حين تتلاشى الثقة.. مشهد في بنك يكشف أزمة إنسانية
بقلم: د.أسامة بدير
لقد كنت شاهداً على مشهد أوجع قلبي، وأيقظ بداخلي تساؤلات عن حال العلاقات الأسرية اليوم. في أحد البنوك الحكومية، رأيت سيدة مُسنة، يملأ وجهها التعب، تستند على شاب يبدو أنه ابنها، تخطو بصعوبة بالغة نحو ماكينة الصراف الآلي لتصرف معاشها بنفسها.
كانت كل حركة تقوم بها تفيض بالمشقة، ومع ذلك، لم تسلّمه بطاقة الفيزا ليقوم بالمُهمة نيابةً عنها، بل فضّلت خوض هذا العناء الجسدي وهي في أمسّ الحاجة للراحة.
هذا المشهد لم يكن مجرد لحظة عابرة في يومي، بل كان صورة صارخة لواقع مرير: لماذا لم تثق في ابنها ليصرف لها المعاش بينما تنتظر في منزلها؟ لماذا اختارت المشقة على أن تضع مالها في يده؟
أنا على يقين بأن هذا القرار لم يكن اعتباطياً، بل كان نتيجة تراكمات نفسية واجتماعية، حيث أصبح المال في كثير من الأحيان مصدر قلق وخوف داخل الأسرة بدلاً من أن يكون وسيلة للأمان والراحة. هذا الأمر يدفعني للتساؤل بمرارة: هل وصلت بنا الحياة إلى مرحلة يكون فيها الابن موضع شك في عين أمه، التي يفترض أنها تعرفه أكثر من أي شخص آخر؟ هل خافت أن يأخذ المال دون علمها؟ أم أنها سمعت عن قصص أخرى دفعتها لهذا الحذر المُفرط؟
من منظور علم الاجتماع، يمكن تفسير هذا المشهد وفقاً لنظرية “التبادل الاجتماعي”، التي تؤكد أن العلاقات الإنسانية تقوم على مبدأ المنفعة المتبادلة والثقة المشتركة. لكن حين تهتز هذه الثقة، يتحول التفاعل بين الأفراد إلى علاقة مشروطة بالحذر والتوجس، وهذا ما بدا جلياً في تصرف هذه السيدة. فبدلاً من أن تعتمد على ابنها كما كانت تفعل وهو صغير، باتت تشعر أنه لم يُعد مصدراً للأمان، بل ربما أصبح مصدر قلق مُحتمل، وهو أمر كارثي في نسيج الأسرة والمجتمع ككل.
أنا أؤكد أن تفشي هذه الظاهرة يُنذر بعواقب خطيرة، إذ يؤدي إلى عزلة نفسية واجتماعية بين الآباء والأبناء، ويُكرّس حالة من الجفاء العاطفي، حيث يُصبح المال ليس فقط وسيلة للمعيشة، بل أداة لقياس الثقة التي يُمكن أن تكون مفقودة حتى بين أقرب الناس. وإذا استمرت هذه الفجوة، فقد نجد في المستقبل آباءً يعيشون حياتهم وهم يشعرون بالارتياب من أبنائهم، وأبناءً يكبرون وهم يفتقدون الإحساس بالمسؤولية الحقيقية تجاه أهلهم، لأنهم نشؤوا في بيئة لم تمنحهم هذه الثقة منذ البداية.
أرى أن الحل لا يكمن فقط في التربية، بل في إعادة بناء مفهوم الثقة داخل الأسرة. علينا أن نُعلّم أبناءنا منذ الصغر أن الأمانة ليست مجرد قيمة أخلاقية، بل هي حجر الأساس في كل علاقة ناجحة. كما يجب تعزيز الحوار بين أفراد الأسرة، فلا يشعر الآباء بأنهم مضطرون لحماية أموالهم من أبنائهم، ولا يشعر الأبناء بأنهم متهمون بالخيانة قبل أن يرتكبوا أي خطأ.
إن ما رأيته في ذلك البنك لم يكن مُجرد موقف عابر، بل كان مرآة تعكس مشكلة اجتماعية عميقة. فإن لم نعد بناء جسور الثقة داخل الأسرة، فسنجد أنفسنا في عالم يفتقد الدفء العائلي، حيث يُصبح كل فرد في الأسرة كياناً منفصلاً، خائفاً من الآخر، متوجساً منه، بدلاً من أن يكون سنداً وملاذاً له.
🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.