رأى

عن المكافحة الحيوية.. دعوة مُخلصة لوزير الزراعة (1)

أ.د/منيرة محمد

بقلم: أ.د/منيرة محمد الفاتح

رئيس بحوث بمعهد وقاية النباتات – مركز البحوث الزراعية

قبل أن تسحبنا أمواج بحر المبيدات عبر سفن غير آمنة لشاطئ غير آمن لأنها ببساطة لم تتمكن من تأمين نفسها من الغش والتجارة غير الشرعية والتأثيرات غير المرئية وتبعات الراكد منها عبر السنين في مخازن تنتظر حلولا عاجلة وآمنة وبرامج توعية للأمناء عليها الذين ورثوها رغما عنهم حتى لا تتحول الى خطر كارثي في وجه بيئتنا، وقبل أن تسحبنا هذه الأمواج أيضا من تخصصاتنا البحثية لنعمل بكامل طاقتنا في ملف المبيدات على حساب ملفات أخرى بالغة الأهمية.

أدعو معالي وزير الزراعة واستصلاح الأراضي السيد القصير الى التوسع في برامج المكافحة الحيوية للآفات الزراعية باستخدام الأعداء الحيوية من المفترسات والطفيليات  لتحسين فرص المنافسة للمنتج الزراعي المصري في الأسواق العالمية وتقديم منتج زراعي صحي للمستهلك في الأسواق المحلية، ولتكن البداية بالتوسع في تطبيق فكرة معامل انتاج طفيل الترايكوجراما ودعمها لتتجاوز التحديات التي تواجهها حتى تعمل بكامل طاقتها حيث تشهد التقارير الصادرة عن مجلس المحاصيل السكرية بـوزارة الزراعة بنجاح هذا الطفيل في خفض نسبة الإصابة بحشرات الثاقبات بمعدلات فاقت نسبتها الـ85% وهي نسبة رائعة دونما الاحتياج إلى استخدام أي من المبيدات الكيماوية ونتمنى ان لا يتم دخول مبيدات على محاصيل كهذه ثبت الاستخدام المستدام للأعداء الحيوية عليها بنجاح وتأمينها من سموم المبيدات المغشوشة.

كما ادعوه أيضال لدعم كل الحلول البديلة الآمنة الأخرى والتي ينقصها العمل في إطار استراتيجية متكاملة تضعها الدولة للخروج بتوصيات معتمدة يسهل تطبيقها.

وجدير بالذكر ان فكرة تدشين معامل انتاج طفيل الترايكوجراما ضمن خطة الوزارة لمكافحة ديدان اللوز التي يصل عددها  الى 15 معملا كان قد بدأها وزير الزراعة الأسبق الدكتور يوسف والي بعدما لاحظ نجاحها في عديد من الدول العربية وكان يحلم أن تطبق في كل جمعية زراعية في ربوع محافظات مصر وبرغم التحديات الكثيرة التي تعيق تفعيل هذه المعامل بكامل طاقتها تظل نتائجها شاهدة على أنها فكرة جديرة بالتوسع والمحاكاة على كل عناصر المكافحة الحيوية الواعدة من مفترسات وطفيليات لمكافحة آفات المحاصيل الزراعية التي يناسبها هذا الحل الآمن بسيط التكاليف في اطار خطة قومية تتبناها وزارة الزراعة واستصلاح الأراضي بشكل يحقق استدامتها في البيئة المصرية بعدما طالتها هي أيضا آثار الاستخدام غير الرشيد للمبيدات.

فبالإضافة الى الدور التكاملي الذي ستلعبه هذه الكائنات الصغيرة الذكية بجانب المبيدات الكيميائية في مكافحة الآفات الزراعية فإنها ستعود على الخزانة العامة للدولة بعائد لا يمكن تجاهله على الاطلاق نتيجة تصديرها للخارج وزيادة صادراتنا من الحاصلات الزراعية الخالية من متبقيات المبيدات والشاهد على ذلك هو وجود نماذج ناجحة لبعض الشركات الخاصة التي يقوم استثمارها على انتاج الأعداء الحيوية وتقوم بتصديرها للخارج ومن هذه الشركات من يقوم فعليا بتصدير ما يقارب 400 مليون فرد مفترس أكاروسي سنويا الى الخارج لكن ينقصها العمل في إطار استراتيجية متكاملة تضعها الدولة بالتعاون مع خبراء الاقتصاد الزراعي.

كما أن ناقوس الخطر يدق أيضا لعودة ربيع المعامل البحثية من جديد لتعمل بكامل طاقتها لأننا أصبحنا نعمل في ملف المبيدات الكيميائية اما عن طريق أمانة المبيدات أو عن طريق مشاريع تقييم المبيدات أوفي برنامج مطبقي المبيدات وغيرها من اللجان التابعة للجنة مبيدات الآفات الزراعية حتى ضم هذا الملف كوادر من ذوي التخصصات النادرة في مجالها فقد اتسعت الدائرة لتضم بعض الكفاءات المميزة في مجال الأعداء الحيوية ضمن فرق “مطبقي المبيدات” مع أنه كان من الممكن استثمارها  ببرنامج يصمم لـ “مطبقي الأعداء الحيوية” ليحدث التوازن الطبيعي  خصوصا أن لجنة مبيدات الآفات الزراعية منبثق منها لجنة فرعية تحت اسم “لجنة المكافحة الحيوية والزراعة العضوية” وهو ما يراه البعض أمر يحتاج إعادة النظر في طبيعة هيكلته لتخرج المكافحة الحيوية من تحت عباءة المبيدات الكيميائية لعلها تجد طريقا يسطر خلاصة أبحاث هذا المجال جنبا الى جنب مع المبيدات في كتاب التوصيات المعتمدة لمكافحة الآفات الزراعية الذي تصدره اللجنة خاليا من أي توصية بالمفترسات أو الطفيليات رغم نجاحها واقتصر ذكرها على ملحق بالصور والمصطلحات التعريفية لها فبدت أبحاث هذا المجال في كتاب التوصيات المعتمد كأنها ليست أبحاث تطبيقية مع أن الواقع مخالف لهذا.

وبرغم ان إصدارات لجنة مبيدات الآفات الزراعية تحوي طرق ومميزات برامج الادارة المتكاملة للآفات لكن هذا الكتاب خلا أيضا من أي برنامج للإدارة المتكاملة لآفات أي محصول طوال السنين الماضية ماعدا حالة فريدة لآفة وحيدة ظهرت لأول مرة مؤخرا في توصيات 2020 وكانت تخص دودة الحشد الخريفية. مما يجعل الكثير منا يرى أن العنوان الأنسب لهذا الكتاب هو “دليل المبيدات المسجلة في مصر على الآفات الزراعية”

ولجنة مبيدات الآفات الزراعية تتحمل عبئا كبيرا في ملف تسجيل المبيدات الزراعية في مصر ودورها بلا شك أمر بالغ الأهمية، ولكن هذا الوضع يدعم الأصوات التي تؤمن بضرورة وجود كيان آخر مستقل يعنى بكل تفاصيل ملف الادارة المتكاملة للآفات والمكافحة الحيوية كعنصر حاكم وآمن فيها ويوظف المبيدات وكل العناصر البديلة في توقيتاتها المناسبة.

كما أن هناك ثمة بعض الإشكاليات التي تحتاج لوقفة واضحة لتتوازن الأمور في صالح الزراعة المصرية والمواطن المصري عن طريق تشابك العلوم لتتكامل بشكل يجعل العلم هو أداة القرار المناسب، فسوق المبيدات في مصر والذي وصف أنه السوق الأكبر في عالم المبيدات بقارة أفريقيا وأنه سوق شاب ومعدلات استهلاك المبيدات فيه تتعاظم مع الوقت يستدعي استثمار خبراتنا البحثية في مجال الاقتصاد الزراعي وحتمية ادراجها بقوة  في معادلة سوق المبيدات ليتوازن هذا السوق لصالح منتج آمن وبيئة آمنة وحتى لا يؤثر سلبا على سوق تصدير حاصلاتنا الزراعية عالميا خالية من المتبقيات.

لا أحد ينكر دور المبيدات فهي السلاح القوي اذا عجزت كل الحلول البديلة وفلت زمام السيطرة على الآفات، لكن اذا كانت الحلول البديلة والآمنة هي التي تأتي في الترتيب الأول في أغلب الظروف وفق القواعد العلمية  ماعدا حالات استثنائية نادرة فيجب علينا أن نوليها نفس القدر من الاهتمام بملف المبيدات وربما أكثر. ومع التزايد الملحوظ لعدد المبيدات والمواد الخام التي لا يخلو شهر دون تسجيل جديد منها حتى وصل عددها المعلن في هذا الشهر الى 45 تسجيل جديد فان هذا قد يعني تزايد عدد المشتغلين في هذا الملف أو تزايد انشغالهم به.

أثمن هذه الأدوار التي تحتاج الى أمانة عالية وتحمل للمسؤولية يشارك فيها بكل شرف أبناء الجهات البحثية المختلفة المعنية بهذا الملف ولا لوم عليهم لحين وجود البديل لان البديل الحالي سيء في ظل عدم وجود مشروعات تمول الأبحاث العلمية التي تقع خارج نطاق المبيدات بشكل كافي.

كما أن اتساع دائرة المبيدات لهذا الحد في ظل قلة الكوادر البحثية لعدم ضخ كوادر جديدة منذ فترة طويلة لمؤسساتنا البحثية بلا شك يعيق التفرغ المناسب لتطوير الحلول البديلة والآمنة التي لا تقل بأي حال من الأحوال عن المبيدات.

كما أن القرارات المتعلقة بأمان المبيدات المسجلة قد تتغير في لحظة وفقا للمراجعات العلمية العالمية والتي يصعب تنفيذها فور صدورها لأن سحبها من الأسواق بشكل فجائي له تبعات أسوأ فتظل في أسواقنا المحلية بصورة قانونية لمدة قد تصل الى عام كامل أو أكثر.

كما ان هذه القرارات التي يترتب عليها وقف استخدام هذه المبيدات تنسف الجهد والوقت المبذول طوال فترة تجارب تقييمها، وهنا سيكون أول من يذوق مرارتها في خط المواجهة الأول مع كل قرار بوقف مجموعة منها هم الباحثون الذين يتحملون مخاطر اجراء تجارب تقييمها حتى يتم تسجيلها والسماح باستيرادها وهنا يجب أن تكون وقفة أخرى، فهؤلاء الجنود يجب أن تشملهم مدونة السلوك لأنهم يعملون تحت ظروف صعبة بتمويل لا يتناسب مع خطورة هذه المهمة ولا يكفي لتحقيق كل سبل الأمان في التطبيق خصوصا ان عدد المبيدات التي يقومون بتطبيقها يزداد سنويا لذا فهم وجميع المعاونين لهم في هذه المهمة من فنيين يستحقون تخصيص بديلا مناسبا لمخاطر تعرضهم لسموم المبيدات أثناء تجريبها وتقييمها وأن يتم اجراء تحليلات طبية دورية لهم للحفاظ على سلامتهم.

كما انه يجب أن توضح  لهم اثناء مرحلة تجريب المبيدات ألوان البطاقة الاستدلالية لكل مبيد يقومون بتقييمه خصوصا تلك المبيدات ذات البطاقة الاستدلالية الحمراء ليكون كل منهم على دراية كافية بدرجة خطورة سمية هذا المبيد الذي بين أيديهم هم والفنيون المساعدون لهم، ولمزيد من الحفاظ على  سلامة هذه الكوادر الغالية يفضل عدم استمراريتها في مشاريع تقييم المبيدات لسنين طويلة. وفي حال تعرض أحدهم لأي تبعات صحية من تجريب هذه المبيدات حتى بعد الانتهاء من مشروعه تتولى لجنة مبيدات الآفات الزراعية من خلال رسوم تسجيل كل مبيد بتحمل فاتورة علاجهم.

في ظل هذا الواقع لم يعد أمامنا الا التكامل بين العلوم فهو الحل الواعي والقادر على أن ينهل من خير المبيدات دون أن يغرق الوطن في بحرها الذي يمتلئ سنويا بقرابة العشرة الاف طن من المبيدات التي يستهلكها المصريون وفق تصريحات لجنة مبيدات الآفات الزراعية بـوزارة الزراعة بالإضافة الى آلاف الاطنان الأخرى من المبيدات التي تدخل عبر عدة منافذ أخرى شرعية معنية بتسجيلها في مصر، ناهيك عن الاف الاطنان من بوابات المبيدات غير الشرعية.

ولا يفوتنا أن معظم هذه المبيدات تقع فريسة سهلة لكافة أشكال الغش والتي تزيد بحر المبيدات سموما واتساعا …. وفوق كل هذا تطفو على سطح هذا البحر قضية المبيدات الراكدة في مخازنها عبر السنين والتي نبه الى مخاطرها الراحل الأستاذ الدكتور زيدان هندي عبد الحميد أستاذ كيمياء المبيدات والسموم واصفا لها في أحد كتبه عنها بأنها “قنابل موقوته” وان السبب فيها قد يرجع الى عدم القدرة على تقدير الاحتياجات الفعلية من المبيدات مما قد يترتب عليه استيراد كميات كبيرة دون الحاجة اليها والتي قد يساء استخدامها أو يساء تخزينها.

هذا الوضع قد ينجم عنه تسللها إلى السلسلة الغذائية وتهديد التنوع البيولوجي وتلوث الهواء والتربة وحتى مخزوننا من المياه الجوفية، وكل هذا نجني أثره في صحتنا وأمان غذاءنا وينعكس على صعوبة تفعيل قانون الزراعة العضوية وحجم صادراتنا الزراعية التي تعتبر متبقيات المبيدات من احد عقباتها.

لكل هذا وأكثر جاءت هذه الصحوة تحت شعار “المبيدات ليست هي الحل الأول ولاهي السلاح الوحيد في وجه الآفات” وتدعو هذه الصحوة الى أن يكون للتكامل بين العلوم كلمة ودور ومساحة في ملف الإدارة المتكاملة لمكافحة الآفات الزراعية في مصر ليجد المزارع بديلا آمنا موصى به، وهذا يحتاج الى وجود كيان مختص بملف الإدارة المتكاملة وله الدعم المادي واللوجيستي بكوادر تتحمل أمانة هذه المهمة وتتعاون مع المنظمات الدولية المعنية بهذا الأمر.

كيان يقدم دليلا لآفات كل محصول في مصر والحلول الآمنة لمكافحة هذه الآفات ونسبة نجاحها وبناء عليه يتم من خلال توصيات هذا الكيان تحديد الاحتياجات الفعلية لتسجيل مزيد من المبيدات الكيماوية على افات هذه المحاصيل أم لا وتحقيق شروط ومواصفات استخدام المبيدات الكيماوية التي تتفق مع برامج الإدارة المتكاملة التي ستنفذ فيها.

وحتى يسمح لهذا الكيان بالتواجد على أرض الواقع أدعوا معالي وزير الزراعة واستصلاح الأراضي دراسة وبحث المقترحات التي دعوته اليها من خلال سطور هذا المقال والاستماع الى المقترحات التي تمتلكها كفاءات عديدة بالمؤسسات البحثية المعنية ولديها أدوات الإدارة الواعية لهذا الملف.

هذه دعوة مخلصة لمعالي الوزير السيد القصير لتبني هذا الملف الآن قبل غدا ولو استجاب لها تغير وجه الزراعة في مصر كلية وكان ذلك بمثابة حفر لاسمه بسطور من نور في تاريخ الزراعة المصرية.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى