا متابعة حقيقية للتجارب، ولا قاعدة بيانات تبني عليها الأجيال التالية. فقط شعارات تُطلق من خلف المكاتب، ومبادرات تموت في مهدها.

وسط هذا الغياب، تتشابك خيوط اجتماعية معقّدة: الخوف من الفشل، التمسّك بالقديم، نفوذ بعض العائلات في الجمعيات الزراعية، وفوق كل ذلك، الإقصاء المستمر للفلاح الذي لا يملك علاقات أو “واسطة”. يُنظر له كرقم في تعداد سكاني، لا كشريك في الأمن الغذائي. وكلما حاول التقدم، شدّه الواقع إلى الخلف.

إن الزراعة البديلة في القرى ليست مسألة فنية فقط، بل هي مرآة لعجز أوسع، تتقاطع فيه السياسة بالتنمية، والجهل بالحلم، والحق في المعلومة بالواقع الذي يُقصي الضعفاء. فلا عجب إذًا أن تجف الحقول قبل أن تُزهر، وأن تموت البذور قبل أن تُروى، ما دامت يد الفلاح تمتد للمعرفة ولا يجد من يمدّها إليه.

صوت الأرض.. فلاح الكينوا

الفصل الأول: الحقول التي تنتظرالزرعة اللي كسرت الصمت

كان الفجر يتسلّل ببطء فوق قرية “الحجيرات” في قلب صعيد مصر، يخطّ ضوءه الخافت على سطوح الطين والنخيل، يوقظ الدجاج من غفوتهم، ويعي د للهواء حكايات الأمس التي لم تكتمل. القرية كما هي، لم تتغيّر. نفس الشوارع الضيقة المتربة، نفس الوجوه المُثقلة بصبر السنين، ونفس الحقول التي تنتظر شيئًا لا تعرف اسمه.

هنا، لم تعُد الأرض تعطي كما كانت، ولا المطر يعرف طريقه إلى البذور. أغلب الشباب شدّوا الرحال إلى المدن البعيدة أو عبروا البحر… بعضهم رجع بجهاز موبايل وآلاف الجنيهات، وبعضهم رجع في صناديق خشب. أما الكبار، فقد جلسوا على المصاطب، يتأملون المحاصيل الضعيفة، ويردّدون: “الدنيا اتغيّرت، والزراعة باظت.”

في بيت بسيط على طرف القرية، جلس الحاج عبد الستار، يوزّع الشاي على أولاد عمّه، بينما يدور النقاش ككل يوم جمعة بعد الصلاة. قال عبد التواب، وهو ينفخ في كوبه الساخن: سمعتوا عن الزرعة الجديدة اللي بيقولوا عليها؟ كينوا… كينوا ولا كنافة. ضحكوا جميعًا، لكن الحاج عبد الستار لم يضحك. قال بهدوء: ـــاسمها كينوا. سمعت عنها. بيقولوا صحّية وبتستحمل الجفاف، وسوقها كبير برّه.

ردّ عليه فؤاد، وهو يهز رأسه:  يعني إحنا ناقصين تجارب؟ ما فيش حاجة بتمشي إلا بإذن الحكومة. ما حدّش يزرع إلا لما ييجي قرار! وهنا ظهر الخوف، ذاك الشعور الذي يربط أقدام الجميع إلى أرض قديمة، خوف من التغيير، من الغلط، من أن يخسر الفلاح القليل الذي عنده. لم يكن أحد يثق بأي مبادرة، خصوصًا لو ما كانتش جاية من موظف عنده ختم الدولة.

النقاش انتهى كما بدأ: لا جديد تحت شمس القرية. لكن في عيون الحاج عبد الستار، لمعة صغيرة لم يرها أحد. لمعة تشبه تلك التي كانت تضيء عينيه عندما كان شابًا… لمعة فيها فضول، وخطر، وربما… بداية كسر الصمت.  الحقول ما زالت تنتظر. تنتظر من يجرؤ.

الفصل الثاني: الحاجز غير المرئي
اللي شايفين الحلم، بس مش قادرين يلمسوه

اجتمع الفلاحون في مضيفة الحاج عبد الرازق، كبيرهم، كما تعوّدوا في مواسم الجفاف، حين تنكسر البوصلة، ويضيع الطريق. كانت الجدران الملبّدة بالدخان، ورائحة القهوة الثقيلة، تشهد على اجتماع يختلط فيه الغضب بالخذلان، والأمل بالتحفّظ.

“عايزين نزرع كينوا؟ يعني نسيب القمح؟!” قالها عم صبري، وهو يشبك أصابعه كأنه يحبس الفكرة بين يديه.
ردّ عليه سليمان، وقد ارتفعت نبرة صوته قليلًا: “بيقولوا بتتكيف مع التربة الرملية، ومربحة!”
“فين الدعم؟ وفين اللي يقولنا نزرعها إزاي؟” سأل عوف، متكئًا على عصاه وكأنه يسند جسده من ثقل سنين التجارب الخاسرة.

هزّ الحاج عبد الرازق رأسه، وصوته خرج كأنه يُنطق باسم الجميع:
– “الحكومة سايبة الحبل على الغارب. لا إرشاد، ولا مهندسين، ولا حتى يوم تدريب واحد. هنهبّبها ونضيع لقمة عيالنا؟”

كانوا يعرفون تمامًا عمّا يتحدث. المرشد الزراعي الذي كان يومًا يسير بينهم، صار حبيس المكتب في “الجمعية الزراعية”، يُوقّع الأوراق ويملأ الملفات، لا يعرف الفرق بين ملوحة الأرض وملوحة العرق على جبين الفلاح. لم يعُد أحد يأتي إليهم ليسأل: “زرعتوا إزاي؟ حصل إيه؟ نبدأ منين؟”
المهندس الوحيد الذي جاء قبل سنوات، اكتفى بإلقاء كتيب مطبوع بلغة معقّدة، ثم اختفى كما جاء، وتركهم في مهبّ الحيرة.

“الجمعية الزراعية؟” قالها فؤاد وهو يضحك بسخرية.
– “دي بتاعة فلان وعلان، اللي بيصرفوا السماد لأصحابهم، والباقي يلف ويدوخ على توقيع. وعود وعود، واللي ما عندوش واسطة يزرع بصباعه.”

سكت الجميع. وكأنهم اتفقوا أن الفكرة حلوة… بس مش ليهم. الفقر علّمهم يكونوا حذرين. والخوف من المغامرة، هو السور الخفي اللي ما حدّش شايفه بس الكل بيخاف يقفز من فوقه.

لكن في آخر الصف، جلس شاب في أواخر الثلاثينات، لابس جلابية رمادية، وعيونه تلمع بشيء مزيج من الحذر والفضول. اسمه حسن، ابن ربيع. فلاح ابن فلاح، قلبه دايمًا في الأرض، بس عقله دايمًا بيدور. كان يسمع، ولا يتكلم. يرصد، ولا يقاطع.
خرج من المضيفة ساكتًا، لكن في قلبه حاجة بدأت تتحرك.

ربما لم يكن الحاجز أمامهم هو الأرض أو البذور أو حتى السوق. ربما الحاجز الحقيقي… في مكان تاني.

الفصل الثالث: حسن… وتلك البذرة الأولى
حين تتكلم الأرض بلغة من يؤمن بها

كان حسن ابن ربيع، فلاح بسيط لم يمتلك يومًا أكثر من فدّانين، يقاتل فيهم سنويًا بين قمح لا يروي، وشمس لا ترحم، وسوق لا يعترف بجهد الفقراء. لكن حسن، ومنذ صغره، كان غير باقي أولاد القرية. لم يكمل دراسته، لكنه تعلّم بالمراس؛ لا من الكتب، بل من التجريب، من الإصغاء لكل من يعرف أكثر، ومن تتبع ما يسمعه في الإذاعة القديمة عن زراعة بديلة، وأسواق جديدة، ومحاصيل “مش تقليدية”.

حين غادر مضيفة الحاج عبد الرازق ذلك المساء، لم ينام كالباقين. كان الليل كله أمامه دفتر أسود، يرسم فيه مسارات مياه، ويحسب تكاليف، ويقارن بين القمح الذي بالكاد يسد ثمن السماد، وبين الكينوا، تلك النبتة الغريبة التي قيل إنها تحب التربة الرملية، وتعيش على القليل… مثله تمامًا.

في صباح باكر من أيام  اكتوبر، شد الرحال إلى المدينة. حمل معه حفنة من تراب أرضه، لا لشيء إلا ليضعها على طاولة الشركة التي قرأ عنها مرارًا: شركة “م.ت”. لم يكن لديه وساطة، ولا توصية من نائب برلماني، فقط عزم شاب جف ريقه من كثرة الانتظار.

قابل المهندس كريم هناك، شاب مثله، لكنّه كان يملك علمًا لا أرضًا. حين وضع حسن التراب على الطاولة، قال له:
– “دي أرضي… مش غنية، بس بتحب اللي يحبّها. تنفع للكينوا؟”
ابتسم المهندس وقال:
– “تنفع… بس أهم حاجة: إنت تنفع لها؟”
ردّ حسن بثقة نادرة:
– “أنا مش عايز دعم. عايز حد يقوللي أزرع إزاي… والباقي عليّا.”

وافقوا على منحه دعما فنياً كاملاً من الشركة: إرشاد ميداني، زيارات منتظمة، توفير بذور محسنة، وتحاليل تربة ومياه. لم يصدق حسن نفسه. في زمن يُدار فيه كل شيء من فوق الطاولة وتحتها، حصل على فرصة لأنه فقط، آمن بما يفعل.

بدأ الزراعة في أول نصف فدان، في آخر طرف الأرض، على استحياء كأنه يختبرها وتختبره. لم تمضِ أسابيع حتى بدأ أهل القرية يمرون بجوار أرضه، يتوقفون، يرفعون حاجب الدهشة.

“هي دي الكينوا؟ شكلها زي الرجلة!”
“ما بتكبرش ليه؟”
“دي شغل خواجات، مش لينا.”
“هيعيش بيها؟ ولا يبيعها فين؟ السوق مش بتاعها.”

بعضهم سخر، وبعضهم راقب في صمت. كأن الأرض صارت مرآة تكشف نواياهم. لكن حسن لم يتراجع. كان كل فجر يقف أمام نبتته الصغيرة، يحدثها كأنها شخص حي:
– “اصبري… وأنا هصبر معاكي.”

وفي الوقت الذي كان فيه الجميع ينتظر فشله كمن ينتظر سقوط جدار مائل، كانت الجذور تمسك بالأرض بإصرار، وكانت الكينوا تشقّ طريقها للأعلى، بهدوء… وبعزيمة فلاح لا يؤمن إلا بما يصنعه بيده.

وفي القرية… بدأت همسات جديدة تنبت بجانب الحقول.

الفصل الرابع: من يملك الأرض يملك الصوت؟
حين تصبح الزراعة معركة نفوذ لا مهارة

في ظهيرة قائظة، كان حسن  ووالده ربيع واقفان أمام مكتب الموظف في الجمعية الزراعية، يمسك حسن  استمارة تسجيل محصوله الجديد بيد، ويضغط بالأخرى على عصاه الخشبية، محاولًا كبح غضبه.

– “المحصول ده جديد، وعايز أسجله عشان أقدر آخد حقّي زي الناس.” نظر إليه الموظف بنصف عين، ورفع حاجبه بتكاسل وقال:  “ـــــإنت زارع إيه؟ كينوا؟ دي مش في الجدول. إحنا ماعندناش تعليمات عنها.”
– “بس الحكومة قالت بتدعم الزراعة البديلة، والشركة ساعدتني، و…”قاطعه الموظف بضحكة قصيرة: ما تقلقش يا عم ربيع، إحنا معاك خطوة بخطوة… بس في محاصيلنا، وفي محاصيل وناس!”

لم يفهمها حسن  أول مرة. لكنه حين رأى أوراق فلاح آخر تُوقّع بلا تأخير، رغم أنه زرع نفس المحصول، فهم كل شيء. الآخر كان “صاحب أرض كبيرة”، مقرب من عضو المجلس المحلي، وله حضور في كل مناسبة انتخابية.

خرج حسن ووالده  من المكتب ورائحة الورق الساخن تطارده، ورأسه يضج بأسئلة: ليه الدعم ما يوصلش للي يستحق؟ ليه النجاح يترهن بالصلات، مش بالكفاءة؟

في المقابل، كان حسن يواصل طريقه بشغف صامت.
“ما تقلقش. إحنا معاك خطوة بخطوة. هنمدك بالبذور المناسبة، وجدول ري، وخطة تسميد، وهنزورك أسبوعيًا نتابع المحصول.” قالها له المهندس كريم في أول لقاء، وأوفى بها.

رجع حسن من زيارته بحماس غير مسبوق، فزرع نصف فدان أيضًا، اتبع التعليمات بالحرف، جرب أنواع بذور، قاس ملوحة التربة، وركّب نظام تنقيط عشان ما يضيّعش مية.

لم يكن حسن يملك رأس مال كبير، لكنه امتلك شيئًا لا يُشترى: الجرأة. بدأ بزراعة نصف فدان فقط. في البداية، سخر منه البعض: “ــــربيع وحسن  بيزرعوا كينوا؟ هما فاكرين  نفسهم في أمريكا؟!”

لكنهما  لم يلتفتا. ظلا يزرعان ويسقيان حسب تعليمات المهندس، و حسن يدوّن كل ملاحظة في كراسته الصغيرة، يضعها في جيب جلبابه.  “بس خلي بالك… الكينوا ليها مواعيد محددة للزراعة، وتتحسس جدًا من الإفراط في المياه، ولازم تتعالج من الحشائش أول بأول.”نصائح المهندس يرن صداها في اذنيه.

لكن ما لم يعرفه حسن ولا ربيع، هو أن النجاح وحده لا يكفي إن لم يكن لك “ظهر”.

بعد أن رأى الفلاحون نجاح ربيع وحسن، قرروا تقليدهما، لكنهم لم يسألوا، لم يتدرّبوا، ولم يستشيروا. اشتروا بذورًا من السوق، بعضها مغشوش، والبعض الآخر غير مناسب لطبيعة الأرض. زرعوا في تربة طينية، وسقوا بالماء الغزير كما يفعلون مع القمح. دون دعم فني، ودون تدريب.

لكن الحقيقة؟ لم تروها الأرض، بل رواها من يملك الأرض… ويملك الصوت.

حين جفّت أوراق النبات، واحترق نصف المحصول، بدأوا يهمسون:
– “الزراعة دي فاشلة.”
– “ما تنفعش في بلدنا.”
– “حسن ضحك علينا.”

الفصل الخامس: موسم الخسارة الجماعية
حين تصبح التجربة تهمة، ويُجرّم النجاح

كان الموسم قد بلغ ذروته، والشمس تقسو على الحقول كأنها تختبر عزيمة كل من فيها. في القرية، بدأت الحكاية تنقلب.

مرت الأسابيع، وجاءت النتيجة مريرة: نباتات ضعيفة، حبوب قليلة، وانتشار للحشائش بشكل لم يعرفوه من قبل.
“الكينوا دي خيبة!” قالها أحدهم وهو ينزع جذورًا ذابلة.

لكن بدلًا من الاعتراف بالخطأ، وُجّهت السهام نحو ربيع.

بدأت الهمسات في الدكاكين والمقاهي:
– “هو ليه محصوله نجح وإحنا خسرنا؟”
– “ما يمكن بياخد دعم من برّه؟!”
– “بيقولوا بيتعامل مع شركة أجنبية… يمكن بيشتغل لحسابهم!”تحوّلت الهمسات إلى إشاعات، والإشاعات إلى شكوك رسمية.وذات صباح، جاءه استدعاء رسمي من مركز المدينة: “الرجاء حضور مالك الارض للتحقيق بشأن زراعة صنف غير مرخّص.”

انكمشت الورقة في يد ربيع ، شعر بأن الأرض التي بدأ يحبها من جديد تسحب نفسها من تحته.

في مركز التحقيق، سألوه ببرود: “ــ مين قالك تزرع الكينوا؟ عندك موافقة مكتوبة؟”
– “كانت تجربة. كل اللي عملته زرعت أكل لأولادي.” لكن لم يكن ذلك كافيًا. في الورق، لا يُعترف بالشغف ولا بالنية الطيبة. خرج ربيع  من التحقيق مرهقًا، يحمل في قلبه خيبة لا تشبه خيبة المواسم… بل خيبة وطن لا يحتفي بالزراع إلا في الصور.

أما حسن، فراقب كل ما يحدث في صمت، وكان يدرك أن البذرة لا تنمو فقط في التربة، بل تحتاج أرضًا لا تطرد الناجحين.

الفصل السادس: صراع الحقول والمكاتب
حين يعلو الغبار على الملفات، وتُطوى الحقيقة في الأدراج

دخل ربيع مبنى المديرية الزراعية في المدينة بجلابيته النظيفة، وحذائه المغطى بغبار الأرض. لم يكن يعرف في أي طابق يختبئ حقه، ولا في أي درج تُدفن الحكايات.

في غرفة التحقيق، لم يكن هناك ترحيب، فقط أوراق صفراء على مكتب متهالك، وموظف يسأله بأسلوب آلي:
– “فين موافقة الزراعة؟ فين الموافقة على الصنف؟ فين العقد مع الشركة؟”

هز ربيع كتفيه وقال:
– “أنا مش فلاح ورقي… أنا فلاح تراب ومية!”

ابتسم الموظف سخرية، وكتب شيئًا في الملف، ثم رماه جانبًا. دخلت لجنة من ثلاثة موظفين ببدلات رسمية وروائح معقمة لا تشبه الحقل. ـــ”اللجنة هتراجع الوضع الميداني، ونرجعلك.”

مرت أيام، ولم يرجع أحد.

أما حسن، فلم يسكت. توجه بنفسه إلى مقر شركة “م.ت”، وسلّمهم نسخة من الاستدعاء.
المهندس المسؤول قال بهدوء:
– “إحنا موقعين عقود رسمية، ومشروعنا مرخّص على مستوى المحافظة. عندنا برنامج دعم فني موثق، ومحصول حسن ربيع ضمن التجربة الأولى.”
ثم ناوله ملفًا مرتبًا، مختومًا، يحمل توقيع الشركة وموافقات وزارة الزراعة.

في جلسة التحقيق التالية، انقلب الموقف. عرض حسن العقود والوثائق أمام اللجنة، فبدأت ملامحهم تتبدل:
– “واضح إن في سوء تفاهم…”
– “كان المفروض يتم التنسيق بشكل أوضح بين الإدارات المعنية…”
– “سنتابع الموضوع عن كثب.”

لكن جسن  ربيع لم يكن ينتظر اعتذارًا، فقط أراد أن يُزرع حقه كما زرع كينواه.

في نفس الأسبوع، انتشرت القصة في إحدى الصحف الإقليمية تحت عنوان:
فلاح يسبق الحكومة.. وينجو من فخ البيروقراطية!”

وبدأ صحفيون يتوافدون إلى القرية، يبحثون عن حسن، عن ربيع، عن الحقل الذي أصبح عنوانًا للصراع بين الواقع والطموح……وكانت البداية فقط.

الفصل السابع: الحصاد
حين تتحول البذور إلى ملامح نصر، وتنهزم الأسوار القديمة أمام شمس التجربة

كان الصبح مختلفًا. ليست شمس مارس  وحدها ما أشرقت، بل وجوه الفلاحين الذين اصطفوا على حدود حقل ربيع.
حسن يمشي بين السنابل الملونة بلون الذهب الباهت، يقطع رأس كل نبتة كينوا بشيء من الاحترام، كأنها قصة لا تُقطف، بل تُختم.

قال أحد الفلاحين وهو يراقب المشهد:
– “يعني الكينوا فعلاً نجحت؟!” رد عليه آخر، نصف مندهش، نصف معترف:
– “الراجل تعب، واشتغل بعلمه… مش بعشم الجمعية!”

في أول شونة قُرب الحقل، جمع ربيع أكياس المحصول. لم تكن كثيرة، لكنها كانت نقية، ممتازة، مطابقة للمواصفات.  شركة “م.ت” استلمت الكمية، وسددت أول دفعة فورًا.  لم يكن الرقم كبيرًا، لكنه كان كافيًا ليصنع صوتًا جديدًا في القرية.

وبدأ الفلاحون يتقاطرون على بيت ربيع.
– “ممكن نزرع معاك السنة الجاية؟”
– “تعلمنا الدرس… نشتغل صح ولا ما نشتغلش خالص.”

هنا، اقترح حسن:
– “ليه ما نكوّنش رابطة؟ رابطة فلاحين للزراعات البديلة… نتحرك كيان واحد، نطالب بالتدريب، ونفتح سوق جماعي؟”

رحّب الجميع بالفكرة، وبدأت الاجتماعات الأولى تحت شجرة سدر قديمة، كانت يومًا ظلًا للكسل، وأصبحت الآن مقرًا للفكرة.

الخبر وصل للجمعية الزراعية. لم يكن لديهم خيار.
تحت ضغط الصحافة، وزيارات المحافظ المفاجئة، وعريضة موقّعة من عشرات الفلاحين، أعلنوا عن أول دورة تدريبية للزراعات غير التقليدية.

وفتحت الجمعية أبوابها، لا حبًا في الزراعة، بل خوفًا من أن تُغلق تمامًا. ربيع، من جهته، لم يقل شيئًا كثيرًا. فقط نظر إلى ابنه حسن، وقال: ” ــــ دي مش آخر زراعة… دي أول خطوة.”  وحين سألته امرأة عجوز:
– “يعني بقى فيه أمل؟” رد بابتسامة ترابية: ” ــ  لما نزرع بوعينا، نحصُد بإيدنا… وساعتها، الأمل بييجي لوحده.”

الفصل الثامن: الأرض تتكلم من جديد
حين تستعيد الأرض لغتها، ويتعلم الناس أن الاستماع أحيانًا أهم من الكلام

في صباح خريفي ناعم، دقّت عصا حجازي الكبير – صاحب أكبر أراضي القرية – على بوابة بيت ربيع.
لم يكن أحد يتوقع أن يأتي بنفسه. رجلٌ طالما اعتُبر “معلّم الأرض”، لا يسأل، بل يُسأل.

فتح حسن الباب، وبالكاد صدّق ما رأى. دخل حجازي، نظر في عيون ربيع وقال:
– “أنا جيتلك تطلبني خدمة.”
– “خير يا عم حجازي؟”
– “عايز أزرع كينوا.”

سكت ربيع لحظة، ثم ابتسم.
لم يكن في الأمر شماتة، بل شيء يشبه المصالحة المتأخرة.
قال له بهدوء:
– “إحنا هانبدأ من الصفر… مش مهم إنت مين، المهم تكون ناوي تشتغل صح.”

لم تكن تلك الحكاية وحدها. على أطراف القرية، بدأت التغيرات تُرى بالعين المجردة:
نظام ري بالتنقيط في أرض صغيرة لواحد من شباب القرية العائد من المدينة.
حقل آخر جرّب الزراعة المختلطة بين الكينوا والفول البلدي.
بيت قديم يُستخدم اليوم كمقر مؤقت لتدريب الفلاحين الجدد.

حتى “وردة”، الفتاة التي كانت تعمل في مصنع ملابس بالقاهرة، عادت لتساعد والدها في زراعة محصوله الجديد.
قالت وهي تنقل صناديق البذور:
– “فيه كرامة في إنك تشتغل في أرضك… أكتر من ألف ترقية في مصنع ما يشوفش فيك غير رقم.”

وفي نهاية الموسم، وقف ربيع عند حد فدانه.
كانت الشمس تميل ناحية الغروب، والأرض مبلولة بندى المساء.
أخذ نفسًا عميقًا، ومد يده يلمس سنابل الكينوا كأنها وجوه أولاده.

تمتم بصوت خافت، فيه نبرة فخر:
– “مش كنت عايز أحصد كينوا… بس حصدت احترام كمان.”

وفي البعيد، كانت الأرض ترد عليه بصمتٍ يشبه الاعتراف: اللي يسمع صوتي… عمره ما يخسر.”

البعد السياسي والاجتماعي

في خلفية الحكاية، كان هناك ما هو أعمق من زراعة حبة كينوا أو نجاح تجربة فردية. كان هناك حقل آخر، أشد تعقيدًا، يُزرع فيه الخوف والتردد والتفرقة، ويُروى بالبيروقراطية العمياء. لم تكن معاناة ربيع فقط من تربة تحتاج إصلاحًا أو بذور تحتاج رعاية، بل من منظومة أعمق، تمتد جذورها في الإدارات والمكاتب، حيث تُقبر الأحلام في ملفات بلا توقيع.

الفساد الإداري المحلي لم يكن وحشًا له وجه واحد، بل كان مثل السرطان، ينتشر في تفاصيل صغيرة: موظف الجمعية الذي يرفض تسجيل محصول لمجرّد أن صاحبه ليس من “المقربين”، أو لجنة تمر مرور الكرام على أرض ما، بينما تتجاهل أرضًا أخرى فقط لأن صاحبها “ما عندوش ظهر”. في هذا الواقع، لم يكن النجاح متعلقًا بالكفاءة أو الاجتهاد، بل بمدى قربك من الكرسي، لا من الأرض.

أما المجتمع الريفي، فكان يعيش صراعًا داخليًا أعمق مما يظهر على السطح. بين جيل يرى في الزراعة ميراثًا مقدّسًا لا يُمسّ، وآخر يحلم بالفرار منها نحو أفق جديد، جاء حسن  ربيع ككائن غريب، يزرع نباتًا لا يعرفونه، ويستخدم أساليب لا يعترفون بها. وكانت كل خطوة له، وكأنها حجر يُلقى في ماء راكد منذ عقود. المحافظون لم يروا في الكينوا مجرد نبات، بل تهديدًا لنمط حياة يظنون أنه يجب أن يبقى كما هو.

وسط كل هذا، كانت المعلومة تُعامل كما تُعامل الكنوز. من يعرف متى تُزرع الكينوا؟ من يعرف نوع التربة المناسب؟ من يمتلك جدول التسميد المثالي؟ هذه المعلومات لا تُنشر، ولا تُدرّس، بل تُتداول همسًا بين قلة قليلة. وكأن المعرفة في حد ذاتها لم تكن حقًا، بل سلطة.

وكانت تلك السلطة تُمارَس بوحشية، حين يصبح الدعم الفني حكراً على “أولاد الجمعية”، أو حين تُوجّه البذور والتدريبات إلى أسماء بعينها، دون سواهم. الكفاءة لا تكفي، والاجتهاد وحده لا يُكافأ. المحسوبية هي القانون، والعلاقات هي العملة التي لا تبور.

وفي قلب هذا الظلم كله، كانت العدالة المعرفية غائبة. ليست المشكلة فقط أن الدعم لا يصل، بل أن بعضهم لا يعرف أصلًا أن هناك دعمًا موجودًا. القرار يُتخذ في الأعلى، والمعلومة تُحجب في الأسفل. وهكذا، من يملك المعلومة يملك القرار، ويملك مصير الأرض أيضًا.

تحت هذه الطبقات المتشابكة من الظلم والصمت والخوف، كانت قصة حسن ربيع. لكنها لم تكن قصته وحده. كانت قصة كل من قرر أن يسمع صوت الأرض، لا صوت المكاتب. وكل من آمن أن الزراعة ليست فقط ما نزرع، بل كيف نعيش.

🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى