صرخة على الطريق الإقليمي: ثماني عشرة زهرة تُطفئها يد الإهمال
بقلم: د.شكرية المراكشي
في صباحٍ لم تشرق فيه شمس الأمل، وعلى الطريق الإقليمي الذي صار شاهدًا على فواجع لا تُعد، كانت المأساة الأكبر تنتظر على حافة القدر. ميكروباص صغير، محمّل بأحلام ثماني عشرة زهرة في عمر الورد، انطلق كعادته من القرية الطيبة التي تُربّي بناتها على الجد والكد والسعي نحو الغد. منهن من ذهبت إلى جامعتها حاملةً حقيبة أحلامها، ومنهن من كانت في طريقها إلى العمل، ومنهن من خرجت قبل أن تُقبّل جبين أمها، على أمل أن تعود مساءً تحمل في عينيها تعبًا جميلًا ورضا.
لكن الميكروباص لم يعد بهنّ. وعوضًا عن ضحكات الصباح التي كانت تملؤه، عادت ثماني عشرة عربة إسعاف، واحدة تلو الأخرى، تشق الطريق إلى القرية بصمت مهيب. لم يكن ذلك موكب زفاف، ولا رحلة عودة من يوم دراسي أو عمل شاق، بل كانت قافلة الوداع الأخير، تحمل على متنها أجسادًا غضّة، كانت حتى الأمس القريب تنبض بالحياة وتزهر بالأمل.
كل عربة إسعاف وقفت أمام بيت إحدى الفتيات، وكأنها تُسلّم الروح إلى المكان الذي خرجت منه ذات صباح، وكأنها تعتذر نيابةً عن وطنٍ لم يُنقذ بناته. مشهد لم يُشهد من قبل، ولا يُنسى أبدًا. كل بيتٍ في القرية انفتح على صرخة، وكل أم احتضنت الصندوق وكأنها تحتضن قلبها المكسور. كانت لحظة تجمع بين الدفن والذهول، بين الحقيقة واللا تصديق، بين البكاء والعجز.
القرية كلها بكت. الرجال وقفوا مذهولين لا يملكون سوى نظرات مكسورة، النساء مزّق صراخهن السكون، الأطفال اختبأوا خلف الأبواب لا يفهمون لماذا الموت زارهم دفعةً واحدة. حتى الجدران بكت، حتى الأشجار انحنت، وكأن الأرض بأكملها حدّت على فتياتٍ لم يعرفن من الحياة إلا بدايتها.
نعم، نؤمن أن ما حصل قضاء وقدر، ولكن ربّ القدر سبحانه قال: “ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة”. فأين الخطأ؟ ومن المسؤول؟
هل هو الطريق الإقليمي الذي صار فخًا للموت بدلًا من أن يكون شريانًا للحياة؟ طريق بلا إشارات واضحة، بلا رقابة صارمة، بلا ضمير؟
أم هو سائق الشاحنة الثقيلة، الذي لم يتوقّف ليفكر أنه يقود مقصلة متحرّكة قد تحصد أرواحًا لا ذنب لها؟
أم هو سائق الميكروباص المُرهق، المُطارد بأجرة اليوم، الذي يقود كل صباح وهو يعلم أنه يحمل أثمن ما تملكه القرية، دون وسيلة حماية حقيقية؟
أم أن الخطأ أكبر من كل هؤلاء؟ خطأ منظومة بأكملها لا تؤمّن نقلًا آمنًا لبناتنا، ولا تُشرف على الطرق، ولا تراقب، ولا تحاسب، ولا تحمي؟
من يتحمّل دموع هؤلاء الأمهات؟ من يُعيد الحياة لآباء انكسروا؟ من يُداوي وجع إخوة لن يروا شقيقاتهم مجددًا؟
ما حدث لا ينبغي أن يُنسى. ليس فقط لأننا فقدنا ثماني عشرة زهرة في عمر الربيع، بل لأن صمتنا على هذا الواقع قد يجعلنا نفتح غدًا بيوتنا لجثامين أخريات.
إلى القرية المفجوعة…
إلى الأمهات الثكالى، والآباء المنكسرين، والأخوات اللاتي لن يجدن ضحكة المساء…
نحن لا نملك سوى المواساة والدعاء، وواجب الوعي. الوعي بأن الكارثة ليست قدرًا محضًا، بل نتيجة لخطأ بشريّ يجب أن يُحاسب.
لأهالي الفتيات، عزاؤنا أن بناتكم لم يذهبن سُدى. وجعكم صار صوتًا صارخًا في ضمير الوطن، وجراحكم فتحت أعينًا غافلة. رحم الله فتياتنا، وألهمكم الصبر، وجعل حزنكم بداية لتغيير، يحمي بنات غيرهن، ويمنع أن يتحوّل طريق إلى مقبرة من جديد. عزاؤنا أن بناتكم، وإن رحلن، قد أيقظن ضمير وطن بأكمله، وصرخن بدمائهن في وجه الإهمال: كفى.
🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.