المرأة الريفية

«المرأة الفلاحة» عمود الأرض المجهول 

بقلم: د.شكرية المراكشي

الخبير الدولي في الزراعات البديلة ورئيس مجلس إدارة شركة مصر تونس للتنمية الزراعية

حين نتحدث عن الفلاحين، كثيرًا ما يطلّ المشهد الذكوري التقليدي: رجل يحمل محراثه، يتقدم نحو الحقل بخطى ثابتة، والشمس ترسم على وجهه ملامح الصبر والكد. غير أن هذه الصورة، وإن كانت حقيقية، تظل ناقصة، لأنها تخفي خلفها نصف الحكاية الذي نُسي عمدًا أو جرى تهميشه طويلًا. هناك، في الظل الذي يرافق الحقول، تقف المرأة الفلاحة، لا كرفيقة صامتة، بل كركيزة أساسية، هي التي تحمل العبء بصمتٍ أشد ثباتًا من صخب المعاول. لم تُسجَّل بطولاتها في كتب التاريخ، ولم تُرفع لها تماثيل في الميادين، لكنها تركت أثرها في كل تفصيلة من تفاصيل الحياة اليومية، حتى غدت روحًا متجسدة للأرض ذاتها.

إنها التي تخرج مع الفجر، حافية القدمين أحيانًا، تضع على رأسها قُفة القمح أو جرّة الماء، وتلتحق بالحقل حيث ينحني الرجال. لكنها، بخلاف ما يُظن، لا تأتي لتُساعد فقط، بل لتزرع وتبذر وتحصد، لتغني للسنابل فتنتعش، وللأرض فتستجيب. وإذا عاد الفلاح الرجل ليلًا منهكًا، عادت هي لتبدأ معركة أخرى في بيتها: تعجن الطحين، تُوقد التنور، تخيط الثياب، وتربي الأبناء، وكأنها تحمل عالمًا كاملًا بين يديها. وهكذا ظلّت عبر الأجيال العمود الذي لم يُرَ، لكنه حمل الأرض بجدارة، وأعطى للمعنى أبعادًا أعمق من حدود الحقل والبيت.

لقد خُلِّدت بطولتها لا في النقوش الحجرية ولا في السجلات الرسمية، بل في الأغنية الشعبية التي رددتها النساء في مواسم الحصاد، في الأمثال التي جسدت صبرها، في رائحة الخبز الساخن الخارج من تنورها، وفي الحقول التي ما زالت تروي قصة عرقها وصبرها. وإذا كان التاريخ قد آثر أن يتحدث عن السلاطين والولاة، فإن ذاكرة الشعوب احتفظت باسمها في شكل تراث حيّ، لا يموت باندثار الدول ولا بتقادم السنين. المرأة الفلاحة لم تكن يومًا ظلًّا للرجل، بل كانت قلب الأرض النابض، الحارسة الصامتة لخصوبتها، واليد التي نسجت الحياة من خيوط التعب والأمل

أولًا: دورها في الحقل

لم تكن المرأة الفلاحة مجرد ظلٍ لرجلٍ يحرث الأرض، بل كانت في حقيقتها ركيزة لا غنى عنها في كل دورة زراعية، شريكة في تفاصيلها الصغيرة والكبيرة. حين ينسدل الليل وتبدأ خيوط الفجر الأولى في شقّ العتمة، تكون هي أول من يغادر الدار بخطوات حافية أحيانًا، تحمل منجلها أو جرّتها أو الحبال على كتفيها، وكأنها تسير نحو موعد أبدي مع الأرض. لم تكن تنتظر أن يُملى عليها دورها، فقد كانت تعرف أن وجودها في الحقل ليس تفضّلًا، بل ضرورة تستند إليها الحياة.

حين تطأ قدما المرأة الفلاحة تراب الحقل، يتحول المكان إلى مسرح حياةٍ حقيقية، حيث تختلط رائحة الطين بعرق الجبين، وحيث يصبح الزمن نفسه محكومًا بإيقاع خطواتها. ليست مجرد يد عاملة إضافية كما يُخيَّل للبعض، بل هي قلب المنظومة الزراعية، الكائن الذي يضبط توازنها بصبره وحنكته. في كل موسم، من حرث الأرض إلى بذر البذور، من السقي إلى الحصاد، يتردد صدى حضورها الصامت والفاعل.

قد تراها منحنية على الأرض، تجمع الشتلات بيدين خشنتين، لكنهما تحملان رقة الأمومة ذاتها. ترفع رأسها بين الفينة والأخرى لتغني أغنية قديمة ورثتها عن جدتها، أغنية تُخاطب السنابل وتستحث الغيم على النزول. صوتها، وإن كان مبحوحًا من التعب، ينساب كنداءٍ للأرض، فتغدو الزراعة طقسًا روحيًا بقدر ما هي عمل شاق. وإن غاب المطر، كانت أول من يلتفت للحلول البسيطة: تخزين مياه الري، إصلاح قنوات السقي، أو حتى الدعاء للسماء في ليالٍ طويلة، وهي تعرف أن الأرض لا تخذل من أحبّها بصدق.

في الحقل، تكتسب المرأة الفلاحة قدرة فريدة على قراءة تفاصيل لا يلحظها غيرها. من نظرة واحدة تميّز نبتة مريضة من أخرى صحيحة، ومن لمسة تعرف إن كان القمح قد اكتمل أو لا يزال في حاجة لأيام. هي لا تعتمد على الكتب أو النظريات، بل على خبرة متراكمة تناقلتها عبر الأجيال، خبرة تحفظها كما يُحفظ الشعر في الذاكرة. تلك المعرفة الشعبية – التي قد يصفها البعض بالبدائية – كانت ولا تزال عماد بقاء الزراعة في القرى والبوادي، إذ أنقذت المحاصيل مرارًا من الهلاك حين عجزت النصائح الرسمية عن ذلك.

ولأن الحقل ليس فقط موضع زرع بل أيضًا ساحة مواجهة، تتحول المرأة فيه إلى مقاتلة صامتة. تواجه حرارة الشمس الحارقة، ولسعات البرد القارس، والجوع حين يقل الخبز، والعطش حين يشح الماء. لكنها لا تستسلم؛ فهي تعرف أن قوت أبنائها رهن بما تحمله يداها اليوم. إنها حرب بلا سيوف ولا مدافع، لكنها لا تقل قسوة، والمرأة الفلاحة فيها جندية صلبة تقاتل بعناد، مستندة إلى إيمان داخلي بأن الأرض، وإن كانت متعبة، فهي وفية لمن يصبر عليها.

في لحظة بذر البذور، تتقدم بخفةٍ تُشبه الأم التي تواري طفلها في ثوبٍ دافئ. تضع الحبوب في التراب بحنوّ، كأنها تضع سرًّا عزيزًا في رحم الأرض، متيقنة أن هذا البذل لن يذهب هباءً. وعندما يحين وقت الحصاد، تُمسك بالمنجل بحزمٍ يعكس قوتها، وتقصّ السنابل واحدة تلو الأخرى، وهي تردد أغنية قديمة تعلمتها من جدتها: يا زرع بلدي يا أخضر… يا مُفرّح كل مَن يزرعك”

أغنية قصيرة، لكنها تحمل في نغمتها كل الرجاء، كل انتظار، وكل فرحة معلّقة بسنابل الذهب القادمة. الأغنية ليست للتسلية، بل طقس يُعطيها القدرة على مواصلة العمل تحت الشمس الحارقة، ويُبقي في قلبها شعلة الأمل مهما طال التعب.

لكن الحقل لم يكن دائمًا عامرًا بالرجال. كم من نساءٍ وجدن أنفسهن وحيدات بعد رحيل الأزواج إلى الحروب أو السفر للعمل الموسمي. في تلك اللحظات لم تتردد المرأة الفلاحة في أن تتولى المحراث بنفسها، وأن تجرّ البهائم، وأن تسقي وتبذر وتجمع المحاصيل. لم يكن في الأمر بطولة تسعى إليها، بل واجب لا يمكنها أن تتخلى عنه، لأن الأرض إذا تُركت تذبل، وإذا ذبلت مات معها البيت. وهكذا تحولت إلى “مهندسة الأرض الصامتة”، تحمل معرفة لم تُكتب في كتب، لكنها تسري في وجدانها كما يسري الدم في العروق.

كانت تقرأ السماء كما يقرأ الفلكي خرائط النجوم. من تغير لون السحاب تعرف إن كان المطر قريبًا أو بعيدًا، ومن اتجاه الريح تدرك ما إذا كان الموسم خصبًا أو مجدبًا. حتى رائحة الأرض بعد أول قطرة مطر كانت بالنسبة لها كتابًا مفتوحًا، يخبرها بما تخبئه الأيام القادمة. تلك الحاسة الفطرية، الممزوجة بتجربة الأمهات والجدات، صنعت علمًا حيًا لا يعرفه إلا من عاش الأرض. علمٌ بلا ألقاب أكاديمية، لكنه أقوى من آلاف الصفحات الجامدة.

الحقل بالنسبة إليها لم يكن مكانًا للعمل فحسب، بل كان امتدادًا لروحها. كل خطوة تخطوها فوق الطين، كل لمسة لورقة أو سنبلة، كانت توقيعًا على عهد أبدي مع الأرض: عهد الوفاء، عهد الصمود. ولولا هذا الدور غير المرئي، لما بقيت القرى العربية على قيد الحياة كل تلك العقود، ولما استمر خبز التنور والزيتون والتمر على موائدنا. إنها اليد الخفية التي لم تكتبها كتب التاريخ، لكنها كتبت نفسها على وجه الأرض، بين كل سنبلة وكل قطرة ماء وكل حجر صامت في الحقول.

ثانيًا: دورها في البيت

تعود المرأة من الحقل محمّلة بتراب يومها وأغنيات جدتها، ومن نهاية النهار تبدأ جولة جديدة لا تقل مشقة عن صباحها في الحقل. ليست مهمة الطهي مجرد تحضير وجبة، بل هي عملية تحويل كاملة: تحويل السنابل إلى طحين، والطين إلى قرميد من نار التنور، والقطن إلى بطّانية تقي الصغار برد الليل. بأصابعها تتشكل حياة الأسرة؛ تعجن باليدين خبزًا يكفي لأسرة جائعة، وتحوّل القليل إلى كثير بخبرةٍ نادرة في القياس والاقتصاد. حين تنقر الخبز في التنور، تكون قد أتمت سلسلة من الأعمال التي تبدأ من الأرض وتنتهي بالمائدة، سلسلة لا يعرف وزنها إلا من جاع أو عاش بلا دفء منزلٍ قائم على مشاعلها.

البيت في نظرها ليس جدرانًا فقط، بل شبكة من مهام متشابكة: الطبخ، والخبز، والنسج، والغزل، وخياطة الملابس، وإصلاح أواني الطين، وتخزين المؤن للمواسم الصعبة. كل فعل فيها يحمل بُعدًا اقتصاديًا واجتماعيًا؛ الحليب الذي تُقْطره لتصنع الجبن لا يُطعم الأسرة فحسب، بل يصبح سلعة تُباع في السوق في أيام الحاجة، والغزل الذي تنسجه يتحول إلى ثوب يُهدى أو يُسوَّق، والحبوب التي تحفظها طيلة الشتاء تُجنّب البيت أيام الأشباح التي يحضرها الطقس القاسي. هي المحاسبة الأولى لميزانية الأسرة، تحسب النفقات وتقنّن الحصة، وتدير القليل كما لو كان ثروة تمنحها حكمة طويلة الأمد.

لكن عملها لا يقتصر على المادي فقط؛ هناك عناية لا تُرى في صورة تربية الأطفال وتعليمهم عادات الأرض وطقوسها. تعلم الصغار الأغاني التي تُقوى الروح، وتُخبرهم متى يُنثر البذور ومتى يُنتظر المطر، تُعلّمهم أسماء الأعشاب وفوائدها، وتنسج فيهم تعلقًا بالأرض لا يقرأ في الكتب. في الحكايات التي تُروى عند المساء، تُنحت القيم وتُرسّخ الهوية؛ الضمير الزراعي، وفضائل الصبر والعمل، وروح التضامن القروي. بهذه الطريقة تُصنع الأجيال: ليست فقط أيدي عاملة، بل حاملات لذاكرة وعلاقة عميقة مع ما يربط الإنسان بالأرض.

المرأة في البيت أيضًا طبيبة ومخزنة وحافظة لمعرفة تقليدية. تجمع الأعشاب، وتصنع الدواء من نبات أو زيت، تحفظ البذور الأفضل للمواسم القادمة، وتخترع طرقًا للحفظ والتجفيف تقلّل الفاقد. وفي أوقات الحرب أو الغلاء، تتحول مهارتها في التخزين إلى مدرسة للبقاء؛ تحوّل الحبوب إلى أقراص خبز جافة، وتجفف الخضار، وتقسّم المؤن ببصيرة تقي الأسرة أوقات الشدة. كذلك كانت شبكات النساء المتبادلة—قرباء وجارات—مصدرًا للمساعدة العاجلة: تبادل دراهم قليلة، أو مشاركة في إعداد الخبز، أو رعاية للأطفال حين يمرض والدهم. هذا الاقتصاد الاجتماعي غير المرئي هو ما يبقي النسيج المجتمعي متماسكًا.

ومع كل هذا البذل، تبقى شهادات الاعتراف غائبة: لا تُسجّل ساعاتها في أرقام أو تقارير، ولا تُذكر في صناديق التكريم. الأمثال الشعبية وحدها تشير إلى قيمتها بكلمات موجزة تنطق بحقها: “بيت بلا فلاحة… خراب حتى لو امتلأ ذهبًا” تقول الحكمة بصراحةٍ مريرة. لكن هذا الغياب لا يقلل من أثرها؛ بل يجعل دورها أعمق وأخلد، لأن ما تزرعه لا يخص أسطورة واحدة بل هو رزق مشترك وشعور جماعي مترسخ.

في النهاية، تبقى المرأة الفلاحة هي من تصنع من الغذاء حياةً كاملة—قابلة للحب، وممزوجة بالتراث، ومحكمة بصبرٍ لا يحمِل الاهازيج. هي التي تُعلم البيت كيف يتحول إلى ملجأ، والطفل كيف ينمو على إيقاع الفصول، والمجتمع كيف يثبت جذوره عندما تتعصف به العواصف. ولولا يدها، لما اكتمل دور الحقل ولم تكتمل دائرة العطاء التي يبدأها المطر وينهيها رغيف على المائدة.

ثالثًا: دورها في الثقافة الشعبية

لم يكن صوت المرأة الفلاحة حاضرًا في الحقول فقط، بل كان كفًا تكتب به الذاكرة، ونغمة تحفظها الأجيال كما تحفظ الحبوب. حين تجتمع النساء على صفوف الزرع أو حول تنور الخبز، تتحول تلك اللحظات إلى أرشيف حيّ: أهازيج تُعلّم، وأغنيات تُذكّر، وحكايات تُروى، كلها تعمل كقلب نبضي يحفظ ربط الإنسان بالأرض ويحميه من ضياع الجذور. الأغنية في الحقل ليست مجرد ترف؛ هي أداة لتنظيم العمل وإعطاء الإيقاع، وهي قاموس للمعرفة العملية، وطريقة لتفريغ المخاوف والحنين وتحويل تعب النهار إلى طاقة جماعية تسمو فوق الإرهاق.

أثناء البذر والحصاد كانت تُنشد أغانٍ قصيرة تُنسق حركة اليد والسرعات، وتُخفف من وطأة الشمس. تلك الأهازيج تحمل أحيانًا تعليمات مكشوفة —متى تُعمق البذرة، متى تُزرع الحقول الجانبية— وأحيانًا رموزًا وأدعية، ففي نغم واحد تختزل المرأة قائمة طويلة من الخبرات التي لا تُكتب. العبارة التي تتردد في بعض الحقول: “يا زرع بلدي يا أخضر… يا مُفرّح كل مَن يزرعك” ليست مجرد سطر بل رسالة أمل تُعاد كل موسم، وكأنها تعهد جماعي بأن الأرض ستُكافئ من آمن بها.

الأمثال والأهازيج عملت كمنهج أخلاقي واجتماعي مبسّط، فيه تُعلم الصغار أن العمل شرف، وأن تبادل الغِلة واجب، وأن الأرض تُرد الجميل لمن يخدمها. أمثال مثل التي اعتدنا عليها —”الفلاحة صبرها من صبر الأرض” و”اللي ما يعرف قيمة الزرع… ما يعرف قيمة الفلاحة”— ليست زينة لفظية فحسب، بل أدوات تربوية تخاطب العقل والوجدان في آن واحد، وتُرسي قواعد التشارك والاقتصاد المنزلي والاعتداد بالعمل اليدوي. عبر تلك الحكم تتشكّل صورة جماعية عن الكرامة والجدّ والوفاء بالأرض.

إلى جانب الكلمات، هناك طقوس جماعية تربط بين النساء والحقول: أيام الحصاد تتحوّل إلى احتفال يختلط فيه العمل بالوليمة، وتشارك النساء في إعداد الخبز الجماعي، وفي تبادل المؤن والبذور، وفي تناقل وصفات للتخزين والتمليح والتجفيف. تلك الطقوس كانت شبكة أمان اجتماعية قبل أن تكون مهرجانًا ثقافيًا، إذ إن تبادل الجرار والأواني ومكاييل الحبوب كان يعني في فترة الحاجة فرقًا بين شتاء طويل وسقيا كافية للأسرة. وبذلك تُصبح المرأة في مركز دائرة التضامن، لامنقذيًا للغذاء فحسب، بل منظّمًا للموارد والمواسم.

التراث المادي يعكس هذا الصوت أيضًا؛ في نقوش الأقمشة والتطريزات وتحف المنزل تجد خطوطًا وزخارف تستلهم من السنابل والأوراق والأشجار. النمط الذي تُطرز به مريلة أو غطاء يعطي إشارات عن الموسم وعن نوع المحصول وعن رغبة في البركة والطول. بذلك تتحول الحرف اليدوية إلى سجل بصري لما تزرعه اليدان، وتستمر الحكاية حتى عندما يغيّب الزمن المزارع نفسه ويبقى نمط المطرز شاهدًا على علاقة قديمة لا تنقطع.

صوت المرأة الفلاحة لم يكن محض تراتب شركاته، بل كان أيضًا صوت احتجاج ومقاومة؛ في لحظات النكبات أو النزوح، غناء النساء حفظ أسماء القرى والحقول، رباطًا ذاكرًا يرفض النسيان ويؤكد الوجود. الأغنيات أحيانًا كانت تحمل سخرية من الظلم، وأحيانًا صرخة على فقدان الأرض، فتتحول من طقوس عمل إلى صرخة تاريخية تُحفظ عبر الأجيال كدليل على الوجود والحقوق.

اليوم يتعرض هذا التراث لضغوط هائلة: هجرة الريف إلى المدينة، وتغيّر أنماط العمل بسبب المكننة، وتقلّب المناخ الذي يسرق من الأجيال استمرارية المواسم. ومع ذلك، تظهر محاولات إحياء: مهرجانات شعبية، مبادرات توثيقية، وعمل تعاوني تقوده نساء يجمعن الأهازيج والمعارف ويعيدنها إلى المدارس والمهرجانات. إن توثيق هذه الأغاني والأمثال وقصص النساء ليس ترفًا ثقافيًا بل عمل إنقاذي، لأن ما يضيع منه سيعني فقدان خريطة طويلة من معرفة البذور والمطر والحفظ والطب الشعبي.

رابعًا: دورها في مواجهة الأزمات

عبر الحروب والمجاعات والجفاف، تقف المرأة الفلاحة في مقدمة الصفوف كجدارٍ لا ينهار، وجهها يحنو على الحقول كما يحنو الخبز على النار، وصوتها في تلك اللحظات يصبح لحن البقاء. حين تصرخ المدافع أو تهدّد السماء بالجوع، لا تنتظر أن يُكتب لها دورٌ في قصص البطولة الرسمية، بل تلبس عتادها اليومي: سعة الصدر وحياكة الحلول، وتتحول سواعدها إلى أدوات إنقاذ. في ليالي الحصار، حين يغيب الرجال أو تُمنع المحاصيل من الوصول إلى السوق، تتحول المرأة إلى أمٍّ لكل الموارد؛ تجمع الحبوب في جِرَب محكمة، تنشرها على أسطح المنازل لتجففها من رطوبة الخطر، تحوّل اللبن إلى جبن وزبد يحفظ طويلاً، وتجفّف الخضار والفاكهة لتكون مخزون الشتاء. هكذا تصنع طعامًا يدوم لأشهر، وتبقي مائدة صغيرة تنبض بالحياة وسط بياض الموت.

وفي الحقول نفسها، حين يلملم الجوع قواه ويهدد جذور الحياة، تجد المرأة طرقًا بدائية لكنها فعّالة لجمع الماء وحمايته: تحبس مياه الأمطار في أوعية فخارية، تحفر خنادق ضيقة تعيد توجيه جريان السيول، وتعيد إحياء آبار قديمة بيدٍ لا تهاب الوحل. في اليمن، مثلًا، كانت صفوف الجرار الفخارية على المنحدرات تشير إلى معرفة متوارثة بكيفية جلب الماء من السماء إلى حجر البيت، وفي فلسطين صار المفتاح المعلّق حول عنق المرأة رمزًا للصمود والعودة، والمفتاح ليس مجرد معدن بل عهد بحماية الذاكرة والأرض. هناك حيث تُحرق القرى أو تُهدم البيوت، تبقى المرأة حاملةً لاسم الحقل، حاملًا سنبلة في يدها كراية، وتُردّد الأغاني التي تُبقي الذاكرة حيّة: كلمات حزينة لكنها مملوءة بإصرار، تقول للغد إن الخصوبة ستعود وأن الأرض تختزن في صدرها وعد الحياة.

لا يقتصر صمودها على الحيل المادية، فحين ينقلب العالم عليها اقتصادياً واجتماعياً تصبح شبكاتها النسائية منقذًا اجتماعيًا؛ الجارات يتبادلن الأواني، والنساء يشاركن في خبز جماعي يُخفف العبء على كل بيت، وتُعقد حلقات صغيرة لتوزيع الحبوب والبذور، بحيث يتحول التشارك إلى استراتيجية بقاء. وفي هذه اللحظات تكشف الحكمة الشعبية عن وجهها الأشد فاعلية: حفظ البذور الأفضل للموسم القادم، اختيار ساعات الحصاد التي تقل فيها حرارة الشمس للحفاظ على جودة الحبوب، والابتكار في وصفات الحفظ التقليدية التي تحوّل القليل إلى كثير. المعرفة التي تبدو بدائية هي في جوهرها علم مرن يتفاعل مع الظروف، وقد أنقذت قِرى بكاملها من الانهيار في أوقاتٍ لم تتدخل فيها سياسات رسمية فعالة.

ومن الناحية النفسية، تتحول أغاني النساء وتراتيلهن إلى دواء. في عزّ المحنة تُردّد المرأة أنشودة تُخفف عن الأطفال رعب الانقطاع وتزرع فيهم رجاء أن الفجر سيأتي. الأغنيات التي تُغنى في السودان أو الشام أو مصر ليست نصوصًا فلكلورية جامدة، بل طقوسُ مقاومة تُترجم الألم إلى عزيمة؛ كلماتها البسيطة تنطق بالإيمان بأن الأرض ستُردّ الجميل لمن لم يتركها. وربما يكون أبلغ شاهدٍ على قوة هذا الدور أن كثيرًا من مجتمعات الريف بقيت صامدة أمام موجات النزوح والتهجير لأن المرأة لم تسمح للذاكرة بالانطفاء؛ كانت تحفظ أسماء البساتين وطرق الري ووصفات الخبز، فتمنح الراجعين خريطةً لاستعادة ما نُهب.

 يمكن القول إن صمود المرأة الفلاحة ينبع من تقاطعٍ بين خبرة معرفية متوارثة وقدرة عملية على الابتكار الاجتماعي والاقتصادي، وهي قدرة لا تُقاس بساعات العمل فقط بل بمرونتها في تحويل الموارد المحدودة إلى شبكة أمن غذائي محلية. ومع ذلك فإن هذا الدور العظيم غالبًا ما يظل غير مرئي على مستوى السياسات: حقوقها على الأرض أقل اعترافًا، وصولها إلى الموارد والتمويل محدود، ومعرفتها التقليدية مهددة بالاندثار. وفي زمن تتسع فيه أبعاد التغير المناخي وتشتد فيه الحروب والهجرات، يصبح الاعتراف بهذا الدور وتمكينه لا رفاهية ثقافية بل شرط بقاء؛ تمكين المرأة الفلاحة يعني دعم مخزون المجتمع من المعرفة والمرونة، وتأمين شبكات حفظ البذور والمياه والمخزون الغذائي، وإدماج خبرتها في خطط الطوارئ الوطنية.

في نهاية المشهد، تظل المرأة الفلاحة صورةً لصلابةٍ ناعمة: تقاوم بالجسد والذهن واللغة، تحفظ الطعام والذاكرة، وتغني حتى تعيد للأرض أملها. هي ليست فقط من تصنع الاستجابة للأزمات بل من تُعلّم المجتمع كيف ينهض بعد السقوط، لأنها ببساطة مرآة الأرض التي لا تُكسر بسهولة.

المرأة الفلاحة ليست مجرد صفحة هامشية في سجلات التاريخ، بل هي العمود الخفي الذي رفع الأرض على كتفيه بصمت، وحمل الحضارة في صمت دون أن تطأه أقدام الملوك أو تكتبه الأقلام الرسمية. في كل سنبلة قمح خرجت من بين يديها، وفي كل حبة زيتون دبّت فيها روحها، تكمن شهادة صامتة على الجهد الذي لا يراه التاريخ عادة، لكنه يراه كل من يشعر بأصوات الأرض ونبضها. لقد وقفت المرأة الفلاحة في الحقول حين غاب الرجل، وعادت في المساء لتبني البيت، وتغسل الثياب، وتغذي الأطفال، وتعلّمهم أغاني الريف الشعبية التي تحمل بين طياتها حكمة الأجيال، لتصبح الحكاية الحية التي تنتقل من جيل إلى جيل، صامدة كما صمدت الأرض أمام الجفاف والعواصف والحروب.

هي التي لم تتوقف عن العطاء رغم كل القيود والتحديات، تزرع البذرة وترويها، تمسح العرق عن جبين الرجل حين يثقل العمل، وتبتسم للأرض وهي تعرف أن حياتها وحياة أسرتها مرتبطة بمواسم الحصاد، بمعرفة متوارثة، وبأمل لا يموت. في لحظات الخوف والجوع، كانت المرأة الفلاحة العقل الذي يبتكر، اليد التي تحمي، والصوت الذي يشدّ من عزيمة الآخرين، فمن جرارها الفخارية التي تحفظ مياه المطر، إلى الحبوب المخزنة بعناية لتستمر الحياة، كانت صمام الأمان لكل قرية، لكل بيت، لكل قلب عربي يحتاج إلى القوت والأمل معًا.

وإذا نظرنا إلى الأغاني التي كانت ترتجف بها الحقول حين تغني المرأة، نسمع فيها صدى تاريخ مضى، وحكاية بقاء تتكرر مع كل فصل، ومع كل بذرة تنبت، ومع كل يد صغيرة تمسك السنابل لتتعلم صبرها وقيمتها. هي التي علمت الأرض كيف تستجيب، والإنسان كيف يصمد، والطبيعة كيف تمنح من تنتظرها بالصبر. ومن هنا نفهم أن كل رغيف خبز، وكل قطرة زيت، وكل حبة تمر على موائدنا هي شهادة على صمودها وذكائها وحنكتها في مواجهة الحياة، وأن الحضارة لم تقم بسواعد الرجال وحدها، بل بسواعد المرأة الفلاحة التي نسجت معها الأرض سرّ البقاء.

الاعتراف بها ليس مجرد واجب أخلاقي أو شعور إنساني، بل هو استعادة الحق الذي طالما جُردت منه: حقها في الظهور كشريكة حقيقية في بناء الحضارة، وحقها في أن يُسمع صوتها، وأن تُكتب بطولاتها، وأن تُخلد تضحياتها، لأنها ليست ظلًا أو تابعًا، بل روح الأرض، وقلبها النابض، وذاكرتها التي لا تموت، والسرّ الذي أبقى الحياة مستمرة رغم كل العواصف والجفاف والحروب. هي العمود المجهول الذي حمل الأرض، فبفضله بقيت الحقول خضراء، والمجتمعات صامدة، والحياة مستمرة، وحين نفكر في كل ما زرعته وما حمت، ندرك أن الفلاح العربي بلا المرأة الفلاحة مجرد نصف قصة، وأن هذه الروح الخفية هي التي تحفظنا من الانقراض، وتبقي جذورنا متصلة بالأرض التي أحببنا وعلّمتنا البقاء.

🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. المقال راءع جدا ومتعدد الابعاد …يلقى الضوء على الدور الكبير للمرأة الريفية التى لا يعرف من لم يعش بالقرب من الأسر الريفية التى تقوم بزراعة الأرض وتربية المواشي ى والطيور وتصنيع الجبن والسمن وخلافه الدور الكبير جدا للمرأة فى الريف والتى تتعب وتشقى أكثر بكثير عن المرأة التى تعيش بالمدن نظرا للعديد من التسهيلات المتوافرة بالمدن ولا يشعر قانطيها بالا مكان المحيطة بهم مقارنة بالريف …تحية تقدير واحترام للمرأة الريفية فى كل مكان…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى