رأى

الهجرة من القرية إلى المدينة: حين يترك الفلاح محراثه ويبحث عن خبزه في الإسفلت

بقلم: د.شكرية المراكشي

الخبير الدولي في الزراعات البديلة ورئيس مجلس إدارة شركة مصر تونس للتنمية الزراعية

حين يقرر الفلاح أن يغادر قريته، لا يكون الأمر مجرد رحلة من مكان إلى آخر، بل انفصال عن عالم كامل، عن تاريخٍ متجذر في أعماق الأرض، عن رائحة الطين المبلل التي تفوح مع أول خيوط الفجر، وعن أصوات الحقول المملوءة بأغاني الحصاد التي تعلمه الصبر منذ نعومة أظافره. الرحيل يعني التخلي عن سماءٍ اعتاد أن يقرأ فيها علامات المطر، وعن الأرض التي تعرفه وتعرف أسراره، عن المحراث الذي حمله بيده منذ صباه، والذي كان شاهدًا على كل قطرة عرق أفرغها في سبيل أن يروي التراب ويبني حياة أسرته. كل سنبلة قمح زرعها، وكل جذع شجرة اعتنى بها، كانت جزءًا من ذاكرة لا يمكن أن يحملها أي مكان آخر.

كل خطوة نحو المدينة ليست مجرد انتقال جغرافي، بل هي رحلة داخلية نحو مجهول جديد، حيث تتحول اليد التي كانت تعرف كل زاوية في الحقل، وكل علامة على خصوبة الأرض، إلى يد تبحث عن مأوى في مصانع مزدحمة أو في طرق مرصوفة بالإسفلت. صخب المدينة لا يرحم: أصوات السيارات، أضواء المصابيح التي لا تنطفئ، وتتابع البشر في عجلة مستمرة، كل ذلك يضع الفلاح أمام اختبار جديد للحياة، اختبار لم يعتد عليه في حنينه لموسم الحصاد، حيث كل يوم كان يحمل وعدًا جديدًا بالرزق والصبر والوفاء للأرض.

في هذا الانتقال العميق، يصبح الفلاح غريبًا في عالمه الجديد، يواجه تحديات لم يعرفها من قبل: تعلم لغة العمل المتواصل بلا توقف، فهم قواعد المنافسة التي لا تعرف الرحمة، مواجهة حياة سريعة تتطلب سرعة البديهة والصبر المزدوج. كل يوم يبتعد فيه عن أرضه، يزداد شعوره بالاغتراب، لكنه في الوقت نفسه يكتسب مهارات جديدة: الصمود أمام ضغط الحياة الحضرية، القدرة على التكيف مع بيئة مختلفة تمامًا، وخلق مساحة صغيرة من الأمل وسط الخرسانة والضجيج.

الهجرة من القرية إلى المدينة تحول الفلاح إلى صورة حيّة للمرونة والصمود، إذ يزرع بصبره وحكمته الباطنية بذور الحياة في قلب مكان يجهل جذوره، ويستمر في حمل إرث الأرض في ذاكرته، في سنابله التي يتذكرها، وفي عرقه الذي لا يزال ينبض داخل روحه. كل خطوة على الإسفلت، كل ساعة عمل بين أضواء المدينة، تصبح بمثابة يوم في الحقل، لكنها تمنحه خبرة جديدة: أن الصمود الحقيقي لا يقتصر على حرث الأرض، بل يشمل القدرة على مواجهة تحديات الحياة في أي بيئة، وأن الإرث الحقيقي للفلاح لا ينحصر في سنابل القمح أو خصوبة الأرض، بل في عزيمته وصموده وإيمانه بأن الحياة تُبنى بالعمل والوفاء لكل ما زرعه.

في المدينة، يتحول الفلاح إلى كائن غريب بين جدران شاهقة وطرق مرصوفة بالأسفلت، حيث لا وجود لمواسم الحصاد التي كانت تحدد أيامه وساعاته، ولا لرائحة الطين المبتل التي كانت توقظ ذاكرته مع خيوط الفجر الأولى، ولا لصمت الصباح الذي يسبق شروق الشمس ويمنحه شعورًا بالسكينة والانتماء. هنا، كل شيء مسرع، كل نفس مستعجل، وكل خطوة تتطلب اليقظة والانتباه. الفلاح الذي كان يعرف كل زاوية في حقله، وكل علامة على المطر والخصوبة، يجد نفسه فجأة مضطرًا لتعلّم لغة جديدة، لغة العمل المستمر بلا توقف، ولغة المنافسة التي لا تعرف الرحمة، لغة المدينة التي تفرض عليه أن يكون سريعًا ومرنًا، وأن يوازن بين كل شيء: بين العطاء والعمل المستمر، وبين الانتظار والصبر، وبين حاجته إلى الأمن المالي وحنينه لجذوره.

كل شيء في المدينة يذكّره بما فقده: لا السماء المشرقة، ولا الحقول التي ترتوي تحت المطر، ولا النسمات التي تداعب وجهه حين يحرث الأرض، ولا تلك الأصوات البسيطة للحياة التي كانت حوله: خرير الماء في السواقي، وصدى الأغاني الشعبية في موسم الحصاد، وضحكات الأطفال وهم يركضون بين صفوف القمح. كل ما يربطه بالأرض يتحول إلى ذكرى بعيدة، إلى قصص يرويها لنفسه في المساء، حين يجلس على مقعد صغير بعد نهار طويل، تعب جسده يثقل كاهله، وعقله يرحل في فضاءات الحنين، يتخيل حياة أخرى ممكنة، حياة فيها الطين والندى، حيث الشمس تشرق على وجهه، والأرض تتنفس تحت قدميه، والرياح تهب فتداعب الحقول.

في هذا الفضاء الصاخب، تتداخل مشاعر الحنين بالغربة، ويصبح الفلاح حاضرًا بحواسّه كلها في عالمين: عالم المدينة الذي يفرض عليه القوانين الصارمة للنجاة، وعالم القرية الذي يحمله في قلبه، في ذاكرته، في عرقه، وفي سنابله التي ما زالت تُهمس له بأن الحياة الحقيقية تبدأ حيث تُزرع اليد وتُروى بالأمل. المدينة تعلمه الصمود بطرق مختلفة، لكنها لا تستطيع أن تمحو صورته القديمة: الفلاح الذي يعرف كل زاوية في الأرض، الذي يفهم لغة السماء، الذي يستطيع أن يقرأ الطين ويروي الأرض بالحب والعرق. هنا، بين الخرسانة والرصيف، يصبح كل يوم معركة بين الماضي والحاضر، بين الانتماء للأرض وبين الحاجة للبقاء، وبين ما فقد وما يجب أن يُحافظ عليه. وكل مساء، حين يسدل الليل ستاره، يظل الفلاح محتفظًا بصوت الحقول في ذاكرته، وصورة السنابل في عينيه، وحنين الأرض في قلبه، يزرع الأمل رغم أنف الخرسانة، ويستمر في البحث عن حياته كما اعتاد أن يبنيها على ضفاف الطين والمطر.

الهجرة ليست مجرد انتقال من مكان إلى آخر، وليست مجرد تغيير عنوان على خارطة، بل هي تجربة عميقة تتخلل النفس، صراع داخلي يمتد في كل خلية من خلايا الإنسان. الفلاح الذي ترك قريته لم يغادر بيتًا أو حقلًا فحسب، بل غادر تاريخًا متجذرًا في التراب، غادر رائحة الطين الذي يروي الأرض بالمطر، وغادر أصوات الحصاد التي كانت تصنع إيقاع أيامه منذ الصغر، وغادر الإيقاع الهادئ للحياة التي تتناغم مع فصول الطبيعة. كل خطوة نحو المدينة هي خطوة نحو عالم مجهول، عالم لا يعرف الصبر كما عرفه في الحقل، ولا يقدّر العرق الذي يسقي الأرض ويصنع الخبز، ولا يفهم لغة السماء التي كانت تنبهه إلى موعد المطر وموعد الحصاد.

في المدينة، يصبح الفلاح غريبًا بين مئات الأرصفة والشوارع، بين أبراج تصدح بالحديد والزجاج، وبين مصاعد وسلالم كهربائية لا تعرف الصبر ولا الانتظار. حياة سكانها تسير بوتيرة سريعة لا تسمح له بالتوقف أو التوقف قليلًا للتفكير في جذوره. كل وجه يمرّ من أمامه ليس سوى صورة لوجود لا يعرف التاريخ ولا الأرض، وأصوات المدينة العالية تختلط مع صمت الحقول الذي كان يملأ قلبه بالأمان. هناك، عليه أن يثبت نفسه كل يوم، أن يحافظ على كرامته وسط أشخاص لا يعرفون معنى العمل اليدوي ولا قيمة كل سنبلة قمح كانت جزءًا من حياته، وأن يتعلم لغة جديدة هي لغة البقاء في صخب لا يهدأ، لغة التكيف مع القسوة التي لا يرحمها أحد، لغة الانتظار والعمل بلا توقف، ولغة مقاومة الغربة التي تتسلل إلى النفس بلا إذن.

ورغم كل ذلك، يبقى الفلاح مرتبطًا بأرضه، بأصوله، بذاكرته التي تحوي كل علامة على السماء، كل أثر لمطرٍ هطل على الحقول، كل تربة عُنيت وسقيت بالعرق والدموع. يحمل إرثه في صمت، في عزيمته، وفي كل سنبلة كانت تنمو في قلبه قبل أن يغادر. إنه يزرع الأمل في المدينة كما كان يزرعه في الأرض، ولكن بطريقة مختلفة، بطريقة صامتة، غير مرئية للآخرين، لكنها حقيقية. كل يوم، حين ينظر إلى الشارع المزدحم أو المباني المرتفعة، يشعر بصوت الأرض يهمس له، يحثه على أن يتذكر أن الحياة الحقيقية تبدأ حيث تُزرع اليد وتروى بالحب والعرق، وأن الجوهر الذي يمنحه الأمان والكرامة لا يتغير بتغير المكان، بل يبقى مع الإنسان في داخله، حتى لو غاب عن الأنظار.

الهجرة إذن تجربة مزدوجة: فقدان واحتفاظ، غربة وانتماء، صراع داخلي يختبر مرونة الروح وقدرتها على الصمود. الفلاح يكتشف أن البقاء ليس مجرد مواجهة الطبيعة، بل مواجهة المدينة، وأن القوة ليست في الأرض وحدها، بل في القدرة على حملها داخليًا، في قلبه وذاكرته وروحه، حيث يزرع سنابل الأمل من جديد، ويحافظ على جذوره، ليظل حيًا رغم الخرسانة، حيًا رغم الصخب، حيًا رغم الغربة التي قد تطاله، لأن الحياة الحقيقية هي حياة يزرعها الإنسان بعزيمته ويحصده بالأمل.

الهجرة تحوّل الفلاح من راعٍ للأرض إلى مسافر في عالم مختلف، عالم مليء بالخرسانة، والضجيج، والأضواء التي لا تنطفئ، ولكنه عالم يحمل معه دروسًا جديدة لم يكن ليختبرها بين الحقول. كل صباح في المدينة يبدأ بخطوات على الإسفلت الصلب، لا رطوبة الطين تحت القدمين، ولا رائحة التراب المبتل التي كانت توقظ الحواس منذ الفجر، لكنه يجد في هذه الخطوات درسًا في الصبر والتحمل، وفي القدرة على إعادة ترتيب حياته وفق إيقاع جديد يفرضه الواقع. كل ساعة يقضيها بين ضجيج الشوارع وأصوات السيارات والصراخ، تعادل يومًا كاملًا من العمل الشاق في الحقل، لكنها تمنحه معرفة جديدة بقيمة الجهد والصمود في مواجهة ما هو مجهول، وبأهمية التعلم على صبر النفس وإدارة الطاقات في بيئة لا ترحم أحدًا.

في المدينة، يتعلم الفلاح مهارات لم يكن يعرفها من قبل؛ مهارات الحفاظ على ذاته وسط زحام الناس، والقدرة على إيجاد فسحة من الأمل وسط الخرسانة، واستخدام كل فرصة صغيرة لصنع فرق في حياته وحياة أسرته. يصبح كل صباح مواجهة جديدة، كل مساء اختبارًا جديدًا للإرادة، وكل يوم يمثل تحديًا للصبر والمثابرة. يكتشف أن الحياة ليست مجرد الحصول على الطعام أو الأمان المالي، بل القدرة على التأقلم، على إعادة الزراعة الرمزية للروح، على أن يحافظ على جذوره الداخلية رغم أن جذوره الخارجية قد ابتعدت.

الحنين إلى الماضي يرافقه كظل لا ينفصل عنه؛ صورة الأرض التي أحبها، وحرارة الشمس التي اعتادها، ورائحة المطر التي كانت تملأ قلبه بالأمان، وأغاني الحصاد التي كانت تنسج الأمل في قلبه، كلها تبقى حيّة في ذاكرته، تمنحه عزيمةً لمواجهة أي صعوبات. لكنه يعرف أن العودة المادية إلى الحقول قد تكون مستحيلة، وأن الحاضر يفرض عليه أن يبني حياة جديدة، تختلف في أدواتها ووسائلها، لكنها تتطلب نفس الروح: العمل، العطاء، والصمود.

حتى في هذا الغياب عن الأرض، يظل الفلاح حاملاً إرثه الداخلي، حاملاً صورة الحقول والسنابل في قلبه، مستذكرًا الدروس التي علمته إياها الطبيعة: أن الحياة الحقيقية ليست مجرد البقاء أو ملء البطون، بل القدرة على الصمود، على مواجهة كل تحدٍ بعزيمة لا تنكسر، على زرع الأمل في أماكن تبدو قاحلة، على أن يكون العطاء مستمرًا، وأن الصبر يصبح عملًا يوميًا لا يقل أهمية عن الحصاد نفسه. إنه يحمل الأرض داخله، ويعيد زرعها في المدينة بطرق مختلفة، في صمته، في عزيمته، في كل بذرة أمل يزرعها في قلب أبنائه أو في حياته اليومية، لتظل سنابل الحقول التي عرفها حية في ذاكرته، وشهادة على أن الفلاح مهما ابتعد عن الأرض، يظل مرتبطًا بها، مرتبطًا بالحياة، مرتبطًا بالأمل الذي لا يموت.

الهجرة إذن ليست مجرد انتقال مادي من قرية إلى مدينة، بل هي رحلة عميقة في النفس والروح، رحلة تقيس قدرة الإنسان على مواجهة التغيير، وتعلمه كيف يوازن بين جذوره وأفقه الجديد، بين الماضي الذي صاغ شخصيته والحاضر الذي يفرض عليه شروط البقاء. الفلاح الذي غادر الأرض لم يغادر مجرد قطعة تراب، بل غادر تاريخًا ممتدًا من العطاء والصبر، رائحة الطين المبلل التي كانت توقظ الحواس عند الفجر، وأغاني الحصاد التي غرست في قلبه درس الانتظار والأمل، وعادة التعب مع غنى الأرض الذي لا يقدره إلا من عاشه بنفسه.

في المدينة، يكتشف أن الحياة تختلف؛ لا موسم للحصاد، ولا صمت الصباح، ولا رائحة الأرض التي تعطي الإنسان إحساسًا بالانتماء. لكنه يتعلم لغة جديدة، لغة الصمود وسط الخرسانة، لغة الصبر أمام جحيم المواعيد والضوضاء، ولغة العمل الذي لا يكل ولا يمل. كل يوم يمر عليه يحمل درسًا مختلفًا: كيف يحافظ على ذاته، كيف يزرع بذور الأمل بين جدران مبانٍ شاهقة، كيف يحول الضوضاء إلى وقود، والاغتراب إلى عزيمة، ليظل قادرًا على بناء حياة جديدة رغم أنف الظروف.

الحنين إلى الحقول يبقى رفيقه الدائم، صورة الأرض تتردد في ذاكرته كما تتردد الأغاني القديمة في مسامع القلب، صوت المطر يشبه ترديد صلاة سرية، ونغمة السنابل التي تعلمه أن الحياة الحقيقية ليست مجرد بقاء، بل صمود مستمر وعطاء لا ينقطع، وأن الإنسان الحقيقي لا يُقاس بقدر ما يملك من مال أو أماكن، بل بقدر ما يستطيع أن يحافظ على جوهره، على قيمه، وعلى إرثه، مهما بعدت عنه الأرض التي أحبها.

الفلاح في المدينة يصبح صورة حيّة للتحدي والمرونة، رمزًا لقدرة الإنسان على إعادة بناء ذاته في ظروف غير مألوفة، على أن يكون جذوره ممتدة في قلبه حتى وإن ابتعد عنها جسديًا. هو الذي يحمل في صمته سنابل الحقل، وذكريات الأرض، وقيم العطاء، ويزرعها في المدينة بطرق مختلفة، في صبره، في عزيمته، وفي كل فعل صغير يخلق حياة جديدة. وبين الخرسانة والضجيج، يظل يحمل إرث الأرض داخله، مؤمنًا بأن الحياة الحقيقية تبدأ دائمًا حيث تتلاقى اليد والعرق، حيث تنمو السنابل، وحيث يصنع الإنسان مستقبله بصدق وصبر، حتى لو اختلطت أصوات السيارات بصوت المطر، وحتى لو بدا الإسفلت باردًا وجافًا كما لو أنه يسلب الروح.

🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى