البيئة

رسالة الطبيعة في وجه عبث البشر

إعداد: د.شكرية المراكشي

الخبير الدولي في الزراعات البديلة ورئيس مجلس إدارة شركة مصر تونس للتنمية الزراعية

حين تتحرك الأرض غاضبة  صحوة البراكين في عصر التغيرات المناخية.. حين نُذكر التغيرات المناخية، قد يذهب بنا الظن إلى مشاهد مألوفة: حرارة مرتفعة، أمطار غزيرة، أعاصير تقتلع الأخضر واليابس، أو فيضانات تُغرق المدن والقرى. لكن الحقيقة أشد مرارة، وأعمق خطرا، وأكثر إيلاما مما يمكن أن يتخيله العقل البشري. إن ما نراه ليس إلا الوجه الظاهر لجبل جليد هائل، يخفي في أعماقه زلزلة للنظم الطبيعية والبشرية على حد سواء.

تابعونا على قناة الفلاح اليوم

تابعونا على صفحة الفلاح اليوم على فيس بوك

ما وراء الطقس: صراع الأرض مع أبنائها

التغيرات المناخية ليست مجرد اضطراب في الطقس، بل هي إعادة تشكيل شاملة لكوكبنا، حيث تُحرك كل شيء، من السماء إلى أعماق الأرض. ذوبان الأنهار الجليدية يُغرق السواحل، ويُحفز ثورات البراكين. تقلبات الأمطار تدمر المحاصيل أو تُحدث سيولًا جافة تفترش الرمال. أما المحيطات، فهي لم تعد فقط مستودعات للحياة، بل ساحات عاصفة تبتلع كل من يجرؤ على الاقتراب منها.

إنها لعبة دومينو، حيث يؤدي كل تغيير صغير إلى كارثة أكبر: غازات الاحتباس الحراري التي نحرقها تُغرق الأرض بحرارة لا تُطاق، ثم تُطلق الغابات صرخاتها في شكل حرائق مدمرة، ليأتي بعدها الدور على البراكين، تلك الوحوش التي تصحو فجأة لترمي الرماد في الهواء وتحجب الشمس، وكأن الطبيعة تُعلن تحديها الأخير للبشرية.

التداعيات التي لا تعرف الحدود 

هذا الزلزال المناخي لا يعترف بالجغرافيا ولا بالحدود. البراكين التي تنفجر في إندونيسيا تُعطل الرحلات الجوية في أوروبا. الفيضانات التي تغمر باكستان تُرفع أسعار الغذاء في الشرق الأوسط. والجفاف الذي يضرب إفريقيا يفتح أبواب الهجرة والنزوح إلى العالم كله. إنها شبكة من التداعيات التي تؤثر على كل نفس وكل بيت، دون استئذان.

رسالة الطبيعة: هل نعتبِر؟

إذا كانت الطبيعة تتحدث، فإن لغتها واضحة: لقد تخطينا الحدود. استنزفنا موارد الأرض، ورفعنا حرارة المناخ بأيدينا، وأطلقنا الكربون كأننا نحكم كوكبا بديلا، بينما الحقيقة أننا نحفر قبرنا بأيدينا. كل إعصار، كل بركان، كل سيول، ليست إلا رسائل عاجلة من الطبيعة: كفوا عن العبث.

مستقبلنا على المحك 

إن التغيرات المناخية ليست مجرد أرقام وتقارير، بل هي نذير شؤم لعصر قادم، يكون أشد قسوة مما نحن عليه الآن. إذا لم نستيقظ من سباتنا مثلما استيقظت البراكين من سباتها، فإن القادم سيكون أشد إيلاما. على البشرية أن تتحرك بعقلانية، وتواجه هذا الخطر بعزم وتكاتف، لأن الأرض التي نحيا عليها ليست ملكا لنا وحدنا، بل هي ميراث لأجيال قادمة تنتظر منا أن نُصلح ما أفسدناه.

فهل نُدرك أخيرا أن اللعب مع قوى الطبيعة ليس إلا لعبة خاسرة؟ وهل نُبادر إلى الإصلاح قبل أن يصبح الأوان قد فات؟

صحوة البراكين: البوابة إلى غضب الأرض

في وسط هذا المشهد الكوني المضطرب، تبرز البراكين النائمة كرمز صارخ لصحوة الطبيعة. تلك الجبال الصامتة التي ظلت لمئات أو حتى آلاف السنين شاهدة على عبثنا، قررت أخيرا أن تنفث غضبها المكتوم. وكأنها تقول: “إذا كنتم لا تسمعون، فسأجعل صوتي يهز الأرض والسماء”.

من أندونيسيا إلى أيسلندا، ومن المحيط الهادئ إلى أعماق إفريقيا، بدأت تلك العمالقة النائمة تتحرك، تفتح أفواهها لتقذف الحمم والرماد، وترسم سحبا قاتمة تحجب نور الشمس. لم تعد البراكين مجرد جزء من تاريخ الجيولوجيا، بل أصبحت الآن شريكًا نشطًا في إعادة تشكيل الكوكب.

ما الذي أيقظ هذه الوحوش النائمة؟ هل هي التغيرات المناخية التي زادت من حرارة المحيطات وذوبان الأنهار الجليدية، مما أثقل قشرة الأرض الهشة؟ أم أنها رد فعل للطبيعة على انتهاكاتنا المستمرة؟

البراكين لا تحكي فقط قصة انفجار الحمم والصخور، بل تحمل معها دروسا تاريخية وتداعيات كارثية. من توقف الطيران إلى تهديد الأمن الغذائي، ومن التغيرات المناخية الإضافية إلى النزوح الجماعي، تحمل صحوة البراكين إنذارا واضحا: إن العبث بالطبيعة لا يمر دون عواقب.

والآن، دعونا نغوص في أعماق هذا الموضوع، نفتح الستار على البراكين التي صحت من سباتها الطويل، ونستعرض أسبابها، آثارها، وما الذي ينتظرنا في المستقبل إذا استمررنا في تجاهل هذه الرسائل النارية؟

التغيرات المناخية :غضب الطبيعة الذي لا يُطاق 

التغيرات المناخية وصحوة البراكين النائمة: خطر يلوح في الأفق

لقد أصبحت التغيرات المناخية محور النقاشات العلمية والبيئية، ولا عجب في ذلك، فآثارها لم تعد تقتصر على ارتفاع درجات الحرارة، وذوبان الجليد القطبي، والفيضانات العارمة، بل بدأت تمتد لتشمل ظواهر جيولوجية مخيفة، منها صحوة البراكين النائمة. يبدو أن هذه البراكين، التي كانت هادئة منذ مئات أو آلاف السنين، قد وجدت في تغير المناخ محفزا لتثور من جديد، وكأنها تستجيب لنداء الأرض الملتهب.

كيف تؤثر التغيرات المناخية على البراكين؟

تلعب التغيرات المناخية دورا محوريا في التأثير على النشاط البركاني بعدة طرق: 

ذوبان الجليد والضغط الأرضي: عندما تذوب كميات هائلة من الجليد بسبب الاحترار العالمي، يخف الضغط على القشرة الأرضية في المناطق الجليدية. هذا الانخفاض في الضغط قد يُفسح المجال لحركة الصهارة تحت سطح الأرض، مما يزيد من احتمالية حدوث ثوران بركاني. 

ارتفاع مستوى البحار: زيادة حجم المياه بسبب ذوبان الجليد يؤدي إلى ارتفاع الضغط على قيعان المحيطات، مما يمكن أن يؤدي إلى نشاط زلزالي أو بركاني تحت الماء.

تغيرات في الدورة الهيدرولوجية: التغيرات في أنماط الأمطار والجفاف تؤثر على توازن الضغط الهيدروليكي في باطن الأرض، مما يسهم في تحفيز النشاط البركاني.

البراكين التي استيقظت من سباتها 

شهد العالم في الأعوام الأخيرة نشاطا لعدد من البراكين التي كانت تُعتبر نائمة، ومنها:

1ـ بركان كاتلا في أيسلندا: ظل هذا البركان هادئا لمئات السنين، لكنه بدأ يُظهر علامات نشاط بسبب ذوبان الجليد المحيط به.

2ـ بركان باكاي في إندونيسيا: استيقظ بعد عقود من السكون، متسببا في انبعاث أعمدة ضخمة من الرماد.

3ـ بركان ميرابي في جزيرة جاوة، إندونيسيا: عاد ليثور مجددا، بعد أن كان نشاطه محدودا لسنوات طويلة.

4ـ بركان أرينال في كوستاريكا: عاد للظهور في العقود الأخيرة بعد فترة من السكون، مؤكدا أن الأرض ليست هادئة كما تبدو.

التداعيات العالمية لصحوة البراكين

إن ثوران البراكين لا يقتصر على تدمير المناطق المحيطة بها، بل يمتد تأثيرها ليشمل العالم بأسره

1ـ تغير المناخ بشكل أكبر: انبعاث كميات هائلة من الرماد والغازات البركانية مثل ثاني أكسيد الكبريت يمكن أن يحجب أشعة الشمس، مما يؤدي إلى انخفاض مؤقت في درجات الحرارة العالمية.

حين يصبح الغبار البركاني سيد المناخ المؤقت 

تثور البراكين حاملة في جعبتها رسائل من أعماق الأرض، لا تقتصر على الدمار المحلي، بل تمتد لتشمل تغيرا دراماتيكيا في المناخ العالمي. فالرماد البركاني والغازات المنبعثة من هذه الحمم الغاضبة تؤدي دورا غير متوقع في تعديل ميزان الحرارة الكوكبي، في عملية معقدة تجمع بين التبريد المؤقت والفوضى المناخية.

الستار البركاني: الشمس في إجازة

عندما تنفجر البراكين، تطلق كميات هائلة من الرماد والغازات، مثل ثاني أكسيد الكبريت، إلى الغلاف الجوي. يتفاعل ثاني أكسيد الكبريت مع الماء والغازات الأخرى ليشكل جزيئات صغيرة تُعرف باسم الهباء الجوي. هذه الجزيئات تعمل كمرآة، تعكس جزءًا كبيرًا من أشعة الشمس القادمة نحو الأرض، مما يؤدي إلى انخفاض مؤقت في درجات الحرارة العالمية.

ثوران بركان تامبورا في إندونيسيا عام 1815 كان أحد أقوى الأمثلة، حيث تسبب في “عام بلا صيف” عام 1816، مع انخفاض درجات الحرارة بمعدل 1 – 2 درجة مئوية عالميا، مما أدى إلى فشل المحاصيل والمجاعة في العديد من المناطق.

تأثير الدومينو المناخي: حين يخرج النظام عن مساره

هذا التبريد المؤقت لا يأتي بدون تداعيات. يؤدي انخفاض درجات الحرارة إلى اضطراب الأنماط المناخية العالمية، مما يتسبب في تغيرات غير متوقعة في أنظمة الرياح الموسمية، وهطول الأمطار، وتوزيع الحرارة بين المحيطات والقارات.

على سبيل المثال، أعقب ثوران بركان بيناتوبو في الفلبين عام 1991 انخفاض في درجات الحرارة العالمية بمقدار 0,5 درجة مئوية تقريبا على مدى عامين، مع تأثيرات على أنماط الأمطار الموسمية في آسيا وإفريقيا.

حبس الحرارة: الجانب المظلم للغازات البركانية 

على الرغم من تأثيرها التبريدي المؤقت، تحمل الانبعاثات البركانية مفارقة بيئية. الغازات الدفيئة مثل ثاني أكسيد الكربون المنبعثة من البراكين تساهم على المدى البعيد في ظاهرة الاحتباس الحراري. ورغم أن البراكين تُطلق كميات أقل من ثاني أكسيد الكربون مقارنة بالنشاط البشري، إلا أن ثورات متكررة وقوية تضيف إلى العبء المناخي بشكل ملموس.

اضطراب الزراعة والمحيطات: أثر المناخ على الحياة 

تغير المناخ الناتج عن النشاط البركاني يؤثر بشدة على الزراعة. فالتبريد المفاجئ يؤدي إلى فصول نمو أقصر، وانخفاض في إنتاجية المحاصيل. في المحيطات، يتسبب تغير درجات الحرارة في تعطيل النظم البيئية البحرية، مما يؤثر على مصايد الأسماك وسلاسل الغذاء.

على سبيل المثال، بعد ثوران بركان لاكي في آيسلندا عام 1783، تسبب انخفاض درجات الحرارة والمطر الحمضي في دمار المحاصيل ونفوق المواشي، مما أدى إلى مجاعة واسعة النطاق.

دروس من الماضي: استشراف المستقبل

التاريخ مليء بالأمثلة التي تُظهر كيف أن النشاط البركاني يغير مسار المناخ. لكنه يترك أيضا دروسا لا تُقدر بثمن حول هشاشة أنظمتنا البيئية أمام القوى الطبيعية. في عصر تغير المناخ الحالي، يجب أن نُولي اهتماما خاصا لهذه الظاهرة، ليس فقط لفهم ماضي الأرض، بل للاستعداد لمستقبل قد يحمل مفاجآت مماثلة.

رسالة من أعماق الأرض 

إن الغبار البركاني ليس مجرد غبار، بل هو لاعب رئيسي في المسرح المناخي العالمي. وبينما نُحاول فهم وتخفيف آثار تغير المناخ الناتج عن النشاط البشري، يجب أن نتذكر دائما أن الطبيعة نفسها قادرة على قلب الموازين، في رسالة قوية تُذكرنا بأن الأرض هي الكوكب الحي الذي يحملنا، بمفاجآته وتقلباته.

2ـ اضطراب الرحلات الجوية: السحب البركانية تُعيق حركة الطيران، كما حدث أثناء ثوران بركان إيافيالايوكل في أيسلندا عام 2010، الذي تسبب في إلغاء آلاف الرحلات.

حين تصبح السماء فخا قاتلًا للطائرات 

إن البراكين لا تكتفي بتدمير الأرض، بل تمد أذرعها نحو السماء، حيث تُطلق سحبا كثيفة من الرماد البركاني الذي يتحول إلى عدو خفي للطيران. هذه السحب، على الرغم من مظهرها البريء في الأفق، تحمل في طياتها قوة قادرة على شلّ حركة الملاحة الجوية العالمية، وتحويل سماء الكوكب إلى منطقة محظورة.

الرماد البركاني: الجاني غير المرئي 

الرماد البركاني ليس مجرد غبار عادي، بل هو مزيج من جزيئات دقيقة زجاجية ومعدنية تحمل شحنة تدميرية. عندما يدخل هذا الرماد إلى محركات الطائرات النفاثة، تذوب جزيئاته بسبب الحرارة الشديدة، ثم تعيد التصلب عند برودتها، ما يؤدي إلى انسداد المحركات وتعطلها. والأسوأ، أن هذا يحدث أثناء الطيران، مما يشكل خطرا وشيكا على حياة الركاب والطواقم.

في عام 1982، واجهت طائرة تابعة للخطوط الجوية البريطانية كارثة عندما تعطلت جميع محركاتها الأربعة أثناء تحليقها فوق سحابة رماد بركاني في إندونيسيا. لحسن الحظ، تمكن الطيار من إعادة تشغيل المحركات بعد الخروج من السحابة، لكن الحادثة كانت بمثابة جرس إنذار للعالم.

شلل الملاحة الجوية: العالم على الأرض

عندما تتصاعد السحب البركانية، تفرض السلطات الجوية حظرا على الطيران في المناطق المتأثرة كإجراء وقائي. هذه القرارات، رغم ضرورتها، تؤدي إلى اضطراب شامل في حركة السفر والتجارة العالمية.

ثوران بركان إيافيالايوكل في أيسلندا عام 2010 كان مثالا صارخا على ذلك. فقد أُلغيت أكثر من 100,000 رحلة جوية خلال أسبوع واحد فقط، مما أثر على أكثر من 10 ملايين مسافر. أصبح السفر بين القارات شبه مستحيل، وتعطلت سلاسل التوريد العالمية، خاصة تلك التي تعتمد على النقل الجوي السريع مثل الأدوية والأغذية الطازجة.

خسائر اقتصادية: فاتورة السماء المغلقة 

تعطل الطيران لا يعني فقط معاناة المسافرين، بل يؤدي إلى خسائر اقتصادية هائلة. شركات الطيران تتحمل تكلفة إلغاء الرحلات وإعادة جدولة الرحلات المتأخرة، بينما تتحمل المطارات وشركات الشحن خسائر الإيرادات. في حالة بركان إيافيالايوكل، قدّرت الخسائر اليومية لشركات الطيران بأكثر من 200 مليون دولار، إضافة إلى التأثير غير المباشر على القطاعات المرتبطة مثل السياحة والتجارة.

اضطراب في حياة المسافرين: الكوكب بلا أجنحة

إن تعطيل حركة الطيران لا يقتصر على الشركات، بل يمتد ليشمل حياة الملايين من الناس. مسافرون عالقون في المطارات، أعمال تجارية تتأخر، ولمّ شمل عائلات يتأجل. هذه المواقف تخلق حالة من الفوضى الإنسانية والاجتماعية التي تتطلب جهودًا مضاعفة للتعامل معها.

التأثير على البيئة: مفارقة الطبيعة

المفارقة الغريبة هي أن تعطيل حركة الطيران بسبب البراكين له تأثير إيجابي مؤقت على البيئة. أثناء ثوران بركان إيافيالايوكل، أدى توقف الطيران في أوروبا إلى خفض انبعاثات الكربون بمقدار 2,8 مليون طن خلال فترة الحظر. ومع ذلك، تبقى هذه الفوائد قصيرة الأمد مقارنة بالخسائر التي تسببها السحب البركانية.

رسالة من السماء

إن اضطراب الرحلات الجوية بسبب البراكين يُظهر بوضوح هشاشة البنية التحتية العالمية أمام قوة الطبيعة. إنه تذكير بأن الإنسان، رغم كل تقنياته المتقدمة، ما زال عرضة لنزوات الأرض وسُحبها.

ويبقى السؤال مطروحا: كيف يمكننا التكيف مع هذه التحديات؟ ربما يكمن الجواب في تطوير تكنولوجيا طيران أكثر مقاومة للرماد البركاني، واستراتيجيات استجابة أسرع وأكثر كفاءة. لكن حتى ذلك الحين، ستظل السماء تنقل رسائلها بطريقتها الخاصة، تحذرنا بأننا مجرد ضيوف على كوكبها المتقلب.

3ـ تهديد الأمن الغذائي: الرماد البركاني يمكن أن يغطي الأراضي الزراعية، مما يؤدي إلى تدهور التربة وصعوبة الزراعة.

عندما يتحول الرماد البركاني إلى لعنة على الحقول

في ثنايا الكوارث الطبيعية، يكمن تأثير البراكين على الأمن الغذائي كواحد من أكثر التداعيات إلحاحا وخطورة. فالرماد البركاني، على الرغم من مظهره السحري الذي يزين السماء، يُصبح كارثة حين يستقر على الأرض. إن هذه الطبقة الرمادية الكثيفة ليست مجرد غبار عابر، بل غطاء خانق للأراضي الزراعية، يعيد تشكيل المشهد الزراعي بطرق كارثية تهدد غذاء الملايين.

اختناق التربة: منبع الحياة يُصاب بالشلل 

عندما تهطل سحب الرماد البركاني فوق الحقول، تغطي سطح التربة بطبقة عازلة تمنع تبادل الغازات الأساسية التي تحتاجها النباتات للبقاء. هذا الغطاء يقلل من نفاذية الماء والهواء، مما يعيق نمو المحاصيل، ويحول الأراضي الخصبة إلى أرض بور بلا حياة.

على سبيل المثال، في أعقاب ثوران بركان بيناتوبو في الفلبين عام 1991، تغطت الأراضي الزراعية المحيطة بطبقات سميكة من الرماد، مما أدى إلى توقف الزراعة بالكامل لسنوات.

التسمم بالنباتات: ثمن السموم البركانية 

الرماد البركاني غالبا ما يكون محمّلا بالمعادن الثقيلة والمواد الكيميائية السامة مثل الكبريت والفلوريد. عندما تختلط هذه السموم بالتربة أو تُغسل إلى مصادر المياه، تتحول إلى قاتل خفي للنباتات والحيوانات. المحاصيل التي تنجو من الاختناق تصبح غير صالحة للاستهلاك البشري أو الحيواني، مما يزيد من حجم الأزمة.

ثوران بركان إل شيتشون في المكسيك عام 1982 هو مثال بارز، إذ أدى تسرب الكبريت إلى تلوث مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية، ما أثر على ملايين الأشخاص الذين كانوا يعتمدون على تلك الأراضي في معيشتهم.

انهيار سلاسل الإمداد الغذائي: حين تتوقف المزرعة والمائدة 

الكوارث البركانية لا تدمر الأراضي الزراعية فحسب، بل تضرب أيضا سلاسل الإمداد الغذائي. الطرق المسدودة، والنزوح الجماعي للسكان، وتلوث المحاصيل يؤدي إلى نقص حاد في الإمدادات الغذائية في المناطق المتضررة، بل يمتد إلى مناطق أبعد تعتمد على هذه المناطق كمصدر رئيسي للغذاء.

على سبيل المثال، أدى ثوران بركان إيافيالايوكل في أيسلندا عام 2010 إلى اضطرابات في تصدير المنتجات الزراعية مثل الأسماك واللحوم بسبب توقف النقل الجوي، مما أثر على الأسواق الأوروبية بشكل ملحوظ.

أزمة الرعاة والمواشي: الضحية الصامتة 

لا تقف آثار الرماد البركاني عند النباتات فقط، بل تمتد إلى الحيوانات التي تعتمد عليها في غذائها. عندما تتغطى الحقول بالرماد، تجد الماشية نفسها بلا طعام. والأسوأ، أن استهلاك الحشائش الملوثة يؤدي إلى تسممها ونفوقها، مما يحرم السكان من مصدر رئيسي للحليب واللحوم.

في كولومبيا، بعد ثوران بركان نييفادو ديل رويز، فقد الرعاة الآلاف من رؤوس الماشية بسبب الرماد السام الذي غطى مناطق الرعي، مما أدى إلى كارثة اقتصادية وغذائية للسكان المحليين.

الأثر طويل المدى: الأرض تحتاج إلى عقود للتعافي 

حتى بعد توقف ثوران البركان، تظل الأرض بحاجة إلى سنوات طويلة للتعافي من أثر الرماد. التربة تفقد خصوبتها، والمزارعون يحتاجون إلى جهود مضاعفة لإعادة تأهيل أراضيهم، بتكاليف باهظة ليست في متناول الجميع. في بعض الحالات، تتحول الأراضي المتضررة إلى مناطق مهجورة، مما يترك السكان المحليين في مواجهة نزوح دائم بحثا عن أراضٍ جديدة صالحة للزراعة.

رسالة من الأرض إلى البشر 

إن تهديد الأمن الغذائي الناتج عن البراكين ليس مجرد مسألة محلية، بل إن تأثيره يمتد إلى الأسواق العالمية، حيث يرتفع الطلب وتتصاعد الأسعار، ليشعر الجميع بوطأة الكارثة. في هذه اللحظات، تدق الأرض ناقوس الخطر، وتذكرنا بأن توازنها الهش ينقلب رأسًا على عقب بفعل قوى الطبيعة.

لذلك، يجب أن نعيد التفكير في أسلوب تعاملنا مع البيئة، ونسعى لتطوير استراتيجيات أكثر كفاءة لمواجهة هذه الكوارث. فالغذاء ليس مجرد سلعة، بل هو شريان الحياة الذي يربطنا بهذه الأرض، وأي خلل فيه  يدفعنا جميعًا إلى شفا المجاعة

4ـ التداعيات الاقتصادية: تؤدي هذه الكوارث إلى خسائر اقتصادية فادحة نتيجة تدمير البنى التحتية وتشريد السكان.

فاتورة الأرض الغاضبة 

حين تصحو البراكين النائمة من سباتها، لا تقتصر آثارها على المشهد الجيولوجي المهيب، بل تمتد لتكتب فصلا جديدا من المآسي الاقتصادية، إذ تعصف تداعياتها بأمان المجتمعات واستقرارها. إنها ليست مجرد جبال تثور، بل آلات عملاقة تسحق في طريقها الاقتصاد والبنية التحتية، تاركة خلفها خسائر تُقدّر بالمليارات، وأحيانا ما لا يمكن قياسه من المعاناة الإنسانية.

تدمير البنية التحتية: انهيار الأساسات واندثار المدن 

عندما يثور بركان، فإنه يطلق حمما بركانية ملتهبة، وغيوما من الرماد، ما يجعل أي منشأة من طرق أو جسور أو شبكات كهرباء عاجزة عن الصمود. في ثوانٍ، يمكن لمدينة بأكملها أن تتحول إلى كومة من الرماد والأنقاض، مما يتطلب جهودًا هائلة لإعادة الإعمار.

على سبيل المثال، ثورة بركان مونت بيليه في المارتينيك عام 1902 أدى إلى محو مدينة سان بيير بالكامل، وكانت تُعرف آنذاك بـ”باريس الكاريبي”، لتتحول إلى أطلال لا تُنسى.

شلل الاقتصاد المحلي: توقف عجلة الإنتاج 

المناطق المتأثرة تصبح بؤرا للخسائر الاقتصادية، حيث تُغلق المصانع، وتُهجر الحقول، وتتوقف الأسواق. الكوارث البركانية تُحيل الأنشطة الاقتصادية إلى حالة من الجمود، مما يدفع السكان المحليين إلى النزوح، ويترك المدن التي كانت تنبض بالحياة خاوية على عروشها.

في إندونيسيا، على سبيل المثال، أدت ثورة بركان ميرابي إلى تدمير مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية الخصبة، ما أثر على الأمن الغذائي وأدى إلى خسائر بالملايين في قطاع الزراعة فقط.

تشريد السكان: فاتورة اجتماعية ثقيلة 

إن البراكين لا تكتفي بتدمير المباني، بل تهجّر البشر من منازلهم، تاركة الآلاف بلا مأوى. ومع فقدان الناس لأعمالهم ومصادر دخلهم، تتحول المجتمعات إلى عبء على الدولة، حيث تزداد الحاجة إلى توفير المأوى، والغذاء، والرعاية الصحية.

مثال ثورة بركان بيناتوبو في الفلبين عام 1991 أدى إلى نزوح أكثر من 200 ألف شخص. هؤلاء السكان فقدوا منازلهم وأعمالهم، واضطروا إلى الانتقال إلى مخيمات إيواء، مما أثقل كاهل الحكومة بمصاريف إضافية لسنوات طويلة.

التأثير على التجارة العالمية 

البراكين لا تعترف بالحدود الجغرافية، وتداعياتها الاقتصادية تطال العالم بأسره. عندما يغطي الرماد البركاني الأجواء، تعاني حركة التجارة الدولية. إغلاق المطارات وتعطل الشحن الجوي يؤدي إلى خسائر يومية تُقدّر بملايين الدولارات.

ثورة بركان إيافيالايوكل في أيسلندا عام 2010، على سبيل المثال، تسبب في تعطيل الرحلات الجوية عبر أوروبا لمدة أسبوع كامل، مما أثر على التجارة والسياحة، وتسبب بخسائر بلغت أكثر من 5 مليارات دولار.

كلفة إعادة الإعمار: الأثر الممتد لعقود 

الأمر لا ينتهي بانطفاء البركان، بل يبدأ التحدي الحقيقي: إعادة بناء ما دمرته الكارثة. الحكومات تحتاج إلى استثمارات ضخمة لإصلاح الطرق، وإعادة بناء المدن، وتعويض السكان المتضررين. وفي كثير من الأحيان، تتحمل الأجيال القادمة عبء هذه الكوارث على شكل ديون ضخمة أو تقليص للإنفاق في قطاعات حيوية مثل التعليم والصحة.

ثورة بركان نييفادو ديل رويز في كولومبيا عام 1985 ليس ببعيد، فقد كلّف الحكومة أكثر من 1,2 مليار دولار لإعادة إعمار ما دمره البركان، وهو مبلغ ضخم بالنسبة لدولة نامية.

رسالة إلى العالم: الكارثة ليست مجرد مشهد 

إن صحوة البراكين النائمة ليست مجرد ظاهرة طبيعية، بل اختبار حقيقي لصلابة الاقتصادات واستعدادها لمواجهة المجهول. لذلك، فإن الاستثمار في الوقاية والتخطيط للطوارئ ليس ترفا، بل ضرورة ملحة.

قد نعيش في زمن التكنولوجيا المتقدمة، لكن الأرض ما زالت قادرة على تذكيرنا بجبروتها، وعواقب تجاهلنا لتحذيراتها تكون فادحة على جميع المستويات.

نظرة إلى المستقبل

العالم يقف اليوم عند منعطف خطير. فبينما ننظر إلى التغيرات المناخية باعتبارها تهديدا فوق سطح الأرض، نغفل أحيانا ما يحدث في أعماقها. صحوة البراكين النائمة  تكون رسالة من الأرض، تخبرنا أن الاختلال البيئي لا يمر دون عواقب.

لذلك، يجب أن نتعامل مع قضية التغير المناخي بجدية تامة، ليس فقط لإنقاذ أنفسنا من الفيضانات والجفاف، ولكن أيضا لتجنب استيقاظ غضب الأرض الكامن في أعماقها. إنها دعوة للعلماء والحكومات للعمل معا، لأننا جميعا على هذا الكوكب في مركب واحد، وأي خلل قد يغرقنا جميعا.

البراكين النائمة: حين يُوقظها غضب المناخ

في أعماق الأرض، تظل البراكين النائمة على مدى قرون وكأنها مارد مكبل بأغلال الزمن. لكنها ليست سوى صامتة مؤقتا، تنتظر اللحظة المناسبة لتنفجر، وكأنها ترد على التغيرات المناخية بصحوة مفاجئة تهز الأرض والسماء.

17 بركانًا ثائرًا: إشارات إنذار من أعماق الأرض

في الأعوام الأخيرة، شهد العالم صحوة 17 بركانا كانت مدرجة على قائمة “النائمة”، لتعود إلى الحياة فجأة بعد قرون من السكون. من بركان سيمايرو في إندونيسيا إلى ماونا لوا في هاواي، انفجارات هذه العمالقة أرسلت رسالة واضحة: التغيرات المناخية ليست مجرد ارتفاع في درجات الحرارة أو ذوبان الجليد، بل محفز خفي لنشاط جيولوجي غير متوقع.

عودة عدد من البراكين النائمة إلى النشاط بعد قرون من السكون، يعكس تأثيرا محتملا للتغيرات المناخية على النشاط الجيولوجي.

ماونا لوا – هاواي، الولايات المتحدة: أكبر بركان نشط في العالم، استأنف نشاطه في نوفمبر 2022 بعد قرابة 40 عاما من الهدوء.

فيلاريكا – تشيلي: بدأ يظهر نشاطا ملحوظا قرب نهاية عام 2022.

شيڤيلوتش – روسيا (شبه جزيرة كامتشاتكا): انفجر في نوفمبر 2022 وأطلق أعمدة ضخمة من الرماد.

إتنا – إيطاليا: شهد عدة انفجارات خلال 2022، أبرزها في فبراير ويونيو.

وولف – جزر غالاباغوس، الإكوادور: نشط في يناير 2022 وأطلق تدفقات كبيرة من الحمم.

سيمايرو – إندونيسيا: استمر في نشاطه الملحوظ في ديسمبر 2022.

كومبري بييخا – جزر الكناري، إسبانيا: أُعلن عن هدوئه في ديسمبر 2021 بعد سلسلة انفجارات استمرت ثلاثة أشهر.

بركان سانتياغو – نيكاراغوا: سجل نشاطا في أبريل 2022.

تُعد الأنشطة البركانية نشطة بشكل ملحوظ في عدة مواقع حول العالم خلال الأسابيع الأخيرة.

ـ إندونيسيا:

– جبل ميرابي Merapi  شهد انفجارات مستمرة مع تسجيل تدفقات حممية لمسافة تصل إلى 1,7 كم على الجانب الجنوبي الغربي. مستوى التحذير لا يزال عند الدرجة الثالثة من أربع درجات، مع توصيات بالابتعاد لمسافة 3 – 7 كم عن القمة.

ـ جبل سيميرو  Semeru:  شهد أعمدة رماد تصل إلى كيلومتر واحد فوق القمة، مع استمرار نشاط الانفجارات اليومية. مستوى التحذير عند الدرجة الثانية، مع تحذيرات من الاقتراب لمسافة أقل من 5 كم.

ـ جبل ليوطوبي Lewotobi: استمرت النشاطات البركانية مع تدفقات حمم تصل إلى 3,8 كم. أثر النشاط على أكثر من 10,000 شخص وأدى إلى 10 وفيات. مستوى التحذير في الدرجة الرابعة.

(مصدر البراكين: https://www.usgs.gov/data/chronology-recent-volcanic-activity-island-hawaii-hawaii)

ـ هاواي، الولايات المتحدة:

 ـ ثلاثة براكين نشطة تاريخيا على جزيرة هاواي، وهي ماونا لوا، كيلوا، وهوالالاي، مع استمرار الدراسات لتوثيق الأنشطة البركانية السابقة والحالية. هذه البراكين تشكل أكبر تهديد جيولوجي في المنطقة بسبب قدرتها على الانفجار المفاجئ.

تسلط هذه الأحداث الضوء على العلاقة المعقدة بين النشاط الجيولوجي والتغيرات البيئية، مما يستدعي المزيد من البحث لفهم الروابط المحتملة.

عندما يؤدي تغير المناخ إلى ذوبان الجليد في المناطق القطبية أو فوق القمم الجبلية، يُخفف الضغط الهائل الذي كان يكبح الحمم البركانية في الأعماق، مما يسمح لها بالصعود إلى السطح. إضافة إلى ذلك، فإن الأمطار الغزيرة الناتجة عن الأنماط المناخية المتغيرة تزيد من زعزعة استقرار القشرة الأرضية، مهيئةً الظروف المناسبة لانفجار البراكين.

البراكين النائمة في العالم العربي: أسود تحت الرماد 

الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ليست بمنأى عن هذه الظاهرة. المنطقة، الغنية بتاريخها وأرضها، تحمل في أحشائها براكين نائمة، قد تصحو فجأة، كما صُدمت الأرض من قبل بثوران بركان حرة البرك في شبه الجزيرة العربية منذ حوالي 700 عام.

شبه الجزيرة العربية: بركان حرة رهاط

يقع هذا البركان في المدينة المنورة بالمملكة العربية السعودية، وهو أحد أكبر الحقول البركانية في المنطقة. آخر ثوران له كان في عام 1256 ميلادية، لكنه يُظهر علامات نشاط زلزالي تشير إلى احتمالية ثورانه مجددا، خاصة مع التغيرات المناخية المتسارعة.

ـ اليمن: بركان جبل الطير

في البحر الأحمر، يقف بركان جبل الطير كحارس صامت. ثار للمرة الأخيرة عام 2007، مما يُظهر أنه ليس بعيدا عن العودة إلى الحياة. التغيرات في أنماط المياه الجوفية والضغط التكتوني تلعب دورًا في إيقاظه.

ـ شمال إفريقيا: جبال الأطلس والجزائر 

في المغرب والجزائر، هناك براكين خامدة على امتداد جبال الأطلس. بركان توبقال في المغرب، رغم هدوئه منذ آلاف السنين، يحمل إمكانيات للنشاط إذا تزايدت الظروف المناخية والتكتونية الملائمة.

بلاد الشام: البراكين الدرزية في سوريا 

البراكين القديمة في جنوب سوريا، كحرة الشام، تُعتبر نائمة منذ آلاف السنين. لكن الضغط التكتوني المتزايد  يكون سببا في إعادة إحيائها في المستقبل.

هل نستعد لما هو قادم؟ 

صحوة البراكين النائمة لا تعني فقط كوارث جيولوجية، بل رسائل من الأرض نفسها. الانفجارات البركانية تُطلق ملايين الأطنان من الرماد والغازات في الجو، مما يُسااهم في تغير المناخ بشكل أكبر، عبر تبريد الأرض أو تعطيل الأنماط المناخية.

في مواجهة هذا السيناريو، يجب على الدول العربية الاستعداد من خلال تعزيز أنظمة المراقبة الجيولوجية والإنذار المبكر. كما يجب استثمار المزيد في الأبحاث لفهم العلاقة بين تغير المناخ والنشاط البركاني، وتطوير خطط طوارئ لمواجهة الكوارث.

رسالة الأرض: صوت الأعماق 

البراكين النائمة ليست غائبة عن الحياة، بل هي في انتظار. وإن كانت التغيرات المناخية هي المفتاح الذي يوقظها، فعلى البشرية أن تستعد لحقبة من المواجهة مع قوى الطبيعة التي تتجاوز كل التصورات. والسؤال الذي يظل عالقًا في الأذهان: كم من الوقت تبقى قبل أن تصحو تلك العمالقة في منطقتنا؟ وهل نحن مستعدون لسماع أصوات الأعماق؟

صحوة الطبيعة: رسالة أخيرة قبل الانهيار

منذ الأزل، كان البشر جزءا لا يتجزأ من هذا الكوكب، يتناغمون مع إيقاع الطبيعة، يزرعون ويجنون، يشيدون ويبدعون، لكن دائما باحترام يليق بالأرض التي تحتضنهم. إلا أن هذا التوازن لم يدم طويلا؛ فقد انقلبنا على قوانين الطبيعة، واستبدلنا التناغم بالجشع، والتطوير بالتدمير، حتى بدت الأرض وكأنها تنزف تحت وطأة أفعالنا.

غضب الطبيعة الذي تأخر طويلًا 

لم تكن الطبيعة يوما عاجزة، لكنها كانت صبورة. أغمضت عينيها على انبعاثات المصانع، وتسامحت مع حرائق الغابات، وتحملت زحفنا الذي لم يترك جبلا أو غابة أو محيطا في مأمن. لكنها الآن تصحو، كوحش أُجبر على الخروج من سباته. براكين تثور، أنهار تفيض، محيطات تغضب، وأعاصير تقتلع كل ما في طريقها. إنها ليست مجرد كوارث طبيعية عابرة، بل رسالة صارخة: “كفى عبثا، لقد بلغ السيل الزبى”.

صراع البشر مع مرآة أعمالهم 

ما يحدث ليس مجرد تمرد للطبيعة، بل هو انعكاس دقيق لما زرعناه بأيدينا. كل بركان يستيقظ، وكل فيضان يجرف الأرض، وكل عاصفة تدمر المدن، ما هي إلا مرآة تعكس أفعالنا. إنها الطبيعة وهي تصرخ في وجوهنا: “أنتم السبب في هذه الفوضى، وأفعالكم هي التي ستجني عليكم”.

هل نستيقظ كما استيقظت الطبيعة؟ 

بينما تشتعل السماء بالسحب البركانية وتغرق الأراضي بالأمطار الغزيرة، يبقى السؤال معلقا: متى يصحو البشر؟ كيف يمكننا أن نظل غارقين في سباتنا، بينما الطبيعة نفسها استيقظت لتقاوم ما فعلناه بها؟ إذا كنا قد أفقنا من نومنا في وجه كوارث مدمرة، فعلينا أن ندرك أن هذا الصحو يجب أن يتحول إلى فعل.

رسالة البداية: فرصة للتغيير قبل النهاية

لقد أصبحت الأرض بمثابة لوحة احتجاج عملاقة، تُظهر غضبها في كل زاوية: ألسنة اللهب تلتهم الغابات، المياه تغمر المدن، الرياح تعصف وكأنها تريد اقتلاع ما شيدناه. لكن في وسط هذا الدمار، تظل هناك فرصة. رسالة الطبيعة ليست انتقاما فقط، بل هي أيضا تحذير أخير: أنقذوا ما يمكن إنقاذه، وعودوا إلى التوازن الذي كنتم تعرفونه، قبل أن يصبح الصراخ بلا جدوى.

اكتب هذه الكلمات لاؤكد أن الوقت لم ينفد بعد، وأننا نستطيع التصالح مع الطبيعة وإعادة بناء علاقة تقوم على الاحترام والتوازن. لكن علينا أن نسأل أنفسنا: هل نملك الشجاعة لنعترف بأخطائنا؟ وهل نملك الحكمة لنتعلم من رسائل الطبيعة قبل فوات الأوان؟

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى