رأى

صناعة التقاوي في الوطن العربي: خطوة حاسمة نحو الاكتفاء الذاتي الغذائي

بقلم: أ.د.خالد سالم

أستاذ بقسم البيوتكنولوجيا النباتية بمعهد الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية جامعة مدينة السادات

في ظل تزايد المخاطر المرتبطة بالأمن الغذائي عالميًا واتساع الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك في أغلب الدول العربية، تبرز قضية “صناعة التقاوي” كأحد المحاور الجوهرية لتحقيق الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الزراعية. فالتقاوي ليست مجرد مدخل زراعي، بل حجر الأساس في دورة الإنتاج الزراعي، وعامل رئيس في تحديد الجودة والغلة والقدرة على مواجهة التغيرات المناخية والآفات.

تعتمد الزراعة الحديثة على تقاوي محسّنة وذات إنتاجية عالية، تتسم بالقدرة على التكيف مع الظروف المناخية المختلفة، ومقاومة الأمراض، وتحقيق إنتاج وفير بجودة عالية. لكن الواقع يشير إلى أن جزءًا كبيرًا من الدول العربية ما زال يعتمد على استيراد التقاوي من الخارج، ما يجعل المنظومة الزراعية رهينة للتقلبات العالمية، سواء في الأسعار أو التوافر، بل وأحيانًا للجوانب السياسية.

إن إنشاء صناعة تقاوي وطنية أو إقليمية عربية تُنتج بذورًا ذات كفاءة عالية وبأصناف محلية تتناسب مع البيئات المتنوعة يُعد ضرورة استراتيجية، وليس مجرد خيار اقتصادي. فامتلاك هذه القدرة يوفّر للدولة سيادة غذائية حقيقية، ويُسهم في خفض تكاليف الزراعة ورفع إنتاجية المحاصيل، خاصة الأساسية منها كالقمح والذرة والأرز والبقوليات.

وفي هذا السياق، تبرز أهمية الاستثمار في البحث العلمي الزراعي، خاصة في مراكز بحوث الأصناف الوراثية والهندسة الوراثية، التي يمكنها تطوير أصناف محلية منافسة عالميًا. كما يتطلب ذلك شراكة حقيقية بين القطاعين العام والخاص لوضع إطار قانوني وتنظيمي يضمن جودة التقاوي المنتجة، ويحمي المزارع من الغش التجاري، ويشجع على الابتكار في هذا المجال.

بعض الدول العربية بدأت بالفعل في اتخاذ خطوات نحو هذا الاتجاه، مثل مصر والمغرب والسودان، حيث توجد مراكز قومية لإنتاج وتطوير التقاوي، إضافة إلى شراكات مع شركات دولية. إلا أن هذه الجهود ما زالت مشتتة وتحتاج إلى تنسيق إقليمي، ربما من خلال جامعة الدول العربية أو منظمات إقليمية زراعية، لتبادل الخبرات وتطوير أصناف عربية مشتركة تلبي احتياجات الأسواق المختلفة.

الأمر لا يقتصر على الإنتاج فقط، بل يمتد إلى وضع استراتيجيات للتخزين والتوزيع والتسويق، بحيث تصل التقاوي عالية الجودة إلى صغار المزارعين، لا فقط إلى كبار المنتجين. كما يجب دعم المزارع العربي بالمعرفة الفنية لكيفية اختيار التقاوي المناسبة وكيفية التعامل معها لضمان أفضل إنتاج ممكن.

وإذا نظرنا إلى التحديات التي تواجه الدول العربية من ندرة المياه وارتفاع درجات الحرارة وتمدد التصحر، فإن الاستثمار في تطوير تقاوي مقاومة للجفاف أو تنمو في بيئات هامشية يصبح رهانًا على المستقبل، لا مجرد استجابة لحاجة آنية.

إن الاكتفاء الذاتي الزراعي لن يتحقق عبر التوسع الأفقي فقط، بل من خلال زيادة الإنتاجية لكل فدان، وهو ما لا يمكن الوصول إليه دون تقاوي عالية الجودة. وهذا يتطلب قرارًا سياسيًا ورؤية استراتيجية وموازنات مالية واضحة، تضع الأمن الغذائي في صدارة الأولويات، بدلاً من الاعتماد على استيراد الغذاء من الخارج.

وفي النهاية، تبقى صناعة التقاوي أحد المفاتيح الأساسية لبناء أمن غذائي عربي حقيقي، قائم على الإنتاج المحلي والمعرفة العلمية والتعاون الإقليمي. فالأمم لا تضمن قوتها إلا إذا ضمنت قوت شعوبها، ولا تبني مستقبلها إلا إذا امتلكت مفاتيح إنتاجه.

🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى