ظهور البعوض في أيسلندا لأول مرة: تغير المناخ يعيد تشكيل عالمنا

بقلم: أ.د.يوسف دوير
أستاذ كيمياء وسمية المبيدات وزميل الجمعية الملكية البريطانية للحشرات والبيولوجي – المعمل المركزي للمبيدات – مركز البحوث الزراعية
لم تكن مجرد حشرة صغيرة تطن في أمسية صيفية دافئة بآيسلندا، بل كانت جرس إنذار يدق بقوة في قلب الجليد: لقد تجاوز العالم نقطة اللاعودة. ما كان يبدو يومًا نقاشًا علميًا عن ارتفاع درجات الحرارة، تحوّل اليوم إلى واقع يعيد رسم ملامح الحياة على الأرض — من الكائنات الدقيقة إلى مصير المدن والدول.
في تقرير نشرته هيئة الإذاعة البريطانية «بي.بي.سي» بتاريخ ٢٢ أكتوبر ٢٠٢٥، ذُكر أن أحد محبي مراقبة الحشرات ويدعى “بيورن هالتاسون” سجل حدثًا تاريخيًا برصده البعوض لأول مرة في بلاده خلال عدة ليالٍ من شهر أكتوبر 2025. وقد أكد ذلك الدكتور “ماتياس ألفريسون”، عالم الحشرات في معهد العلوم الطبيعية في آيسلندا.
آيسلندا، التي كانت واحدة من منطقتين فقط في العالم تخلو من هذه الحشرة – إلى جانب القارة القطبية الجنوبية – تدخل اليوم مرحلة جديدة من تاريخها البيئي. يؤكد الخبراء أن الأمر ليس صدفة، بل نتيجة مباشرة لارتفاع درجات الحرارة إلى مستويات غير مسبوقة، حيث بلغت 26.6 درجة مئوية في مايو الماضي، في ظاهرة لم تكن ممكنة قبل سنوات قليلة فقط.
ما يحدث هناك ليس سوى مشهد من لوحة كونية أوسع؛ فالبعوض يغزو مناطق جديدة، وأسماك الأسد السامة تزحف نحو البحر المتوسط، وقناديل البحر تنتشر في شواطئ كانت آمنة. وفي المقابل، تختفي كائنات أساسية للحياة، إذ فقدت بعض المناطق نصف شعابها المرجانية، وتراجعت أعداد الملقحات التي تعتمد عليها ثلاثة أرباع محاصيلنا الغذائية.
لكن الكارثة لا تقف عند حدود البيئة البحرية أو البرية، بل تمتد إلى ما هو أبعد. فيضانات دبي غير المسبوقة أغرقت أحد أكثر الأماكن جفافًا في العالم، وحرائق كندا التهمت مساحات تفوق مساحة بعض الدول، وأعاصير ضربت مناطق لم تعرفها منذ قرون. هذه الظواهر لم تعد استثناءً في نشرات الأخبار، بل أصبحت «القاعدة الجديدة» التي تحكم كوكبنا.
وقال هالتاسون في تدوينة أثارت ضجة واسعة: “كنت أعلم أن ما رأيته ليس حشرة عادية… شعرت كأن آخر قلاع الجليد قد سقطت.”
كلماته تلخّص مشهدًا أكبر من مجرد بعوضة؛ إنها قصة كوكب يتغير أمام أعيننا. فالتاريخ يخبرنا أن الحضارات العظيمة سقطت حين فشلت في التكيف مع التغير المناخي: حضارة المايا اندثرت بسبب الجفاف الطويل وتدهور البيئة، والإمبراطورية الآشورية دمّرها التصحر، وجزيرة الفصح قضت على نفسها بعد أن استنزفت مواردها الطبيعية. واليوم، يواجه الإنسان خطرًا وجوديًا مماثلًا، لكن على مستوى العالم بأسره؛ مدن ساحلية مهددة بالغرق، ودول جزرية قد تختفي من الخرائط، وصراعات على الماء والغذاء بدأت تلوح في الأفق.
البعوضة في آيسلندا ليست مجرد كائن غريب، بل رمز لعالم يفقد توازنه. إنها رسالة صريحة من الطبيعة تقول: لقد دخلنا فصلًا جديدًا من تاريخ الأرض، فصلًا يتحمّل فيه الإنسان المسؤولية كاملة عمّا صنعه بيده.
لقد حان الوقت لصحوة عالمية حقيقية، لا شعارات مؤتمرات ولا وعود مؤجلة. نحتاج إلى إرادة وتغيير جذري في أنماط الاستهلاك، والحد من الانبعاثات الكربونية التي تخنق غلافنا الجوي. إنقاذ الكوكب لم يعد ترفًا بيئيًا، بل هو قضية بقاء.
فلنتحد — حكوماتٍ وشعوبًا — قبل أن نصبح جميعًا مجرد خبر بيئي جديد في سجلّ كوكبٍ يحتضر. فليس لنا أرضٌ غير هذه، ولا مستقبلٌ إن لم نصنه اليوم.
🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.


