توصيات ومبادرات ناجحة لتمويل البحث العلمي في الدول المتقدمة والنامية
روابط سريعة :-
بقلم: د.شكرية المراكشي
الخبير الدولي في الزراعات البديلة ورئيس مجلس إدارة شركة مصر تونس للتنمية الزراعية
في ظلّ التباين الصارخ بين الدول المتقدمة والنامية والعربية في ما يتعلق بتمويل البحث العلمي، تتجلّى الحاجة الملحّة اليوم إلى تبني رؤية واقعية وشجاعة، تتجاوز لغة التشخيص إلى ميدان الفعل والمبادرة. فالتحديات التي تواجه تمويل البحث العلمي ليست معوّقات جامدة لا يمكن تحريكها، بل هي في جوهرها نوافذ تنتظر من يملك الشجاعة لفتحها. ومع تنامي الضغوط البيئية والغذائية والصحية والتكنولوجية في عالم سريع التحول، يصبح تعزيز منظومات البحث العلمي ليس خيارًا ترفيهيًا، بل ضرورة وجودية تُبنى عليها سيادة الدول وكرامة شعوبها.
إن واقع التفاوت بين الدول المتقدمة التي ترفل بميزانيات بحثية بالمليارات، والدول النامية التي تكافح لإيجاد موطئ قدم في خارطة الابتكار العالمي، والدول العربية التي تعاني من فجوات تمويلية وتشريعية وثقافية، يضعنا أمام مفترق طرق تاريخي. لا يمكن لأي أمة أن تصون أمنها الغذائي، وتطوّر قطاعها الصحي، وتنهض بصناعاتها الوطنية، دون أن تمتلك منظومة بحث علمي متكاملة، قادرة على أن تتحول من مجرد فضاء أكاديمي نظري إلى أداة إنتاج حقيقي ورافعة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
ولعلّ ما يبعث على الأمل أن نماذج النجاح ليست بعيدة أو مستحيلة المنال، بل نراها متحققة أمام أعيننا في دول سبقتنا بخطوات ولكنها انطلقت من ظروف شبيهة. تجارب مثل تجربة “Embrapa” في البرازيل، أو “AgriTech” في الهند، أو التحول الجذري في كوريا الجنوبية من دولة نامية إلى قوة تكنولوجية خلال عقود قليلة، تقدم لنا دروسًا ثمينة. فكلّ تجربة ناجحة انطلقت من وضوح الرؤية السياسية، وتحفيز القطاع الخاص، وفتح قنوات التعاون الدولي، والأهم من ذلك: الإيمان بأن البحث العلمي ليس ترفًا مؤجلًا، بل أساس البناء الحضاري.
وعليه، فإن الجزء الخامس من هذا التقرير يقدم توصيات عملية موجّهة خصيصًا إلى كل فئة من الدول، مع أمثلة حية لبرامج ومبادرات نجحت في تحويل العقبات إلى فرص، والمحدوديات إلى قصص نجاح. توصيات تراعي الفروق الاقتصادية والبنيوية لكل فئة، لكنها تشترك في شيء واحد: أن الإرادة السياسية والتخطيط السليم يمكن أن يصنعا المعجزات حتى في أصعب الظروف.
1ـ الدول المتقدمة (تمويل مرتفع)
التوصيات
زيادة الاستثمارات في البحث التطبيقي: التركيز على الأبحاث القابلة للتطبيق المباشر في المزارع والمصانع.
رغم ما تتمتع به الدول المتقدمة من ميزانيات ضخمة مخصّصة للبحث العلمي، وما تحققه من إنجازات رائدة على صعيد الابتكار والتكنولوجيا، إلا أن هذه الوفرة المالية لا تعني الاكتفاء أو الركون إلى الإنجاز، بل تفتح الباب أمام ضرورة مراجعة الأولويات والتركيز بشكل أعمق على نوعية الأبحاث وجدواها على أرض الواقع. في هذا السياق، تبرز أهمية توجيه المزيد من الاستثمارات نحو البحث التطبيقي، الذي يعدّ الجسر الحقيقي بين المختبرات والحقول، بين النظرية والإنتاج، بين الأوراق العلمية ورفوف الأسواق.
إن توجيه الدعم نحو الأبحاث القابلة للتطبيق المباشر في قطاعات حيوية كالمزارع والمصانع، لا يسهم فقط في رفع الكفاءة الاقتصادية، بل يعزز كذلك من مرونة المجتمعات في مواجهة التحديات الطارئة، مثل التغير المناخي، وتقلبات الأسواق، ونقص الموارد. في الزراعة مثلًا، لم تعد المسألة محصورة في تطوير سلالة أكثر إنتاجية فحسب، بل تشمل إيجاد حلول ذكية لنُظم ريّ موفرة للماء، وأساليب حصاد دقيقة، وتحسين إدارة المخلفات الزراعية. في المصانع، لا يُطلب فقط زيادة الإنتاج، بل تقليله من حيث البصمة الكربونية، وزيادة الكفاءة الطاقية، ورفع مستويات الأتمتة المرتبطة بالذكاء الاصطناعي.
ولعلّ من أبرز النماذج الملهمة في هذا المجال مبادرة “Horizon Europe“ التي أطلقتها المفوضية الأوروبية، بميزانية تزيد عن 95 مليار يورو (2021-2027)، والتي خصصت جزءًا كبيرًا منها لدعم مشاريع بحثية تطبيقية تعزز التحوّل الأخضر والرقمي، وتشجع الشركات الصغيرة والمتوسطة على الانخراط في تطوير حلول قابلة للتطبيق الفوري. وفي الولايات المتحدة، أنشأت وزارة الزراعة برنامجًا تحت اسم “AFRI – Agriculture and Food Research Initiative” الذي يموّل الأبحاث التطبيقية في مجالات الأمن الغذائي والزراعة الدقيقة، بميزانيات تصل إلى 500 مليون دولار سنويًا، موجهة خصيصًا لحل مشاكل المزارعين والمصنعين وليس فقط لإنتاج أوراق علمية.
إن مستقبل البحث العلمي في الدول المتقدمة لن يُقاس بعدد براءات الاختراع فقط، بل بمدى قدرة تلك الابتكارات على تغيير حياة الناس، وتسهيل أعمالهم، وزيادة إنتاجهم، وتحقيق الاستدامة البيئية والاقتصادية في آنٍ واحد. لذا فإن تعزيز البحث التطبيقي لم يعد خيارًا تحسينياً، بل ضرورة استراتيجية تضمن بقاء هذه الدول في طليعة الابتكار العالمي، لا كمراكز للتجريب، بل كمحركات فاعلة للتغيير والإنتاج الحقيقي.
تعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص: لتسريع نقل التكنولوجيا وتسويق الابتكارات. .
في ظل التطور المتسارع في ميادين التكنولوجيا والابتكار، لم يعد بالإمكان للقطاع العام أن يحمل وحده عبء تطوير المعرفة وتطبيقاتها، كما لم يعد القطاع الخاص مجرد مستفيد سلبي من نتائج الأبحاث. بل بات من الضروري، وأكثر من أي وقت مضى، بناء جسور تواصل وتكامل بين الجانبين، بحيث يُصبح التعاون بين القطاعين العام والخاص استراتيجية مركزية لتسريع نقل التكنولوجيا وتحويل الابتكارات إلى واقع ملموس يسهم في تحقيق التنمية المستدامة.
إن الجامعات ومراكز البحوث غالبًا ما تنتج كمًا هائلًا من المعرفة، إلا أن هذه المعرفة كثيرًا ما تبقى حبيسة الأدراج، ما لم تجد قناة عملية تنقلها إلى أرض السوق أو الحقل أو المصنع. هنا يظهر دور القطاع الخاص كعنصر ديناميكي يتقن لغة السوق، ويملك أدوات التسويق والتمويل والتوسع، ويبحث باستمرار عن الحلول التي تمنحه ميزة تنافسية. أما القطاع العام، فيمتلك من جانبه البنية التحتية الأكاديمية والتقنية، ويدير التمويل الحكومي، وله القدرة على توجيه السياسات بما يخدم الصالح العام.
هذا التكامل يفتح آفاقًا واسعة لخلق منظومات ابتكار حقيقية. في الدول المتقدمة، يتمثل هذا التعاون في إنشاء حاضنات أعمال ومراكز مشتركة بين الجامعات والشركات، حيث يعمل الباحثون والمهندسون ورجال الأعمال جنبًا إلى جنب لتطوير منتجات وخدمات جديدة. أحد الأمثلة البارزة على هذا النموذج هو برنامج “Innovate UK” الذي يموّل شراكات بين الجامعات البريطانية والشركات الصناعية لتطوير ابتكارات قابلة للتسويق، بقيمة تمويل تتجاوز 2.5 مليار جنيه إسترليني منذ تأسيسه.
ومن الأمثلة الأخرى التي تسلط الضوء على فاعلية هذا النهج، تجربة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، الذي يحتضن مئات الشركات الناشئة والمختبرات التكنولوجية المرتبطة مباشرة بالشركات الكبرى، كجنرال إلكتريك وبوينغ وجوجل. هذه الشراكات لا تُنتج فقط تكنولوجيا متقدمة، بل تخلق بيئة اقتصادية متكاملة تدرّ عوائد بمليارات الدولارات، وتوفر فرص عمل، وتعيد استثمار الأرباح في مزيد من الأبحاث.
إن تعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص لا يعني فقط مشاركة الموارد، بل يتطلب بناء ثقافة مشتركة قائمة على الثقة، والشفافية، وتقدير متبادل لقيمة العلم والسوق. وهذا لا يتحقق إلا من خلال إصلاحات تشريعية تدعم الملكية الفكرية المشتركة، وآليات تمويل مرنة، وحوافز ضريبية لتشجيع الشركات على الاستثمار في البحث العلمي.
في نهاية المطاف، فإن تسريع نقل التكنولوجيا وتحويل الأفكار إلى منتجات وخدمات واقعية لن يتحقق إلا حين تخرج الجامعات من أسوارها، وتدخل المصانع، وتجلس إلى طاولة واحدة مع رواد الأعمال، لتصنع معًا مستقبلًا أكثر ابتكارًا واستدامة.
التركيز على الاستدامة: تطوير تقنيات تقلل الأثر البيئي وتحسن كفاءة استخدام الموارد.
في عالم تتسارع فيه أزمات البيئة، وتضيق فيه هوامش الأمان المناخي، لم تعد الاستدامة مجرد خيار أخلاقي أو ترف نظري، بل أصبحت ضرورة وجودية، وأحد أعمدة السياسات المستقبلية للدول المتقدمة. لهذا بات التركيز على الاستدامة في البحث العلمي والتقنيات جزءاً لا يتجزأ من خطط التطوير الاقتصادي والاجتماعي، وخاصة في القطاعات الحيوية كالصناعة والزراعة والطاقة.
الاستدامة هنا لا تعني فقط المحافظة على الموارد، بل تعني بالأساس ابتكار طرق جديدة لإعادة تعريف علاقتنا مع الطبيعة ومع طريقة استخدامنا للموارد المتاحة. إنه توجه نحو كفاءة ذكية، حيث لا تُهدر نقطة ماء، ولا تُهلك قطعة أرض، ولا تُطلق جزيئة كربون بلا هدف. ولهذا نجد أن الدول المتقدمة تستثمر بكثافة في الأبحاث والتقنيات التي تقلل من الأثر البيئي للأنشطة الاقتصادية، وتزيد من كفاءة الطاقة، وتدعم التحول نحو الاقتصاد الدائري، الذي يعيد استخدام كل ما يُنتج بدل التخلص منه.
أحد أبرز الأمثلة على ذلك هو التوجه المتسارع نحو الزراعة الدقيقة (Precision Agriculture)، حيث تُستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي والطائرات دون طيار لتحليل التربة وتحديد الاحتياجات الدقيقة من المياه والأسمدة في كل جزء من الحقل، مما يؤدي إلى خفض استهلاك المياه بنسبة قد تصل إلى 40%، وتقليل استخدام المواد الكيميائية بنسبة 30%، وفقاً لتقارير صادرة عن منظمة الأغذية والزراعة (الفاو). هذا التحول لا يخدم فقط البيئة، بل يخدم أيضاً الاقتصاد، حيث يُحقق للمزارعين إنتاجية أعلى بتكاليف أقل.
كما نشهد في القطاع الصناعي توجهًا واسعًا نحو “الاقتصاد الخالي من الكربون“ (Net Zero Economy)، من خلال تطوير عمليات إنتاج خضراء، تعتمد على الطاقة المتجددة، وإعادة تدوير المخلفات، وتحسين كفاءة استهلاك الطاقة عبر تقنيات تعتمد على التحليل الذكي للبيانات. في ألمانيا، على سبيل المثال، تستثمر الحكومة مع شركات كبرى مثل Siemens وBASF في تطوير مصانع خضراء تقلل من انبعاثات الغازات الدفيئة بنسبة تفوق 70% مقارنة بالمعدلات التقليدية، وذلك بدعم مالي يفوق 5 مليارات يورو خلال السنوات الخمس الماضية، وفقًا لتقارير وزارة الاقتصاد والطاقة الألمانية.
الاستدامة ليست مجرد كلمة رنانة في خطابات المؤتمرات؛ إنها تتحول اليوم إلى قلب نابض للابتكار في الدول المتقدمة، وركيزة مركزية في تمويل البحث العلمي. الجامعات الكبرى لم تعد تكتفي بدراسات نظرية حول البيئة، بل أصبحت مراكز لتطوير حلول عملية، مثل المرشحات البيئية، والبطاريات القابلة لإعادة التدوير، وأنظمة الري الذكية، والبذور المقاومة للجفاف. أما الحكومات، فقد باتت تضع معايير استدامة صارمة لتمويل المشاريع البحثية، وتمنح الأفضلية للمبادرات التي تتعهد بتقليل البصمة البيئية وتحقيق الكفاءة.
إن التحول نحو الاستدامة لا يصب فقط في مصلحة البيئة، بل هو مسار استراتيجي لبناء اقتصادات أكثر قدرة على الصمود، وأكثر عدالة بين الأجيال. إنه الرهان الحقيقي على مستقبل تتوازن فيه التكنولوجيا مع الطبيعة، والربح مع المسؤولية، والتقدم مع الحياة.
توسيع نطاق الذكاء الاصطناعي والبيانات الكبيرة: لتحليل وتحسين الإنتاج الزراعي والحيواني والسمكي بشكل دقيق. .
في قلب الثورة التكنولوجية التي يعيشها العالم اليوم، يتربع الذكاء الاصطناعي والبيانات الكبيرة على عرش التحولات الكبرى في القطاعات الإنتاجية، لا سيما في الزراعة والإنتاج الحيواني والسمكي. لم يعد الاعتماد على الحدس والتجربة والخبرة وحدها كافياً لمواكبة التحديات المتصاعدة، سواءً المتعلقة بالأمن الغذائي أو بالتغيرات المناخية أو بندرة الموارد. فاليوم، أصبحت الخوارزميات الذكية قادرة على إحداث طفرة حقيقية في كيفية التخطيط والإنتاج والتوزيع، بل وحتى في فهم ما يدور داخل حقل أو مزرعة أو مفرخة سمكية على مستوى الجزيئات والعوامل المجهرية.
الذكاء الاصطناعي لا يأتي ليحل محل الإنسان، بل ليكون عينه الثالثة، وعقله الثاني. فبفضل تقنيات تعلم الآلة (Machine Learning) والشبكات العصبية، يمكن الآن معالجة كميات هائلة من البيانات – من الطقس والتربة وجودة المياه، إلى حركة الحيوانات ونمو النباتات وأنماط استهلاك الأعلاف – وتحويلها إلى قرارات فورية دقيقة، لا يمكن لأي عقل بشري بمفرده أن ينجزها بهذه السرعة والدقة.
في الزراعة، يُستخدم الذكاء الاصطناعي لتحليل الصور الجوية عبر الطائرات المسيّرة (Drones) من أجل الكشف المبكر عن الإصابات الحشرية أو نقص المغذيات في التربة، مما يسمح بالتدخل السريع قبل حدوث أي تدهور أو خسارة. ويمكن لهذه الأنظمة أن تقلل من استخدام المبيدات بنسبة تفوق 50%، بحسب دراسة حديثة نشرتها جامعة Wageningen الهولندية، الرائدة في الزراعة الرقمية.
أما في القطاع الحيواني، فبات من الممكن تركيب أجهزة استشعار دقيقة على أجسام الأبقار والأغنام ترصد درجات الحرارة، الحركة، معدل الأكل والشرب، وحتى الانفعالات الحيوانية، ليتم عبر خوارزميات دقيقة التنبؤ بأي مرض قبل ظهوره، أو تحسين توقيت التزاوج والتلقيح بما يزيد الإنتاجية وجودة اللحوم والألبان. وهنا تبرز تجارب دول مثل هولندا وكندا التي حققت قفزات إنتاجية تصل إلى 30% دون زيادة في عدد الحيوانات، فقط من خلال الذكاء الاصطناعي والتحليلات الدقيقة.
وفي المجال السمكي، ساهمت تقنيات تحليل البيانات والتعلم الآلي في تطوير أنظمة مراقبة ذكية داخل المزارع المائية، تقيس تركيز الأوكسجين ودرجة حرارة المياه ومستوى الأمونيا بشكل لحظي، وتعدّل تلقائيًا نسب الغذاء ودرجة التهوية. أحد الأمثلة الرائدة في هذا السياق هو مشروع “AquaCloud” في النرويج، الذي يُعدّ من أكبر قواعد البيانات السمكية في العالم، ويتيح مراقبة ملايين الأسماك وتحسين معدل بقائها ونموها بنسبة تجاوزت 25% خلال خمس سنوات فقط.
إن الذكاء الاصطناعي والبيانات الكبيرة لا يمثلان فقط مستقبل الإنتاج الغذائي، بل يشكلان السبيل الوحيد لتجاوز معادلة التحدي المعقدة: كيف ننتج أكثر، بموارد أقل، مع الحفاظ على البيئة، وتحقيق أرباح عادلة للمنتجين؟ هذه ليست رفاهية تقنية، بل خطة إنقاذ شاملة للعالم الزراعي والغذائي، وكلما تسارعت الدول في تبني هذه الأدوات، كلما اقتربت من تحقيق أمن غذائي حقيقي ومستدام.
أمثلة على مبادرات ناجحة
برنامج الزراعة الذكية في هولندا (Smart Farming): يعتمد على استخدام تقنيات الاستشعار عن بعد والذكاء الاصطناعي لتحسين الإنتاجية وتقليل استخدام المياه والأسمدة. .
في قلب الأراضي المنخفضة التي طالما عُرفت بإبداعها الزراعي، تقود هولندا اليوم ثورة جديدة على مستوى العالم تحت مسمى “الزراعة الذكية”، حيث يندمج العلم بالتكنولوجيا، وتتحول الحقول إلى مختبرات رقمية حيّة تديرها خوارزميات ذكية لا تنام. برنامج الزراعة الذكية في هولندا (Smart Farming) ليس مجرد فكرة نظرية أو مشروع تجريبي محدود، بل هو واقعٌ فعّال غيّر وجه الزراعة التقليدية، وجعل من هذا البلد الصغير جغرافيًا، عملاقًا زراعيًا عالميًا من حيث الكفاءة والإنتاجية والاستدامة.
في هذا البرنامج، تُستخدم تقنيات الاستشعار عن بعد بدقة مذهلة، حيث تنتشر آلاف المجسّات في التربة، وفي جذوع النباتات، وفي أنظمة الري، بل وفي الجو المحيط بالحقل. هذه المجسات تقيس كل ما يمكن أن يؤثر على نمو النبات: من درجة الرطوبة في العمق، إلى درجات الحرارة وتقلبات الطقس ونسبة النيتروجين في التربة، وحتى مستوى امتصاص الأوراق لأشعة الشمس. كل هذه البيانات يتم إرسالها لحظيًا إلى مراكز تحكم ذكية مزودة بأنظمة ذكاء اصطناعي تقوم بتحليل هذه الأرقام بعين باردة وعقل حسابي خارق، لتصدر بعدها أوامر دقيقة آلية لنظام الري أو التسميد أو مكافحة الآفات، دون حاجة لتدخل بشري مباشر.
النتيجة؟ انخفاض في استهلاك المياه يصل إلى 30-50% مقارنةً بالزراعة التقليدية، وتوفير هائل في استخدام الأسمدة والمبيدات بنسبة تتجاوز 40%، وكل ذلك مع الحفاظ على جودة المحصول، بل وتحسينه في كثير من الأحيان. واللافت أن هذا النظام لا يعتمد فقط على التكنولوجيا المجردة، بل يضع الاستدامة في صلب أهدافه، حيث يراعي الحفاظ على خصوبة التربة، وتقليل البصمة الكربونية، ومواجهة آثار التغير المناخي.
ومن أبرز مكونات هذا البرنامج كذلك، استخدام الطائرات المسيّرة (Drones) المزودة بكاميرات حرارية ومجسات متعددة الأطياف، لمسح الأراضي الزراعية يوميًا وتحليل الحالة الصحية للنباتات من الأعلى، لتُظهر للمهندس الزراعي خريطة حرارية ملونة تبيّن بدقة المناطق التي تحتاج عناية خاصة، دون الحاجة لرش أو ري شامل عشوائي.
إن هذا النموذج الهولندي لا يمثل فقط ثورة داخل الحدود الوطنية، بل صار قدوة عالمية تحتذي بها دول كثيرة تسعى لتحقيق الأمن الغذائي دون تدمير البيئة. لقد أثبتت هولندا، من خلال الزراعة الذكية، أن الإبداع لا يحتاج إلى مساحات شاسعة، بل إلى عقول جريئة، ورؤية تستثمر في التقنية والمعرفة من أجل غذاء الغد.
مشاريع وزارة الزراعة الأمريكية USDA’s Agriculture Innovation Agenda: تركز على تطوير أصناف محاصيل مقاومة للأمراض والجفاف، واستخدام التكنولوجيا الحيوية.
في قلب الريف الأمريكي، حيث تمتد الأراضي الزراعية على مد البصر وتشكل الزراعة شريانًا حيويًا للاقتصاد والأمن الغذائي، أطلقت وزارة الزراعة الأمريكية (USDA) واحدة من أكثر المبادرات طموحًا وحداثة في التاريخ الزراعي الحديث، تحت عنوان Agriculture Innovation Agenda. هذه الأجندة لم تكن مجرّد خطة تطوير، بل رؤية استراتيجية متكاملة تسعى إلى إعادة تعريف الزراعة الأمريكية في عصر التغير المناخي وتزايد الطلب على الغذاء وتراجع الموارد.
تتمثل جوهر هذه الأجندة في ربط المزارع بالمختبر، والتقليد بالابتكار، والموسمية بالدقة المستمرة. تسعى وزارة الزراعة الأمريكية، من خلال هذه المبادرة، إلى مضاعفة الإنتاج الزراعي بحلول عام 2050 مع خفض الأثر البيئي إلى النصف. ولتحقيق هذا الهدف الطموح، انصب تركيز كبير على محور بالغ الأهمية: تطوير أصناف محاصيل أكثر مقاومة للأمراض والجفاف، وهي واحدة من أكبر التحديات التي تهدد الإنتاج الزراعي في ظل تفاقم تغير المناخ.
في مختبرات البحوث الزراعية المنتشرة في أريزونا، كاليفورنيا، وميسيسيبي، يعمل العلماء ليل نهار على تسخير قوة التكنولوجيا الحيوية، مثل تقنيات التعديل الجيني (CRISPR) والهندسة الوراثية الدقيقة، لتطوير نباتات يمكنها النمو في بيئات شحيحة المياه، ومقاومة لأنواع جديدة من الآفات التي لم تكن موجودة قبل عقدين. تمكّنوا بالفعل من تطوير سلالات جديدة من الذرة والقمح وفول الصويا تتحمل درجات حرارة أعلى، وتحتاج كميات أقل من المياه والأسمدة، دون أن تتأثر جودة المحصول أو غلته. وقد أظهرت نتائج التجارب الميدانية أن بعض هذه الأصناف الجديدة تستطيع تقليل خسائر الجفاف بنسبة تصل إلى 60% مقارنة بالأصناف التقليدية.
لكن الأجندة لم تكتفِ بالبحث والتطوير، بل اهتمت بترسيخ استخدام التكنولوجيا الحيوية كأداة عملية في يد المزارع. أُنشئت برامج تدريب ومراكز دعم فني في الولايات الزراعية الكبرى، لتمكين المزارعين من فهم كيفية استخدام هذه المحاصيل المعدلة والتقنيات المصاحبة لها، من مجسات الرطوبة، إلى أنظمة التنبؤ الذكي بالطقس، والري الآلي المتكامل.
ومن أهم الإنجازات العملية أيضًا، شراكات فعالة بين USDA وشركات التكنولوجيا الحيوية الكبرى مثل Corteva Agriscience وBayer Crop Science، التي وفّرت تمويلًا يقدّر بمئات الملايين من الدولارات للأبحاث المشتركة والتجارب الحقلية، مما خلق بيئة خصبة لتسريع تطبيق الابتكارات على نطاق واسع.
وما يميز هذه المبادرة أنها لا تسعى فقط إلى تحسين الإنتاج، بل إلى تحقيق الزراعة المستدامة الذكية. فإلى جانب تطوير المحاصيل، تتضمن الأجندة خططًا دقيقة لتقليل انبعاثات غازات الدفيئة الناتجة عن الزراعة بنسبة تصل إلى 50%، من خلال استخدام الزراعة الحافظة، تدوير المحاصيل، وتطوير نظم تسميد أقل تلويثًا للمياه الجوفية.
إن ما تقوم به وزارة الزراعة الأمريكية من خلال هذه الأجندة ليس مجرد تحديث تقني، بل هو بمثابة رسم ملامح جديدة للزراعة في القرن الحادي والعشرين، زراعة تعتمد على الذكاء، المقاومة، والتكامل بين الإنسان والآلة والطبيعة.
2ـ الدول النامية (تمويل متوسط إلى منخفض)
التوصيات
زيادة تمويل البحوث ذات الأولوية الوطنية: مثل أبحاث التحمل المناخي والإنتاج المستدام.
في واقع الدول النامية حيث تتشابك تحديات التنمية مع ضغوط التغيرات المناخية والموارد الطبيعية المحدودة، تبرز الحاجة الملحة إلى توجيه البوصلة البحثية نحو الأولويات الوطنية التي تعكس خصوصية هذه الدول وتلبي حاجاتها الحيوية. إن زيادة تمويل البحوث ذات الأولوية الوطنية ليست مجرد خيار، بل هي جسر أساسي يربط بين الطموحات التنموية وبين الواقع البيئي والاجتماعي الذي تعيشه هذه الدول، وما يتطلبه ذلك من حلول مبتكرة ومستدامة.
تأتي هذه الخطوة كضرورة ملحة في زمن تتسارع فيه وتيرة التغير المناخي، حيث تزداد وتيرة الجفاف، وتهدد موجات الحر والملوحة الأراضي الزراعية، فتتراجع معها القدرة على إنتاج الغذاء بشكل مستقر. لذلك، فإن توجيه التمويل نحو أبحاث التحمل المناخي يشكل خط الدفاع الأول في حماية الأمن الغذائي وتحقيق الاكتفاء الذاتي. فهذه الأبحاث تركز على تطوير أصناف محاصيل وحيوانات تتحمل ظروف الجفاف، الملوحة، والحرارة المرتفعة، ما يضمن استمرارية الإنتاج الزراعي رغم التحديات البيئية القاسية.
ليس هذا فقط، بل إن دعم أبحاث الإنتاج المستدام يمثل فرصة ذهبية لاستثمار الموارد الطبيعية بطريقة رشيدة، توازن بين حاجات الإنسان وضرورة الحفاظ على البيئة. التمويل الموجه للأبحاث التي تبتكر أساليب زراعية تحافظ على التربة، تقلل من استخدام المياه، وتحد من التلوث، يفتح آفاقًا جديدة للازدهار في القطاعات الزراعية والسمكية والحيوانية. إنه استثمار في مستقبل يضمن للدول النامية أن تكون أكثر قدرة على الصمود والتكيف، بدلاً من الوقوع في فخ الاعتماد المستمر على الواردات الغذائية أو التقنيات المستوردة.
عندما تحظى هذه الأولويات بأولوية التمويل، تتحول الأفكار إلى مشاريع تطبيقية على الأرض، حيث تتكامل الجهود بين مراكز البحث، الجامعات، والمزارعين، مما يخلق منظومة متماسكة تعمل بروح الفريق الواحد. هذه الاستراتيجية لا تقتصر على الجانب الاقتصادي فحسب، بل تعزز من السيادة الوطنية، وتبني القدرات المحلية، فتقلل من هجرة الكفاءات، وتزيد من فرص العمل للشباب في مجال البحث والابتكار.
وفي هذا الإطار، يصبح التمويل الموجه أداة حيوية تفتح الباب أمام التعاون مع المنظمات الدولية والجهات المانحة التي تفضل دعم المشاريع ذات الأثر المحلي المباشر، فتتسع دائرة التمويل وتتنوع المصادر. وهكذا، تتحول الدول النامية من مجرد متلقية للمساعدات إلى فاعل رئيسي قادر على رسم مسار تنموي مستدام ينبع من قلب تحدياته الوطنية.
إنها دعوة إلى بناء مستقبل مشرق، يُكتب فيه النجاح بمداد العلم والتمويل الموجه نحو أبحاث تعكس واقع البلاد، وتفتح آفاقًا جديدة للتنمية الزراعية والحيوانية والسمكية، مستندة إلى أولويات وطنية واضحة تُسهم في تحقيق الأمن الغذائي والازدهار الاقتصادي على المدى الطويل.
تطوير مراكز بحث إقليمية مشتركة: لتجميع الموارد والخبرات بين الدول المجاورة. .
حين تتلاقى التحديات المشتركة بين الدول النامية المتجاورة، تصبح فكرة إنشاء مراكز بحث إقليمية مشتركة أكثر من مجرد خيار استراتيجي، بل هي ضرورة حيوية تتجاوز الحدود الجغرافية لتنسج خيوط التعاون والتكامل العلمي. هذه المراكز ليست مجرد مبانٍ أو مختبرات، بل هي منصات تلتقي فيها العقول والخبرات والموارد، لتتضافر جهودها في مواجهة أزمات مشتركة، كالتصحر، ونقص المياه، والتغيرات المناخية التي لا تعترف بحدود الدول.
إن تأسيس مراكز بحث إقليمية يتيح للدول أن تتخطى قيود التمويل المحدود الذي يعيق أحياناً قدرتها على تطوير البحوث بشكل منفرد. فهي تجمع في بوتقة واحدة مختبرات متقدمة، وفِرَق عمل متعددة التخصصات، وأجهزة وتقنيات بحثية قد تكون بعيدة المنال لكل دولة على حدة. هنا، يصبح التعاون جسرًا يربط بين إمكانيات الدول المتواضعة ويحولها إلى قوة بحثية موحدة، قادرة على توليد حلول مبتكرة وعملية تتناسب مع الواقع الإقليمي المشترك.
هذه المراكز الإقليمية تمثل أيضاً فسحة لتبادل الخبرات والمعرفة، حيث يلتقي الباحثون من خلفيات مختلفة، يحمل كل منهم تجارب فريدة ورؤى متجددة، فيحركون المياه الراكدة للأبحاث ويغذونها بأفكار جديدة تفتح آفاقاً واسعة للإبداع. كما تسهم في بناء قدرات الباحثين الشباب، فتُمنح الفرصة للتدريب المشترك، وتنظيم ورش العمل، وإقامة المشاريع البحثية المشتركة، ما يعزز من روح التعاون ويشجع على الابتكار المشترك.
وعلى صعيد التمويل، فإن هذه المراكز تعزز فرص جذب دعم المنظمات الدولية والمؤسسات المانحة، التي تميل إلى دعم المشاريع التي تظهر تأثيراً أوسع وأعمق على مستوى المنطقة، بدلاً من التشتت في جهود متناثرة. كما تعزز من فرص مشاركة القطاع الخاص، الذي يرى في هذه المشاريع المشتركة فرص استثمارية جديدة تفتح له أبواب الأسواق الإقليمية والعالمية.
في النهاية، يمكن القول إن تطوير مراكز بحث إقليمية مشتركة ليس مجرد فكرة على الورق، بل هو مسار حقيقي نحو بناء شبكة متينة من التعاون العلمي، تحوّل التحديات الإقليمية إلى فرص للتنمية المستدامة، وتضع الدول النامية في موقع قوة قادرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي وتحسين مستوى حياة شعوبها عبر العلم والابتكار المشترك. هذه المراكز هي نبراس يقود نحو مستقبل يشرق فيه نور المعرفة والإبداع، متحدين في ذلك رغم كل الفروقات والتحديات.
توفير حوافز لبقاء الباحثين المحليين ومنع هجرة العقول. .
في قلب كل نهضة علمية تقف العقول المبدعة، الباحثون الذين يحملون في عقولهم شغف المعرفة وحرصهم على تطوير أوطانهم، وهنا تتجلى أهمية توفير الحوافز التي تضمن بقاء هؤلاء الباحثين المحليين في بلادهم، لتتحول رؤاهم وأبحاثهم إلى مشاريع تنموية حقيقية تلامس حياة الناس وتحدث فرقًا ملموسًا. فهجرة العقول ليست مجرد خسارة فردية، بل هي نكسة تعصف بمستقبل البحث العلمي والابتكار في الدول التي تكافح لتحقيق التنمية المستدامة.
إن توفير الحوافز الملائمة يشبه زرع جذور عميقة في تربة الوطن، تحمي الباحثين من مغريات الهجرة التي يفتن بها وعد الوظائف المرتفعة الأجر والبيئات البحثية المتطورة في الخارج. هذه الحوافز قد تكون مادية في شكل رواتب مجزية تتناسب مع مستوى مؤهلات الباحثين، أو امتيازات تحفزهم على الاستمرار في العمل والابتكار، مثل منح دراسية متقدمة، تمويل مشاريع بحثية مستقلة، أو مكافآت تشجيعية على الإنجازات العلمية. كما تشمل الحوافز غير المادية مثل توفير بيئة عمل محفزة ومتكاملة، تشمل مختبرات مجهزة، فرص تدريب وتطوير مهني مستمر، وشبكات تواصل علمي محلية وعالمية تعزز من تبادل الخبرات.
ومما لا شك فيه، أن بناء ثقافة تقدير للبحث العلمي داخل المجتمع يعزز من ارتباط الباحثين بمهمتهم ورسالتهم، فتتحول مسيرة العلم إلى رحلة تحمل في طياتها معنى الانتماء والمسؤولية تجاه الوطن. إذ أن الدعم المعنوي والمؤسسي يعيد إشعال شعلة الحماس لديهم، ويزرع فيهم شعوراً عميقاً بأن جهودهم ليست عبثاً، بل هي حجر الأساس لمستقبل أفضل.
النجاح في احتضان الباحثين المحليين لا يقتصر فقط على إبقائهم في البلاد، بل هو استثمار طويل الأمد في رأس المال البشري الذي يشكل العمود الفقري لأي تقدم اقتصادي واجتماعي. ومن خلال حوافز ذكية ومتكاملة، يمكن للدول النامية أن تحول ظاهرة هجرة العقول من تهديد إلى فرصة للنمو، حيث يستثمر الباحثون طاقاتهم في ابتكار حلول تناسب خصوصيات بلادهم، ويؤسسون لشراكات محلية ودولية تعزز من قدراتهم وتفتح أمامهم آفاقًا رحبة في عالم البحث العلمي.
إن توفير الحوافز لا يعني فقط منافسة الدول المتقدمة في جذب الباحثين، بل هو خلق بيئة وطنية متكاملة تمنح كل باحث الحرية والتمكين ليكون صانع تغيير، مبدعاً ومبتكراً في مجاله، يبث أمل التنمية المستدامة في كل زاوية من وطنه، ويجسد حقيقة أن العلم لا يهاجر، بل يبقى حيث يجد الأرض الخصبة واليد الحانية التي ترعاه.
تشجيع تبني التقنيات منخفضة التكلفة والمناسبة للسياق المحلي. .
في عالم يسير بخطى متسارعة نحو التقدم التكنولوجي، قد تبدو بعض الابتكارات الحديثة بعيدة المنال أو مكلفة جداً للدول ذات الموارد المحدودة، لكن جوهر التنمية المستدامة يكمن في القدرة على تبني التقنيات التي تلائم الواقع المحلي وتتماشى مع الإمكانيات المتاحة. إن تشجيع استخدام التكنولوجيا منخفضة التكلفة هو بمثابة فتح نافذة أمل كبيرة أمام هذه الدول، حيث يمكن من خلالها تحويل التحديات إلى فرص حقيقية، ويصبح التطور العلمي والمعيشي في متناول اليد دون الحاجة إلى ميزانيات ضخمة أو بنى تحتية معقدة.
التقنيات منخفضة التكلفة ليست مجرد بدائل اقتصادية، بل هي أدوات ذكية صممت لتلبية احتياجات المجتمعات المحلية بأسلوب عملي وفعّال. فعلى سبيل المثال، يمكن استخدام أنظمة الري بالتنقيط المبسطة التي لا تتطلب معدات معقدة أو طاقة كهربائية مكلفة، لكنها تحقق تحسيناً ملحوظاً في كفاءة استخدام المياه، مما يساهم في مكافحة ظاهرة ندرة المياه التي تعاني منها العديد من الدول. كذلك، يمكن ابتكار أساليب زراعة عضوية أو ممارسات تربية حيوانية بسيطة تعتمد على الموارد المتوفرة محلياً، فتقلل من الاعتماد على مدخلات باهظة الثمن وتساعد في تحسين جودة المنتجات الزراعية والحيوانية بأسعار مناسبة.
وفي هذا السياق، يصبح الابتكار في التكنولوجيا منخفضة التكلفة عملية إبداعية تتطلب فهماً عميقاً للواقع المحلي، ومرونة في تطبيق الحلول التي تراعي البيئة، العادات، والموارد البشرية المتاحة. فمن خلال تبني هذه التقنيات، لا تقتصر الفوائد على توفير المال فحسب، بل تشمل أيضاً تعزيز الاستقلالية والاعتماد على الذات، وخلق فرص عمل جديدة في مجالات تصنيع وصيانة هذه التقنيات، مما يساهم في تعزيز الاقتصاد المحلي وتنويع مصادر الدخل.
تشجيع هذه التقنيات يفتح الباب أمام دمج المعرفة التقليدية مع التقنيات الحديثة، ليولد مزيجاً متفرداً من الحلول التي تحترم الخصوصية الثقافية والبيئية، وتلبي الحاجات الفعلية للمزارعين والمنتجين المحليين. وهذا بدوره يدفع نحو بناء منظومة بحثية أكثر واقعية وحيوية، تنطلق من الأرض إلى السماء، تأخذ بيد المجتمعات نحو مستقبل مشرق، تعمّ فيه الفائدة، ويُحتفى فيه بالابتكار الذي ينطلق من رحم التحديات ليُثمر حلولاً بليغة وعملية في آن واحد.
باختصار، إن دعم وتشجيع التكنولوجيا منخفضة التكلفة هو استثمار ذكي في جذر التنمية المستدامة، حيث تتحقق المعادلة الصعبة بين التقدم الاقتصادي والاجتماعي، وبين الحفاظ على البيئة والموارد الطبيعية، ليصبح التطور العلمي أقرب إلى الجميع، وأكثر قدرة على بناء واقع أفضل لأجيال الحاضر والمستقبل.
أمثلة على مبادرات ناجحة
مركز أبحاث الحبوب في أفريقيا (Africa Rice Center – AfricaRice): تعاون إقليمي ناجح لتطوير أصناف أرز مقاومة للجفاف والملوحة. .
في قلب القارة الأفريقية، حيث تتقاطع تحديات المناخ القاسي وندرة المياه مع الحاجة الملحة إلى تأمين الغذاء، ينبثق مركز أبحاث الحبوب في أفريقيا، المعروف بـ AfricaRice، كرمز حي للأمل والتعاون الإقليمي الذي يعانق تطلعات الملايين. هذا المركز لم يكن مجرد مؤسسة بحثية تقليدية، بل تحول إلى قوة ديناميكية توحد بين الدول الأفريقية، وتجمع خبراء وعلماء من مختلف الأقطار ليتشاركوا المعرفة والخبرات في سبيل تحقيق هدف واحد نبيل: إنتاج أصناف أرز قادرة على مقاومة الجفاف والملوحة، وهما عاملان يهددان الأمن الغذائي في المنطقة بشكل متزايد.
بخطى حثيثة وبتناغم بين البحث العلمي والتطبيق العملي، نجح المركز في تطوير سلالات أرز متقدمة تتكيف مع ظروف البيئة الصعبة التي تواجهها أفريقيا. لم يكن الأمر سهلاً، إذ تطلب الأمر سنوات من التجارب المعقدة والتعديل الوراثي الدقيق، مع الالتزام الصارم بمعايير الاستدامة وحماية التنوع البيولوجي. استطاع العلماء في AfricaRice أن يخلقوا محاصيل تنمو وتزدهر في أراضي كانت سابقاً تعتبر غير صالحة للزراعة، محولة بذلك الصحراء القاحلة إلى حقول مثمرة ترفد الأسواق المحلية وتحقق الاكتفاء الغذائي.
لكن سر النجاح لم يكن فقط في التقنية الحديثة، بل في روح التعاون التي أرسى دعائمها المركز بين الدول الأعضاء، حيث تبادلوا الموارد، المعرفة، والتقنيات بأسلوب يضمن استفادة الجميع دون احتكار أو تفاوت. هذا التعاون الإقليمي فتح آفاقاً واسعة للنمو المشترك، وجعل من المركز منبرًا للابتكار المستدام، الذي لا يقتصر على تحسين المحاصيل فحسب، بل يمتد ليشمل نقل التكنولوجيا إلى المزارعين، تدريبهم، وتطوير سلاسل التوريد الزراعية لتحسين دخلهم وجودة حياتهم.
كما لعب AfricaRice دوراً محورياً في ربط البحث العلمي بسياسات التنمية الزراعية الوطنية والقارية، مما ساهم في جذب التمويل الدولي والدعم الفني من مؤسسات كالبنك الدولي ومنظمة الأغذية والزراعة (FAO)، وأدى ذلك إلى تعميم الاستفادة من الإنجازات العلمية في أنحاء القارة. إن تجربة AfricaRice ليست مجرد قصة نجاح عابرة، بل نموذجاً متكاملاً يُحتذى به، يعكس كيف يمكن لإرادة مشتركة وابتكار مستمر أن تتغلب على أصعب التحديات، فتفتح أبواب المستقبل على مصراعيه لدول نامية تواجه صعوبات بيئية واقتصادية جسيمة.
مشروع التعاون الزراعي في أمريكا اللاتينية (PROCISUR): يهدف إلى تطوير أبحاث مشتركة وتقاسم الخبرات لتحسين الإنتاج الزراعي والحيواني
في رحاب أمريكا اللاتينية، حيث تتنوع التضاريس وتتنوع المناخات بين جبال الأنديز المهيبة وغابات الأمازون الكثيفة، ينبثق مشروع التعاون الزراعي المعروف باسم PROCISUR كواحة تآزر وتبادل معرفي بين دول المنطقة، ساعيًا إلى صياغة مستقبل زراعي أكثر ازدهارًا واستدامة. إن PROCISUR ليس مجرد مشروع عادي، بل هو رؤية حية تنبض بروح الوحدة والتعاون الإقليمي، حيث يلتقي العلماء والباحثون من مختلف البلدان ليتشاركوا تجاربهم ويجمعوا خبراتهم في سبيل تطوير أبحاث زراعية وحيوانية تسهم بشكل فاعل في تحسين الإنتاج، وتعزيز الأمن الغذائي، ورفع مستوى معيشة المزارعين المحليين.
إن هذا المشروع ينطلق من قناعة عميقة بأن التحديات الزراعية في أمريكا اللاتينية، من تدهور التربة إلى تغيرات المناخ، لا يمكن مواجهتها بمعزل عن العمل المشترك. لذلك، يوفر PROCISUR منصة حيوية لتمكين تبادل الأفكار والنتائج البحثية، وتنسيق الجهود لتطوير تقنيات زراعية مبتكرة تناسب خصوصية كل بيئة محلية، مع الحفاظ على التراث الزراعي والتنوع البيولوجي. تتنوع مجالات البحث في هذا المشروع بين تحسين أصناف المحاصيل المحلية، تطوير نظم الإنتاج الحيواني، وتعزيز الممارسات الزراعية المستدامة التي تحافظ على الموارد الطبيعية.
كما أن PROCISUR يركز على بناء قدرات الباحثين والفنيين من خلال برامج تدريبية وورش عمل متخصصة، مما يعزز من إمكانياتهم ويجعلهم عناصر فاعلة في تطبيق المعرفة وتحويلها إلى حلول عملية قابلة للتنفيذ على الأرض. وقد ساعد هذا المشروع في توثيق شبكة من التعاون الأكاديمي والمهني، تربط الجامعات ومراكز البحوث بمزارعي المنطقة، فتجسد بذلك جسراً متيناً بين البحث العلمي وواقع المزارع، يضمن وصول التقنيات الحديثة والتوصيات العلمية إلى المزارعين بشكل مباشر وفعال.
يأتي نجاح PROCISUR أيضاً مدعوماً بشراكات استراتيجية مع مؤسسات دولية تمكّنه من الحصول على التمويل اللازم والدعم الفني، ويجعل منه نموذجاً يحتذى به في تكامل الجهود الإقليمية لمواجهة تحديات الزراعة والموارد الطبيعية في مناطق نامية. بهذا الشكل، لا يقتصر المشروع على كونه مبادرة بحثية فحسب، بل هو أداة تغيير حقيقية ترسم ملامح مستقبل أكثر إشراقاً لأمريكا اللاتينية، حيث الزراعة ليست مجرد مهنة، بل دعامة أساسية لبناء مجتمعات مزدهرة ومستدامة.
3ـ الدول العربية (تمويل ضعيف إلى متوسط)
التوصيات
تحديث السياسات الوطنية للبحث العلمي: ورفع مخصصات الميزانية الخاصة بالبحث في القطاعات الحيوية. .
في قلب المشهد العلمي والبحثي في الدول العربية، تتجلى الحاجة الماسة إلى تحديث السياسات الوطنية التي ترسم ملامح البحث العلمي، خاصة في القطاعات الحيوية التي تشكل العمود الفقري لأي تنمية حقيقية ومستدامة. إن تحديث هذه السياسات ليس مجرد إجراء إداري أو تعديل على أوراق رسمية، بل هو عملية عميقة وشاملة تهدف إلى إعادة ترتيب الأولويات الوطنية وتوجيه الموارد والجهود نحو تحقيق نقلة نوعية في مستوى البحث العلمي وتأثيره العملي على المجتمع والاقتصاد.
رفع مخصصات الميزانية الخاصة بالبحث العلمي هو ركيزة أساسية في هذا التحديث، فبدون دعم مالي كافٍ لا يمكن للبحوث أن تزدهر أو تحقق نتائج ملموسة تساهم في تطوير القطاعات الزراعية والصناعية والحيوية الأخرى. هذه الزيادة في التمويل يجب أن تكون مدروسة ومدعومة بخطط استراتيجية واضحة تضمن توجيه الأموال إلى أبحاث ذات أولوية عالية، تتماشى مع التحديات الفعلية التي تواجه المنطقة مثل ندرة المياه، التصحر، وتحسين إنتاج المحاصيل الزراعية.
من خلال هذه السياسات الحديثة، يمكن إنشاء بيئة محفزة للباحثين تمكنهم من العمل بحرية وفعالية، وتفتح أمامهم آفاق التعاون مع مؤسسات عالمية، وتشجع على ابتكار حلول محلية تناسب خصوصية البيئة والاقتصاد العربي. ليس الهدف فقط مضاعفة الأموال، بل استثمارها بحكمة في مشاريع بحثية تثمر عن نتائج تطبيقية مباشرة تسهم في تعزيز الأمن الغذائي وتحسين جودة الحياة.
الارتقاء بالبحث العلمي في الدول العربية عبر تحديث السياسات يأتي متزامناً مع بناء آليات مراقبة وتقييم دائمة لضمان الشفافية والكفاءة في استخدام الموارد، مما يعزز الثقة بين الباحثين وصناع القرار، ويخلق جواً من الحماس والاستمرارية في مسيرة الابتكار والتميز العلمي. هكذا تتحول السياسات إلى أدوات حقيقية تدفع بالبحث العلمي نحو آفاق أوسع، وتعيد للدول العربية موقعها الريادي في مشهد العلوم العالمية، متجاوزة بذلك عثرات التمويل المحدود وقصور التخطيط السابق.
إنشاء منصات وطنية وإقليمية للتنسيق بين الجامعات، مراكز البحوث، والقطاع الصناعي والزراعي.
في ظل التحديات المتسارعة التي تواجه الدول العربية، وفي خضم التغيرات المناخية والضغوط الاقتصادية المتزايدة، يبرز التنسيق بين الجامعات ومراكز البحوث والقطاعين الصناعي والزراعي كضرورة ملحّة لا تحتمل التأجيل. إلا أن هذا التنسيق لا يمكن أن يتم بعفوية أو جهود فردية، بل يتطلب إنشاء منصات وطنية وإقليمية تكون بمثابة الجسور الحقيقية التي تربط بين العقول البحثية واحتياجات السوق وواقع الإنتاج.
تُعد هذه المنصات رافعة استراتيجية لتعظيم الاستفادة من المعرفة العلمية وتحويلها إلى أدوات فعالة في تحسين الإنتاج، وزيادة الكفاءة، وابتكار الحلول المحلية للتحديات المزمنة. إنها ليست مجرد مواقع إلكترونية أو مبادرات مؤقتة، بل هي مؤسسات متكاملة البنية، قائمة على الشراكة الفعلية بين مختلف الفاعلين في المنظومة العلمية والاقتصادية، قادرة على تنظيم الحوار، وتوجيه المشاريع البحثية نحو أولويات التنمية الوطنية، وتسهيل انتقال المعرفة من المختبرات إلى الحقول والمصانع.
عبر هذه المنصات، يمكن كسر الجزر المعزولة التي لطالما عانى منها العالم العربي، حيث تعمل الجامعات في مسارات أكاديمية بعيدة عن واقع السوق، وتجهد المراكز البحثية دون أن تجد منفذاً لتطبيق نتائجها، بينما تئن الصناعات تحت وطأة التقنيات البالية ونقص الكفاءات البحثية. المنصة تصبح هنا مساحة حيوية لتلاقي الرؤى، وتكامل الجهود، وبناء شراكات إنتاجية قائمة على الثقة والمصالح المتبادلة.
وتأخذ هذه المبادرات بعداً إقليمياً كذلك، إذ أن العديد من التحديات الزراعية والبيئية التي تواجه دولة ما، تشترك فيها بقية دول المنطقة. وهنا يصبح التعاون عبر منصات إقليمية – مثل مجالس البحث العربية المشتركة أو اتحادات الجامعات والمؤسسات الصناعية – فرصة عظيمة لتبادل الخبرات وتطوير حلول تشاركية تستند إلى موارد وخبرات جماعية، بعيداً عن تكرار الجهود أو استنزاف الموارد.
مثل هذه المنصات، إذا ما تم تمويلها جيداً، وإدارتها بكفاءة، ومنحت استقلالاً إدارياً، فإنها قد تشكل نقطة تحوّل في مسار البحث العلمي العربي، وتفتح الباب أمام اقتصاد مبني على المعرفة، وتقدم للباحثين مساحات حقيقية للتأثير، وللقطاعات الإنتاجية أدوات مستدامة للابتكار والنمو، وللشباب آفاقاً جديدة للإبداع وريادة الأعمال في مجالات ذات قيمة مضافة حقيقية.
تنفيذ برامج تدريب وبناء قدرات للباحثين والفنيين
في قلب أي نهضة علمية حقيقية تقف العقول والكفاءات البشرية، فهي الوقود الذي يشعل شرارة التغيير، وهي اليد التي تحول الأفكار إلى تطبيقات، والتجارب إلى إنجازات. ولهذا فإن تنفيذ برامج تدريب وبناء قدرات للباحثين والفنيين لا يُعد ترفاً أو بنداً إضافياً على جدول الإصلاحات، بل هو حجر الزاوية في أي استراتيجية جدية تسعى للنهوض بالبحث العلمي في الدول العربية.
العديد من الدول في المنطقة تمتلك نخبة واعدة من العقول الشابة، لكنها تفتقر إلى التدريب العملي المكثف، وإلى فرص التعلم التطبيقي المواكب لأحدث ما توصلت إليه العلوم والتكنولوجيا. وهنا تأتي الحاجة الملحّة إلى تصميم برامج متكاملة، تستهدف رفع كفاءة الباحثين في مجالاتهم الدقيقة، وتعزيز مهارات الفنيين في تشغيل الأجهزة وتحليل النتائج وتطبيق التقنيات الحديثة في الميدان.
هذه البرامج يجب أن تكون ديناميكية وواقعية، تُبنى على أساس تشخيص حقيقي للفجوات المعرفية، وتتوزع على مراحل تراكمية تضمن الاستدامة، لا مجرد ورش عمل عابرة أو شهادات تُوزع لمجرد الظهور الإعلامي. إنها برامج تُنفذ بشراكات ذكية مع مؤسسات بحثية دولية مرموقة، وتُدار بعقليات مدربة على نقل المعرفة لا احتكارها، وتُفتح فيها الآفاق أمام الباحثين للانخراط في برامج الزمالة، والمختبرات المفتوحة، والتعلم عبر المشاريع متعددة التخصصات.
إن الفنيين، الذين كثيراً ما يتم تهميش دورهم في الحديث عن البحث العلمي، يشكلون في الواقع العمود الفقري لتنفيذ أي تجربة، وهم الضامن الأول لدقة النتائج واستقرار منظومة العمل داخل المؤسسات. ولذلك فإن رفع قدراتهم التقنية، وتحفيزهم مادياً ومهنياً، ومنحهم فرص الترقي والتعلم المستمر، يُعتبر أحد أعمدة بناء منظومة بحثية صلبة قادرة على المنافسة والاستمرارية.
وفي خضم هذا الجهد التدريبي، يجب ألا نغفل عن أهمية بناء قدرات الباحثين في الجوانب الإدارية والتمويلية والتواصل العلمي. فالعالم اليوم لا يكفي أن يكون متقناً في مجاله فحسب، بل يجب أن يعرف كيف يصوغ مشروعاً بحثياً متكاملاً، وكيف يتقدم بطلب تمويل، وكيف يعرض نتائجه بلغة يفهمها صنّاع القرار والمجتمع على السواء.
باختصار، بناء القدرات ليس مجرد استثمار في الأشخاص، بل هو استثمار في المستقبل، في الاستقلالية العلمية، وفي امتلاك أدوات السيادة المعرفية التي بها وحدها تُبنى الأمم وتنهض الحضارات.
تشجيع الشراكات الدولية مع مؤسسات بحثية عالمية
في عصر لم تعد فيه الحدود الجغرافية حاجزاً أمام تدفق المعرفة والتكنولوجيا، أصبحت الشراكات الدولية واحدة من أقوى الأدوات التي يمكن للدول العربية أن تعتمد عليها لتحقيق نهضة علمية حقيقية. فتشجيع التعاون مع مؤسسات بحثية عالمية لا يمنح فقط فرصة لتبادل الخبرات والمعرفة، بل يفتح آفاقاً جديدة أمام الباحثين العرب ليكونوا جزءاً من المشهد العلمي العالمي، بدل أن يبقوا على الهامش يراقبون من بعيد دون قدرة على التأثير أو المشاركة.
هذه الشراكات تتجاوز فكرة الاستفادة السطحية من تجارب الآخرين، لتصبح مساراً متكاملاً لبناء جسور من التعاون والتكامل. فالمؤسسات البحثية الرائدة حول العالم تمتلك بنية تحتية متطورة، وخبرات تراكمية تمتد لعقود، وأطر تنظيمية فعالة تُحسن إدارة المشاريع وتوجيه الطاقات العلمية نحو نتائج ملموسة. وعند الدخول في شراكات مدروسة معها، فإن الدول العربية لا تكتفي بنقل هذه العناصر، بل تتعلم كيف تصنع منظومات مشابهة محلياً، مع تكييفها وفق أولوياتها واحتياجاتها الخاصة.
ولعل أهم ما في هذه الشراكات هو أنها تخلق بيئة تعليمية تطبيقية للباحثين، حيث ينخرطون في مشاريع حقيقية، ويحتكون بعلماء مرموقين، ويكتسبون مهارات متقدمة في التفكير النقدي، وتحليل البيانات، وابتكار الحلول. كما أن مثل هذه الشراكات تمنح الباحثين العرب فرصة للولوج إلى المختبرات المتقدمة، والمجلات العلمية العالمية، وشبكات التمويل الدولية، مما يوسع أفقهم ويدفعهم لتطوير مشاريع تتسم بمعايير عالمية من حيث الجودة والأثر.
إن الشراكات الدولية لا تعني الذوبان في الآخر أو فقدان الهوية، بل على العكس تماماً، فهي فرصة لتعريف العالم بإمكانات العقل العربي، وتقديم حلول مبتكرة تنبع من خصوصية الواقع العربي وتُقدم كنماذج صالحة للتطبيق في سياقات مشابهة. فالتحديات التي تواجه الدول العربية في مجالات مثل الأمن الغذائي، وندرة المياه، والتغير المناخي، قد تختلف في تفاصيلها لكنها تشترك في جوهرها مع تحديات تواجهها دول أخرى في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، مما يجعل من التعاون الدولي فرصة لتبادل حلول واقعية وعملية.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن بناء شراكات ناجحة لا يتم بين عشية وضحاها، بل يتطلب تخطيطاً دقيقاً، وتحديداً واضحاً للأهداف، واستعداداً لتقديم التزامات متبادلة، وإدارة دقيقة لهذه العلاقات لضمان استمراريتها وفاعليتها. لذلك فإن تشجيع هذه الشراكات يجب أن يكون مدعوماً من أعلى المستويات الحكومية، ومترجماً في سياسات تحفيزية، ومقروناً بمرونة مؤسسية تسمح بإبرام اتفاقيات وتسهيل التنقل والتبادل العلمي بين الباحثين.
بكلمة واحدة، فإن تشجيع الشراكات الدولية ليس خياراً تكميلياً، بل هو رافعة استراتيجية لا غنى عنها إذا أرادت الدول العربية أن تخرج من دائرة التبعية التكنولوجية والعلمية، وأن تضع أقدامها بثقة على طريق التنمية المعرفية الشاملة.
تعزيز الوعي المجتمعي بأهمية البحث العلمي ودوره في التنمية. .
في عالم يتسارع فيه التطور العلمي والتقني بشكل لم يسبق له مثيل، يغدو البحث العلمي ركيزة لا غنى عنها لأي أمة تطمح إلى التقدم والنهوض. ومع ذلك، لا يزال البحث العلمي في كثير من المجتمعات العربية محصوراً في أروقة الجامعات ومراكز البحوث، بعيداً عن الوعي العام والتقدير المجتمعي الذي يستحقه. وهنا تبرز أهمية تعزيز الوعي المجتمعي بدور البحث العلمي، ليس فقط كأداة أكاديمية أو ترف فكري، بل كضرورة حتمية لبناء مستقبل مزدهر ومتين.
إن بناء وعي مجتمعي راسخ بأهمية البحث العلمي يبدأ من الاعتراف بأن أي تطور ملموس في حياتنا اليومية، من تحسين جودة الغذاء والدواء، إلى ابتكار حلول لمشاكل المياه والطاقة، إنما هو ثمرة سنوات من العمل البحثي المضني. عندما يدرك المواطن العادي أن التطور الذي يراه في مستشفى حديث أو في تقنية زراعية جديدة هو نتيجة بحوث وجهود علمية طويلة، تبدأ العلاقة بينه وبين العلم في التغير؛ فيتحول من متفرج إلى مؤمن، ومن مشكك إلى داعم، بل وربما إلى مشارك في هذا المسار المعرفي.
ولتعزيز هذا الوعي، لا بد من الاستثمار في الإعلام العلمي الذي يبسط المفاهيم، ويبرز قصص النجاح المحلية والعالمية في مجالات البحث والابتكار. فحين يرى الشباب العربي نماذج حقيقية لعلماء من بيئتهم استطاعوا إحداث فرق، فإن ذلك يزرع الإلهام ويوقظ الطموح في نفوسهم. كما أن تحويل منصات التواصل الاجتماعي إلى فضاء ينشر المعرفة العلمية بأساليب جذابة وتفاعلية يمكن أن يسهم في كسر الجمود بين المجتمع والعلم، ويعيد تشكيل صورة الباحث كقائد تغيير لا كمجرد موظف أكاديمي.
أما في التعليم، فتكمن الفرصة الذهبية لتكوين أجيال تحمل هذا الوعي من جذوره. فبدلاً من الاكتفاء بالمناهج التقليدية، يجب إدخال التفكير العلمي، ومنهجية البحث، وروح التساؤل إلى المدارس في سن مبكرة. حينها، يتشكل جيل يرى في البحث العلمي وسيلة لفهم العالم، لا مجرد مادة دراسية تُحفظ وتُنسى.
تعزيز الوعي المجتمعي بأهمية البحث العلمي هو أيضاً حماية للمستقبل. فهو الذي يمنح القاعدة الشعبية الداعمة لأي سياسات حكومية تموّل الأبحاث أو تطور الابتكار، ويجعل من الاستثمارات في هذا المجال أولوية وطنية لا تُواجه بالشك أو الاستهانة. وعندما يصبح العلم جزءاً من الثقافة العامة، تتغير نظرة الناس إلى العالم، ويتغير موقع الأمة بأسرها من التلقي إلى التأثير، ومن التبعية إلى الريادة.
أمثلة على مبادرات ناجحة
برنامج “تمكين الباحثين الشباب” في الجامعة الأمريكية بالقاهرة: يهدف إلى دعم الأبحاث التطبيقية في الزراعة والإنتاج الحيواني
برنامج “تمكين الباحثين الشباب” في الجامعة الأمريكية بالقاهرة ليس مجرد مبادرة عادية، بل هو نافذة مشرقة تفتح آفاقاً واسعة أمام جيل جديد من الباحثين الطموحين الذين يسعون لتقديم إسهامات حقيقية في مجالات الزراعة والإنتاج الحيواني. في قلب هذا البرنامج ينبض هدف أساسي ورؤية واضحة: تحويل الأفكار المبتكرة إلى حلول عملية قابلة للتطبيق تساهم في مواجهة التحديات الزراعية الحيوية التي تواجه مصر والمنطقة العربية عموماً.
يتناول البرنامج بشكل خاص دعم الأبحاث التطبيقية التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بحاجات الواقع الزراعي، حيث لا يقتصر على الجانب النظري فقط، بل يركز على تجسيد النتائج في مزارع نموذجية ومشروعات إنتاجية حقيقية. هذه التجربة الفريدة تمنح الباحثين الشباب فرصة ثمينة لفهم أعمق للتحديات البيئية والمناخية التي تؤثر على الزراعة والإنتاج الحيواني، ما يدفعهم نحو ابتكار حلول مستدامة تراعي الظروف المحلية وتُحسّن من كفاءة الإنتاج.
إلى جانب ذلك، يولي البرنامج اهتماماً بالغاً بتوفير بيئة بحثية متكاملة تشمل الإرشاد والتوجيه الأكاديمي، وورش العمل التخصصية، وفرص التعاون مع خبراء محليين وعالميين، مما يعزز من مهارات الباحثين الشباب ويُثري تجاربهم البحثية. كما يشجع البرنامج على التنسيق مع الجهات الحكومية والقطاع الخاص لضمان أن تكون الأبحاث متماشية مع الاستراتيجيات الوطنية للتنمية الزراعية، ما يعزز من إمكانية تحويل نتائج هذه الأبحاث إلى مشاريع تنموية فعلية تؤثر إيجابياً على الاقتصاد الوطني.
بفضل هذه المبادرة، تحولت الجامعة الأمريكية بالقاهرة إلى مركز جذب للباحثين الواعدين، وبيئة خصبة لزراعة المعرفة والابتكار. إنها بحق قصة نجاح ملهمة تعكس كيف يمكن للاستثمار في القدرات البشرية الشابة أن يشكل جسر عبور نحو مستقبل زراعي مستدام ومزدهر. هذا البرنامج لا يكتفي فقط بدعم البحث العلمي، بل يُشعل شعلة الأمل في نفوس شبابنا، ليكونوا رواد التغيير في بلادهم، ويجعلوا من العلم أداة لبناء وطن قوي وواعد.
مبادرة “الزراعة الذكية في الأردن“: مشروع حكومي بالتعاون مع المنظمات الدولية لتطوير تقنيات زراعية متقدمة تناسب البيئة المحلية
مبادرة “الزراعة الذكية في الأردن” تمثل نقطة تحول نوعية في مسيرة التنمية الزراعية بالمملكة، حيث تتجلى فيها رؤية حكومية طموحة تجمع بين الخبرة المحلية والدعم الدولي في بوتقة واحدة من أجل بناء مستقبل زراعي مستدام ومتجدد. إنها ليست مجرد مشروع عابر، بل تجربة فريدة تسعى إلى إعادة تعريف العلاقة بين الإنسان والأرض، مستندة إلى تقنيات متقدمة ومبتكرة صممت خصيصاً لتناسب خصوصية البيئة الأردنية وتحدياتها المناخية والجغرافية.
في قلب هذه المبادرة ينبض طموح واضح: تطوير منظومة زراعية ذكية تعتمد على استخدام التكنولوجيا الرقمية، من حساسات استشعار للتربة والمياه، إلى أنظمة الري الدقيقة التي تقلل من استهلاك المياه في بلد يعاني من ندرتها. هذه التقنيات لا تقتصر على تحسين الإنتاج فقط، بل تهدف إلى تحقيق توازن حقيقي بين زيادة المحاصيل والحفاظ على الموارد الطبيعية، مما يجعل الزراعة أكثر كفاءة واستدامة.
ما يميز المبادرة هو النهج التشاركي الذي يربط القطاع الحكومي بالمنظمات الدولية ذات الخبرة الواسعة، مثل منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) والبنك الدولي، حيث توفر هذه الشراكات التمويل والدعم الفني، وتتيح نقل التكنولوجيا والمعرفة بشكل مستمر ومتجدد. هذا التعاون يعزز من قدرة الأردن على مواجهة التحديات المناخية المتزايدة مثل الجفاف وارتفاع درجات الحرارة، ويمنح المزارعين أدوات جديدة تمكنهم من التكيف بشكل أفضل مع المتغيرات البيئية.
تتضمن المبادرة أيضاً برامج تدريبية متقدمة للمزارعين، تزويدهم بالمعرفة والمهارات اللازمة لاستخدام هذه التقنيات الحديثة، وهو ما يسهم في بناء قاعدة بشرية قادرة على الابتكار والتمسك بمبادئ الزراعة المستدامة. إضافة إلى ذلك، تُشجع المبادرة على توظيف الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات في اتخاذ القرارات الزراعية، مما يعزز دقة التنبؤات ويرفع من مستوى التخطيط والإدارة الزراعية.
وهكذا، تصبح “الزراعة الذكية في الأردن” نموذجاً يحتذى به في المنطقة، حيث تتلاقى الحكمة التقليدية مع التقدم التكنولوجي، لتُرسي دعائم أمن غذائي قوي، وتخلق فرصاً اقتصادية جديدة تفتح آفاقاً مشرقة للشباب وللمجتمع ككل. إنها قصة نجاح تكتبها يد الأردن بكل إصرار وعزم، لتمضي قدماً نحو مستقبل أخضر ينبض بالحياة والاستدامة.
مركز بحوث الزراعة الصحراوية في مصر: يعكف على تطوير أصناف قادرة على تحمل ظروف الجفاف والملوحة.
مركز بحوث الزراعة الصحراوية في مصر يشكل منارة علمية رائدة في قلب الصحراء، حيث تتلاقى العزيمة الوطنية مع الإرادة العلمية الصلبة في مواجهة تحديات الطبيعة القاسية التي تفرضها البيئة الصحراوية. هذا المركز ليس مجرد مؤسسة بحثية تقليدية، بل هو صرح ابتكار وعلم ينبض بالحياة، يعكف على فتح آفاق جديدة في عالم الزراعة تحت ظروف جغرافية ومناخية تعد من أصعب ما يمكن أن تواجهه النباتات والحياة الزراعية.
في رحابه، تتوالى التجارب والأبحاث التي تهدف إلى تطوير أصناف نباتية محلية وعالمية معدلة بعناية فائقة لتصبح أكثر تحملًا للجفاف وقسوة الملوحة، وهما العدوان اللدودان للإنتاج الزراعي في مناطق شاسعة من مصر والمنطقة العربية. هذه الأصناف ليست مجرد بذور عابرة، بل هي ثمرة جهود بحثية متواصلة تمتد عبر سنوات، تنسج فيها خلايا العلم بخيوط التكنولوجيا الحديثة وتقنيات الهندسة الوراثية والبيئة الدقيقة.
يتعامل المركز مع التربة الصحراوية ككائن حي يحتاج إلى فهم دقيق ومتخصص، فيعمل على تحسين خصوبتها ورفع قدرتها على الاحتفاظ بالماء، إلى جانب استخدام تقنيات الزراعة المائية والزراعة بدون تربة التي باتت تشكل بارقة أمل للمزارعين الذين يرغبون في تحقيق إنتاجية عالية وسط الموارد المحدودة. كما يسعى المركز إلى تطوير نظم ري ذكية تقلل من استهلاك المياه وتحسن من كفاءة استخدام كل قطرة تُروى بها الأرض.
ولا يتوقف المركز عند حدود الأبحاث المعملية، بل يمتد ليصل إلى المزارع الحقلية حيث تُختبر هذه الأصناف الجديدة في ظروف الحياة الواقعية، مما يجعل النتائج أكثر موثوقية وقابلية للتطبيق العملي على نطاق واسع. يعمل المركز كذلك على نشر المعرفة وتدريب المزارعين والمهندسين الزراعيين على أحدث الأساليب والتقنيات، ليصبحوا سفراء التغيير الذين ينقلون هذه الإنجازات من المختبر إلى الحقول.
بفضل هذا المركز، تكتسب الزراعة الصحراوية في مصر أبعاداً جديدة من الأمل والإمكانات، وتتحول التحديات الصعبة إلى فرص ذهبية تفتح آفاقاً لتحقيق الأمن الغذائي وتنمية مستدامة تعتمد على العلم والإبداع، مما يجعل مركز بحوث الزراعة الصحراوية منارة تضيء الطريق نحو مستقبل زراعي أكثر إشراقاً في قلب الصحراء المصرية.
خلاصة
في عالم البحث العلمي الزراعي، تتوزع التحديات والفرص بشكل واضح بين الفئات الدولية الثلاث، حيث تتطلب كل فئة استراتيجية مخصصة تنطلق من واقعها ومواردها، فتتشكل أمامنا لوحة متكاملة من التوصيات الموجهة التي تقود الطريق نحو تنمية مستدامة وازدهار علمي واقتصادي.
بالنسبة للدول المتقدمة، حيث التمويل مرتفع ونسبة الاستثمار في البحث العلمي تتجاوز في كثير من الأحيان 2% من الناتج المحلي الإجمالي كما تشير إحصائيات منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD)، تتجلى الأولوية في تعزيز البحث التطبيقي، الذي يترجم النظريات والاكتشافات إلى حلول عملية يمكن تطبيقها سريعًا في المزارع والمصانع، ما يخلق دورة فاعلة من الابتكار والنتائج الملموسة. هذا التوجه يرفع من سرعة نقل التكنولوجيا ويزيد من كفاءة الإنتاج. في هذا السياق، تصبح الشراكات بين القطاعين العام والخاص عمادًا أساسيًا، حيث تسهم هذه الشراكات في تسريع تسويق الابتكارات وتوسيع نطاق تأثيرها، فضلاً عن تقاسم المخاطر والتكاليف، ما يعزز من روح الابتكار ويرسخ ثقافة التعاون. أما محور الاستدامة، فهو الهاجس الأكبر، إذ تسعى هذه الدول إلى تطوير تقنيات تقلل الأثر البيئي وتحسن كفاءة استخدام الموارد، مما يعزز من قدرتها على مواجهة تحديات التغير المناخي وحماية البيئة للأجيال القادمة. مثالان بارزان يبرزان هذا النهج هما برنامج “Smart Farming” في هولندا الذي يعتمد على الذكاء الاصطناعي وتقنيات الاستشعار عن بعد لتحسين الإنتاجية وتقليل استخدام الموارد، بالإضافة إلى “USDA Innovation Agenda” في الولايات المتحدة التي تركز على تطوير أصناف محاصيل مقاومة للأمراض والجفاف، واستخدام التكنولوجيا الحيوية الحديثة.
أما الدول النامية، التي يتراوح تمويلها ما بين المتوسط إلى المنخفض، وغالبًا ما لا تتجاوز نسبة الإنفاق على البحث العلمي 0.5% من الناتج المحلي الإجمالي بحسب تقارير البنك الدولي، فإن التوصيات تتجه نحو زيادة تمويل البحوث ذات الأولوية الوطنية، حيث يجب أن تركز هذه الأبحاث على قضايا ملحة مثل التكيف مع المناخ والإنتاج المستدام، لما لها من أثر مباشر في تحسين حياة السكان وتعزيز الأمن الغذائي. إضافة إلى ذلك، تبرز أهمية تطوير مراكز بحث إقليمية مشتركة تجمع الموارد والخبرات بين الدول المجاورة، ما يوفر بيئة مثلى للتعاون وتقاسم المعرفة، ويعزز من القدرات البحثية بشكل جماعي بدلاً من الجهود المتفرقة. كذلك، يجب العمل على توفير حوافز لبقاء الباحثين المحليين ومنع هجرة العقول التي تشكل خسارة فادحة لهذه الدول، سواء من خلال تحسين بيئة العمل أو دعم الباحثين مادياً ومعنوياً. من بين المبادرات التي توضح نجاح هذه التوجهات، يبرز مركز أبحاث الحبوب في أفريقيا “AfricaRice”، الذي يمثل نموذجًا رائدًا في التعاون الإقليمي لتطوير أصناف أرز مقاومة للجفاف والملوحة، إضافة إلى مشروع التعاون الزراعي في أمريكا اللاتينية “PROCISUR” الذي يعزز أبحاث مشتركة وتقاسم الخبرات لتحسين الإنتاج الزراعي والحيواني.
أما الدول العربية، التي تعاني من تمويل ضعيف إلى متوسط في البحث العلمي، وغالبًا لا يتجاوز الإنفاق نسبة 0.2% من الناتج المحلي، فهي تواجه تحديات أكبر في هذا المجال، مما يتطلب تحديث السياسات الوطنية للبحث العلمي، ورفع مخصصات الميزانية المخصصة للقطاعات الحيوية، كي تتحول الرؤية إلى واقع ملموس يدعم التنمية المستدامة. وإلى جانب ذلك، تكمن أهمية إنشاء منصات وطنية وإقليمية للتنسيق بين الجامعات ومراكز البحوث والقطاع الصناعي والزراعي، لتوحيد الجهود وتقليل الازدواجية في العمل، وتعزيز تبادل المعلومات والخبرات. كذلك، يشكل بناء القدرات من خلال برامج تدريب وتطوير للباحثين والفنيين حجر الزاوية في رفع مستوى الأداء البحثي وضمان استمرارية الإنجازات. كما أن تشجيع الشراكات الدولية مع مؤسسات بحثية عالمية يفتح آفاقاً أوسع للتعاون والتمويل والتعلم من التجارب المتقدمة. أخيراً، يلعب تعزيز الوعي المجتمعي بأهمية البحث العلمي ودوره في التنمية دورًا حيويًا في دعم هذه المسيرة، عبر تعزيز ثقافة العلم والابتكار بين أفراد المجتمع وصناع القرار. من الأمثلة الناجحة في هذا السياق، برنامج “تمكين الباحثين الشباب” في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، الذي يدعم الأبحاث التطبيقية في الزراعة والإنتاج الحيواني، ومبادرة “الزراعة الذكية في الأردن”، التي تعتمد على التعاون الحكومي مع المنظمات الدولية لتطوير تقنيات زراعية متقدمة تتناسب مع البيئة المحلية.
تتجلى هذه التوصيات والأمثلة ضمن مسارات عملية، تحمل بين طياتها الأمل والتفاؤل بأنّ العلم والابتكار هما المفتاح الأهم نحو مستقبل أفضل، حيث تتقاطع الرؤى العالمية والمحلية لتشكل خريطة طريق واضحة تساعد في تخطي العقبات وتحقيق التنمية الزراعية والصناعية والبيئية على حد سواء، مما يعزز الأمن الغذائي والتنمية الاقتصادية المستدامة في كل بقعة من هذا العالم المتنوع.
🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.