عمرو أديب والملايين الضائعة: لماذا يُثمن الجدل أكثر من العلم؟
بقلم: د.أسامة بدير
في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعيشها ملايين المصريين، حيث يعاني الكثيرون من تدني الأجور وارتفاع تكاليف المعيشة، وتواجه مجالات حيوية مثل البحث العلمي والتعليم والصحة نقصا حادا في التمويل، يبرز التساؤل حول عدالة توزيع الثروات والموارد. فكيف يمكن لإعلامي مثل عمرو أديب أن يتقاضى أجرا سنويا يصل إلى 2,5 مليون دولار، أي ما يعادل حوالي 126,57 مليون جنيه مصري، في حين أن العلماء والمخترعين وأصحاب العقول المُبدعة في مختلف المجالات لا يحصلون على جزء يسير من هذا الرقم، رغم إسهاماتهم الحقيقية في تقدم المجتمع؟
تابعونا على صفحة الفلاح اليوم على فيس بوك
هل ما يُقدمه عمرو أديب يستحق هذه الثروة الطائلة؟ الحقيقة أنه لا يخترع، ولا يبتكر، ولا يُسهم في نهضة علمية أو اقتصادية، بل يعتمد أسلوبه الإعلامي على إثارة الجدل، وتقديم محتوى لا يخرج عن دائرة التكرار والتهويل، دون إضافة قيمة معرفية حقيقية. فبدلا من تسليط الضوء على القضايا الجوهرية أو مناقشة حلول للمشكلات المجتمعية بعمق وموضوعية، يعتمد على استغلال الأحداث وإثارة العواطف، مما يحوّل الإعلام إلى ساحة للضجيج أكثر من كونه منصة للوعي والتثقيف.
إن حصول إعلامي على أجر بهذه الضخامة، في وقت يعاني فيه الأطباء من ضعف الرواتب، ويكافح الباحثون من أجل الحصول على منح تتيح لهم تطوير أبحاثهم، يعكس خللا جوهريا في أولويات المجتمع. فإذا كانت الدول المُتقدمة تضع العلماء في مُقدمة الاهتمام وتخصص لهم ميزانيات ضخمة نظرا لدورهم في نهضة الأمم، فإن الواقع في مصر والعالم العربي يعكس نموذجا مختلفا تماما، حيث يُدفع الملايين لمن يجيد التلاعب بالكلمات، بينما يُترك أصحاب العقول المُبدعة يكافحون في صمت.
القضية ليست مجرد مقارنة في الأرقام، بل هي مؤشر على اختلال القيم، حيث يُمنح من يجيد تسويق الإثارة والجدل مكافآت خيالية، بينما يتم تهميش من يبنون المستقبل فعليا. فإلى متى سيظل الترفيه والمبالغات الإعلامية أولى بالتمويل من العلم والصحة والتعليم؟ ومتى يُدرك المجتمع أن الاستثمار الحقيقي ليس في الضجيج الإعلامي، بل في العقول القادرة على التغيير والإبداع؟
الإعلام الذي يمثله عمرو أديب ليس إعلاما تنويريا، بل هو إعلام يلهث خلف المشاهدات والإعلانات، ويستخدم الإثارة والتهويل لجذب الانتباه. وفي كثير من الأحيان، يكون ناقلا لمعلومات غير دقيقة، أو منحازا لرؤية معينة تخدم مصالح القائمين على القنوات الإعلامية وليس الجمهور. إن حصوله على هذا الأجر الفلكي بينما يكافح العلماء والباحثون من أجل تأمين ميزانيات لأبحاثهم، أو حتى مجرد الحصول على رواتب تكفيهم للعيش بكرامة، يعكس خللا عميقا في أولويات المجتمع، حيث يتم مكافأة من يبيع الكلام، بينما يتم تهميش من يُسهمون في بناء المستقبل.
بينما يحصل عمرو أديب على ملايين الدولارات سنويا، فإن العلماء والباحثين في مجالات الطب، الهندسة، الفيزياء، الزراعة، والكيمياء – الذين يقدمون إسهامات حقيقية في تطوير البشرية – يعانون من تدني الأجور ونقص الدعم. هذا التفاوت يرجع إلى عدة عوامل:
1- غياب السوق الاستهلاكية للعلم: على عكس الإعلام، لا يُنظر إلى البحث العلمي على أنه “منتج ترفيهي” يحقق الأرباح، وبالتالي فإن الاستثمارات فيه قليلة مقارنة بالإعلام الذي يجذب المُعلنين بسهولة. 2- نقص التقدير المجتمعي للعلم: في المجتمعات التي تركز على الاستهلاك السريع للمحتوى الترفيهي، يحظى الإعلاميون والمشاهير باهتمام أكبر من العلماء الذين يحتاج عملهم إلى سنوات من البحث والتطوير قبل أن يؤتي ثماره. 3- ضعف تمويل البحث العلمي: الدول العربية، بما فيها مصر، لا تخصص ميزانيات كافية لدعم البحث العلمي، ما يجعل العلماء يعتمدون على تمويلات محدودة ورواتب منخفضة، على عكس الإعلام الذي يتمتع باستثمارات ضخمة.
لا شك أن للإعلام دورا محوريا في تشكيل الوعي المجتمعي والتأثير على الرأي العام، لكن في المقابل، لا يمكن إنكار أن هناك خللا واضحا في آلية تقدير الكفاءات وتوزيع الموارد. فبينما تُنفق الملايين على الإعلاميين، يُترك العلماء والباحثون يكافحون من أجل تأمين الحد الأدنى من الدعم لأبحاثهم، في مشهد يعكس تهميشا خطيرا للمعرفة والإبداع. إن الحاجة إلى إعادة النظر في كيفية تقدير ودعم العلماء والباحثين أصبحت أكثر إلحاحا من أي وقت مضى، إذ لا يمكن لمجتمع يسعى إلى التقدم أن يظل رهينا لمنظومة تمنح الأولوية للترفيه والإثارة الإعلامية على حساب الابتكار والإنتاج العلمي.
يجب أن يكون هناك تحوّل جذري في سياسات تمويل البحث العلمي، بحيث تُخصص ميزانيات كافية لدعم الابتكار وتشجيع العقول الشابة على الاستمرار في مجالاتهم بدلا من الإحباط والهجرة إلى دول تقدر مواهبهم. كما أن تعزيز ثقافة تقدير العلماء والمفكرين يجب أن يكون جزءا من استراتيجية وطنية شاملة، تُعيد التوازن بين دخل الإعلاميين الذين يعتمدون على الاستعراض وجذب الانتباه، وبين الباحثين الذين يعملون بصمت لتطوير المجتمع والنهوض به.
وأخيرا، السؤال الذي يفرض نفسه بقوة: هل المشكلة تكمن في الإعلاميين الذين يتقاضون مبالغ خيالية، أم في المجتمعات التي باتت تُفضل المحتوى الترفيهي السطحي على حساب البحث العلمي والإنتاج المعرفي؟ هل الخلل في هؤلاء الذين يستفيدون من هذا الواقع، أم في الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية التي أصبحت تعاني من تشوهات هيكلية جعلت العلم في ذيل الأولويات؟ الحقيقة أن الإعلاميين يستغلون واقعا فرضه المجتمع نفسه، حيث بات الاستهلاك الترفيهي يتفوق على الاستثمار في العقول. لذا، فإن التغيير الحقيقي لا يكمن فقط في انتقاد رواتب الإعلاميين، بل في إعادة تشكيل منظومة القيم المجتمعية بحيث يُصبح العلم والمعرفة حجر الأساس لأي نهضة حقيقية.