المرأة الريفية

المرأة الريفية والنباتات البديلة: دور خفي وجهود تُغفل

إعداد: د.شكرية المراكشي

الخبير الدولي في الزراعات البديلة ورئيس مجلس إدارة شركة مصر تونس للتنمية الزراعية

د.شكرية المراكشي

رغم أن عيون السياسات الزراعية، والمشاريع الرسمية، وكاميرات الإعلام قلما تلتفت نحوها، إلا أن المرأة الريفية تقف، بصمت وحنوّ، في قلب المشهد الزراعي البديل، تؤدي أدوارًا لا يراها أحد، لكنها تُثمر الكثير. خلف حُقول الذرة والبامية، بين جذوع الفول والعدس، هناك امرأة تحرث بأصابعها التراب، وتنثر الحياة في بذور غريبة لا يعرفها السوق، لكنها تؤمن بها وتُراهن على نجاحها. في عالم يختبر فيه الجميع طرقًا جديدة لمواجهة تغيّرات المناخ، ونُدرة المياه، وصعوبة المعيشة، تبقى هذه المرأة الريفية، التي لم تدرس الزراعة يومًا في جامعة، هي الأكثر جرأة على التجريب، والأصدق في التعامل مع الأرض.

ليست الزراعة البديلة بالنسبة لها رفاهية علمية، بل ضرورة من ضرورات البقاء. إنها من تُدرك بسرعة أنّ التربة بدأت ترفض القمح، وأن المياه لم تعد كافية للأرز، وأن على أولادها أن يأكلوا خبزًا من حبوب أخرى، لعلّها تُشبع وتُغني. فتلجأ إلى نباتات جديدة، غريبة في اسمها، مألوفة في روحها، تُجربها كما تُجرب وصفة طعام قد تنقذ العشاء في ليلة شتوية فقيرة.

وفي سكون البيوت الطينية، حينما ينشغل الرجال في السوق أو المقهى، تبدأ النساء في أداء “طقوس الزراعة” كما ورثنها عن الأمهات. تجمع البذور بيديها الخشنتين، تزرعها، تراقبها كل صباح، وتعرف من ملمس التربة إن كانت عطشى أم لا. وعندما يحين الحصاد، لا تُعلن الأمر بأبواق، بل تفرش الشمس على السطوح، وتجفف المحصول، وتفرز الحبة عن القشر بحكمة لا تُدرّس، بل تُورّث.

أولاً: الدور الخفي للمرأة الريفية في الزراعة البديلة

المرأة الريفية في الزراعة البديلة هي العاملة والمُفكرة، المُجرّبة والمُبتكرة، تُراهن على المستقبل حين يُصاب الجميع باليأس، وتحفظ أسرار الحقول حين تغيب الوثائق. إنها الحارسة الصامتة لبذور الغد، والتي لولاها، لما قامت لتلك النباتات البديلة قائمة، ولا انتشرت في الحقول، ولا دخلت إلى بيوتنا خُبزًا، وعافية.

جمع المحصول:

في موسم الحصاد، حين تتغير رائحة الحقول وتخفت خضرة النباتات إلى مسحة صفراء دافئة، تبدأ النساء الريفيات طقسًا هادئًا لكنه دقيق كأنّه فن منسيّ لا يعرف أسراره إلا من عاشه. لا يُعلنن بداية الموسم، ولا يأتين إليه بالأدوات الثقيلة أو الضجيج، بل يدخلن إلى الحقل بخطى واثقة، وكأنّهن يزرن صديقًا قديما يعرفنه كما يعرفن وجوه أبنائهن.

بعين خبيرة لا تخطئ، تُمَيّز المرأة بين السنبلة التي اكتملت وآن قطافها، وتلك التي لا تزال بحاجة إلى يوم أو اثنين من شمس خفيفة لتُكمل نُضجها. لا تعتمد على أجهزة أو مؤشرات رقمية، بل على نظرتها، وعلى لمسة أصابعها، وعلى إحساسها الذي صُقل بخبرة المواسم المتعاقبة. تمرر يدها فوق السنابل كما تمرر الأم يدها فوق جبين طفلها النائم، فإذا رأت الحبّة قد امتلأت واستدارت بلونها الكامل، اقتربت منها بهدوء وقطفتها بحذر، خشية أن تفسد أي تفصيل صغير من جهد شهور.

ولأن الحصاد ليس مجرد جمع للنبات، بل اختيار مدروس، فإن النساء يتعاملن مع كل نبات على حدة، لا يتعجّلن، ولا يتركن سنبلة ناضجة تختلط بأخرى لم تجهز بعد. كأنّ لكل واحدةٍ منهن عَينًا زراعية تحلل شكل الحبة، وملمسها، وحتى الصوت الخفيف الذي تُصدره حين تُفرك بين الأصابع.

إنه عمل يتطلب أكثر من الصبر… يتطلب احترامًا للمحصول، وثقةً بأنّ كل لحظة يُنتظر فيها الحصاد تُضيف للحبة نكهة وخيرًا. وبينما قد يراه البعض أمرًا بسيطًا أو يدويًا يمكن تعويضه بالآلات، تعرف النساء أن في هذه اللمسات السرية تكمن الجودة، وتُولد الحكاية. لأن كل حبّة تُقطف، تحمل معها ذاك التعب الصامت، وتلك الدقة الهادئة، التي لا يعرفها إلا من جرّب أن يجمع الحصاد بيده، وسط الشمس، وسط الريح، وسط الأرض التي لا تعطي إلا لمن أحبّها بصدق.

التجفيف:
حين تُجمَع الحبوب، لا تنتهي الحكاية، بل تبدأ مرحلة جديدة لا تقل دقة ولا أهمية: التجفيف. هنا تتجلى الخبرة المتوارثة، وتبرز لمسة المرأة الريفية التي تعرف، بالفطرة والخبرة، أن الرطوبة الزائدة عدوّ خفيّ قد يُفسد جهد شهور في أيام.

لا تحتاج المرأة الريفية إلى أدوات قياس معقّدة لتقدّر نسبة الرطوبة، فحواسها الخمس تتحوّل إلى جهاز دقيق يُحلّل رائحة الحبة، وملمسها، حتى الصوت الخافت الذي تُحدثه حين تسقط على سطح صلب. بعينيها تقدّر اللحظة المثلى لبداية النشر، وتختار المكان بعناية. لا تترك الأمر للصدفة، فهي تعرف أن شمسًا زائدة قد تُحرِق الحبة، وأن ظلًا أكثر مما يجب قد يمنح الرطوبة فرصة للعبث بالنتيجة.

تفرش الحبوب على “السطوح”، أو على مفارش قماشية نظيفة، بعيدًا عن أرض قد تحتفظ ببرودة الفجر أو آثار الندى. كل صباح، تخرج لتقلّبها بهدوء، لا بعنف، لتمنح كل جانب منها نصيبه من الهواء والشمس. تنصت لصوت الريح، وتراقب حركة الغيوم، وتتصرف بسرعة إن لمحَت بوادر رطوبة غير مرحّب بها.

في الأماسي، حين تبدأ الشمس في الانحدار، تُعيد جمعها مؤقتًا أو تغطيها بحرص، لأن الندى الليلي قادر على إفساد كل شيء إن تُرك له المجال. هذا الإيقاع الدقيق بين التجفيف والوقاية، بين الشمس والظل، بين التهوية والحماية، لا يُتقنه إلا من عاش مع المحصول لحظة بلحظة، وعرف كيف يقرأ إشارات الطبيعة كما تُقرأ الكتب.

ليس مجرد تجفيف، بل طقس من العناية، ومراقبة مستمرة، وجهد صامت يحول الحبوب إلى غذاء صالح وآمن. الحبة الجافة في يد المرأة الريفية ليست فقط منتجًا زراعيًا، بل شهادة على براعتها، صبرها، وعينها الخبيرة التي لا تخطئ.

التخزين:
بعد أن يُجفف المحصول بعناية، تبدأ مرحلة التخزين، التي تُعدّ امتحانًا حقيقيًا لصبر المرأة الريفية وذكائها العملي المتراكم عبر أجيال. فالحبة الجافة، إن لم تُحفظ كما ينبغي، قد تتحول في غفلة إلى ملاذ للحشرات، أو ضحية للعفن والرطوبة. وهنا، لا تلجأ المرأة الريفية إلى تكنولوجيا حديثة أو أجهزة متقدمة، بل تسخّر أدوات البيئة ومعرفتها القديمة لتخلق نظامًا فعالًا يكاد يكون أشبه بالسحر.

تعرف جيدًا أن القماش الطبيعي، المصنوع من الكتان أو القطن، أفضل كثيرًا من الأكياس البلاستيكية، لأنه “يتنفس” ويمنع احتباس الرطوبة. لذا، تصنع “شوالات” بعناية، وتنظفها مسبقًا، وتضع فيها الحبوب المجففة بعد أن تتأكد أنها بردت تمامًا، فحتى الدفء المتبقي من شمس النهار قد يكون كافيًا لإحداث خلل.

تختار مكان التخزين بعناية، بعيدًا عن الأرض حتى لا تصل الرطوبة إليه، وأحيانًا تضع تحته قطعًا من الخشب أو الطوب لرفع الأكياس. الجدران تُفحص مسبقًا، تبحث فيها عن شقوق قد تسكنها الحشرات، وتُطلى أحيانًا بطبقة رقيقة من الجير الأبيض، لقدرته الطبيعية على طرد الرطوبة.

وهي لا تكتفي بذلك، بل تعتمد أيضًا على وصفات الجدات التي أثبتت فاعليتها عبر السنين: حفنة من الفلفل الأسود، أو قليل من الرماد النظيف، توضع في قاعدة الشوال لردع السوس. وفي بعض القرى، تُضاف أوراق من نباتات عطرية معروفة بأنها تزعج الحشرات، مثل النعناع الجاف أو الشيح.

كل شهر، تفتح الأكياس وتفحص الحبوب، تقرّبها من أنفها، تتحسسها بأصابعها، تراقب لونها ولمعانها. لا تترك شيئًا للصدفة، فكل شوال هو ثمرة جهدها وعرقها، وجزء من أمن غذائي لعائلتها.

بهذه الحيل البسيطة والفعّالة، تضمن أن يظل المحصول محفوظًا لشهور، وربما لعام كامل، دون أن تمسه آفة أو تلف. إنها ليست مجرد تقنيات، بل إرث من الفطنة الزراعية، تملكه المرأة الريفية وتُجيده بفخر، في صمت لا يلتفت إليه أحد، لكنه يُبقي بيوتًا كاملة في مأمن من الجوع.

حفظ البذور للزراعة القادمة:

في نهاية الموسم، وبعد أن يُجمع المحصول ويُخزن بعناية، تبدأ المرأة الريفية في واحدة من أدق المهام وأكثرها نبلاً: اختيار البذور التي ستصنع بها الغد. ليست هذه مجرد عملية انتقاء، بل طقس زراعي عريق، تُمارسه المرأة بحسّ فطري يُشبه حدس الأم حين تختار الأفضل لأطفالها.

تنظر إلى السنابل بعين خبيرة، تميز الممتلئة من الهشة، تعرف أي الحبوب وُلدت قوية في موسمها، وأيها قاومت الريح والعطش وخرجت صلبة لا تنكسر. لا تسأل عن نسبة الإنبات، ولا تحتاج إلى مختبر لتحديد جودة البذور، فهي تعرف بالفطرة، من وزن الحبة، من لونها، من ملمسها، ما يصلح منها للزراعة، وما لا يُعوَّل عليه.

تضع هذه البذور جانبًا، وتخزنها في أوعية خاصة، غالبًا من الفخار أو الزجاج، في مكان جاف، بعيد عن الرطوبة والضوء. تحرص أن تكون بعيدة عن باقي المحصول حتى لا تخلط بين ما يؤكل وما يُزرع، فهذه البذور هي الوعد، هي الأمل المؤجل لموسم قادم.

وفي ظل ضعف توفير البذور البديلة في السوق، وارتفاع أسعارها، تصبح هذه العادة القديمة بمثابة كنز شخصي تحفظه المرأة لأيام الحاجة. هي تدرك تمامًا أن موسمًا جديدًا قد يُهدد بالفشل إذا لم تكن هناك بذور جيدة، لذا فهي لا تُفرط فيها، ولا تُعطي منها إلا لمن تثق بحكمته أو يشاركه نفس الأرض والهمّ.

وفي بعض القرى، تتبادل النساء هذه البذور كما لو كنّ يتبادلن المجوهرات، في طقس اجتماعي بسيط، لكنه مليء بالمعاني. فالبذرة هنا ليست مجرد بداية حياة جديدة في الأرض، بل رمز للصمود، وإرث تتناقله الأمهات في صمت، لعلّ الأرض تُنبت خيرًا، ولعلّ الزراعة تبقى يدًا في يدٍ، لا في يد السوق وحده.

ثانياً: التحديات التي تُغفل

قلة الاعتراف: في القرى البعيدة حيث لا تصل عدسات الكاميرا ولا أقلام الباحثين، تعمل النساء في صمتٍ يشبه الهمس، لكنّ صوته يصل إلى كل حبة تراب نُقّبت بأصابعهن، وكل حبة قمح خُزنت بأيديهن. هنّ العمود الفقري للعمل الزراعي اليومي، من شروق الشمس إلى مغيبها، ومع ذلك، يبقين في الظل، بلا أسماء تُذكر، ولا أرقام تُسجل، وكأنّ الأرض تُثمر وحدها.

الإحصاءات الرسمية تمرّ من فوق رؤوسهن مرور العابر، تسجّل ما يخص الإنتاج والآلات ورؤوس الأموال، لكنها لا تُسجل اليد التي جمعت، ولا العين التي راقبت نضج الثمار، ولا الظهر المنحني في الحقول لساعات طويلة. حتى في الاجتماعات الزراعية أو الخطط الوطنية، تُذكر “المرأة الريفية” كفئة هشّة تحتاج للمساعدة، لا كصانعة خبز وزرع ونجاح.

الاعتراف بمساهمتهن لا يكون دائمًا بقرار سياسي أو بند في تقرير، بل يبدأ حين ندرك أن كل نبتة بديلة وُلدت في حقل بسيط، غالبًا ما وُلدت تحت عناية امرأة تجاهلها النظام، لكنها لم تتجاهل الأرض. هي تعرف مواعيد الزرع بالفطرة، وتقرأ علامات المطر من رائحة الهواء، وتُدير زراعتها رغم أن لا أحد يمنحها لقب “مزارعة” في الأوراق الرسمية.

وفي غياب الاعتراف، تخسر الزراعة ركيزة من ركائزها، لأن تجاهل النساء في الإحصاءات لا يلغي وجودهن، لكنه يُعمي السياسات عن مورد بشري فعال يُسهم فعليًا في الأمن الغذائي، دون أن يُحتسب. وبينما يُخطط المعنيون للمستقبل من مكاتبهم، هناك امرأة، في أطراف الريف، تزرع بذرة وتنتظر، لا التصفيق، بل المطر فقط.

التمويل: في الأزقة الضيقة للقرى، وبين الحقول التي تعرف وقع أقدام النساء قبل أن تلمسها المعاول، تُدار مشاريع صغيرة بأحلام كبيرة. نساء يعملن من الفجر حتى المغيب، يزرعن، يجففن، يخزنّ، ويعدن الكرة في الموسم التالي. ومع كل هذا الجهد، حين يتعلق الأمر بالتمويل، يُغلق الباب، وتُرفع الشروط، ويُنسى أن لهن يدًا في كل حبة قمح وجرن حبوب.

المؤسسات المصرفية والجهات الداعمة تنظر للمرأة الريفية بعدسة بيروقراطية ضيقة، ترى فيها مخاطرة لا استثمارًا، أو تطلب أوراقًا ووثائق لا تملكها، وكأنّ من تزرع الحقل وتديره يوميًا لا تستحق فرصة لأن اسمها ليس مدرجًا كـ”مالك رسمي” في السجلات. فتقف النساء على عتبات البنوك، لا يحملن شيئًا سوى الفكرة والعزيمة، لكن هذا لا يكفي في عالم لا يعترف بالعرق إن لم يكن موثقًا بأختام.

إنهن لا يسألن ترفًا، بل حقًا أساسيًا في الدعم المادي الذي يُمنح للرجال من دون حواجز. يمضين في زراعتهن بأدوات تقليدية، يشترين البذور من مدخرات بيتية، ويؤجرن المعدات من أرباح موسمية ضئيلة، بينما القروض تُمنح لمشاريع أقل احتكاكًا بالتراب وأكثر صخبًا في التقارير.

ورغم غياب التمويل، لا تغيب المرأة الريفية عن الأرض، فهي تدير مشروعها من تحت عتبة المنزل، تحول شوال الحبوب إلى وجبة ومصدر دخل، وتبتكر حلولًا لتروي حقلًا لا تصله المياه. لكنها تدفع الثمن، إذ تبقى رهينة للظروف، في حين كان من الممكن أن تكون رائدة زراعية لو امتدت إليها يد ثقة لا شك.

التمويل ليس ترفًا بل شرط للعدالة. فحين تُمنح القروض للنساء الريفيات، لا تُمنح فقط لمشاريع صغيرة، بل تُزرع معها بذور الاستقلال والتمكين، وتنبت معها قرى أقوى، ومجتمعات تعرف كيف تقف على قدميها، بفضل أقدام نساء اعتدن الوقوف طويلًا في وجه الشمس والتهميش.

نقص التدريب: في زوايا الحقول البعيدة، حيث يُحرث التراب بالأيادي لا بالآلات، تقف المرأة الريفية أمام موسمٍ جديد كما كانت تفعل أمها وجدتها من قبل، تُعيد نفس الخطوات القديمة، تمزج بين الفطرة والتجربة، وتجتهد في إنتاج ما يسد الرمق. لكنها حين ترفع رأسها بحثًا عن تدريب أو فرصة لفهم تقنية زراعية حديثة، لا تجد سوى مقاعد ممتلئة بالرجال، ومحاضرات لا تدعوها للحضور، ومشاريع تتعامل معها كمُساعدة لا كصاحبة أرض وفكر.

كل تطور جديد في عالم الزراعة—من طرق ري حديثة، إلى وسائل تحسين التربة، إلى أساليب مقاومة الآفات—يمر من أمامها مرور العابر، لا يتوقف عند دارها، ولا يُترجم إلى تدريب عملي تمسك فيه بالمجسّات والأدوات. ورش العمل تُعقد في أماكن بعيدة، وأحيانًا في توقيت لا يناسب من لديها بيت وأبناء وحقل، وتُدار بلغة تكنولوجية باردة، تتجاهل تمامًا أن بين الحاضرين من تحمل الأرض فوق كتفيها دون أن تحمل شهادة جامعية.

هي ليست عاجزة، لكنها مُبعدة عن مقاعد التعلم. وحين لا تصلها المعلومة، لا يعني أنها لا تستحقها، بل يعني أن نظام التدريب مُصمم لمن يتحدث أكثر، لا لمن يعمل أكثر. التكنولوجيا الزراعية، بكل ما فيها من طائرات مُسيّرة وأجهزة استشعار، تصبح في نظرها رفاهية بعيدة، بينما هي قادرة على استخدامها لو أُتيحت لها فرصة حقيقية للتعلم.

إنها تُبدع في ظل نقص الأدوات، فما بالك لو امتلكتها؟ ما بالك لو دخلت ورشة عمل تُخاطب حاجاتها، بلغة قريتها، وبوقت يناسب مسؤولياتها؟ الفرق ليس في القدرة، بل في الإتاحة. والفرق بين من يزرع أرضًا بالأمل، ومن يزرعها بالعلم والدعم، هو ما يُحدث النقلة من مشروع صغير إلى اكتفاء مستدام.

وحين تُمنح المرأة الريفية هذا الحق في المعرفة، فإنها لا تُغيّر مسار زراعتها فقط، بل تزرع لنفسها مستقبلًا جديدًا، فيه من الضوء ما يكفي ليبدد ظل التهميش الذي طالها طويلًا.

ثالثاً: نبات غير تقليدي ومجرب – تجربة واقعية مع “القاطونة

في عالم الزراعة الذي تُهيمن عليه أسماء مألوفة وطرق تقليدية، يسطع أحيانًا نجم نبتة غير مألوفة، تتسلل بهدوء إلى الحقول المهملة وتفرض حضورها رغم التهميش. القاطونة… اسم قد لا يطرق آذان الكثيرين، لكنه يحمل في داخله وعدًا بمستقبل مختلف. فهي ليست مجرد نبات، بل رمز للمرونة والمقاومة والأمل الأخضر في وجه شح المياه وتآكل التربة.

في قرى بعيدة عن ضجيج المدن، حيث تشق الشمس طريقها بصعوبة بين الغبار والجفاف، تنمو القاطونة كما لو كانت تعرف أن الأرض عطشى لنبتة تُجيد التكيف. لا تطلب الكثير، فقط أرضًا هامشية ومزارعًا يؤمن بالفرص البديلة. في المقابل، تهب محصولًا غنيًا بالبروتين، مليئًا بالألياف، ومشحونًا بالمغنيسيوم الذي تبحث عنه أجساد متعبة لا تجد في القمح والذرة ما يكفيها.

ما يجعل القاطونة أكثر من مجرد نبات هو هذا التوازن الفريد بين الاحتياج القليل والعطاء الوفير. إنها لا تستجدي الماء، ولا تنهار أمام التربة الفقيرة، بل تتحدّى الظروف، فتزدهر حيث تفشل المحاصيل المدلّلة. في زمن تغيّرت فيه ملامح المناخ وتراجع فيه الأمل بمحاصيل مستدامة، تقدّم القاطونة نفسها كخيار واقعي، لا فقط في الغذاء، بل في تمكين المجتمعات، خاصة حين تكون يد الزراعة أنثوية، دافئة، وصبورة كأرض تنتظر غيثًا طال.

في تجربة “أم محمود”، هذه المرأة الريفية التي قررت أن تعطي القاطونة فرصة، تجسّد المعنى الكامل للزراعة البديلة. اختارتها لا لأنها مشهورة، بل لأنها تشبهها: صلبة، قليلة الطلب، لكنها معطاءة. ومع كل يوم كانت تسقيها فيه من صبرها، كانت القاطونة ترد الجميل بمحصول يملأ الشوالات ويملأ البيت بالطمأنينة. هكذا تبدأ الحكايات الجديدة… بنبتة منسية، وأرض صامتة، وامرأة تعرف تمامًا ما الذي يعنيه أن تُزرع الحياة من جديد.

تجربة امرأة ريفية مصرية (من صعيد مصر):

في إحدى قرى محافظة المنيا، قامت سيدة في الأربعين من عمرها تُدعى “أم محمود” بزراعة نصف قيراط من القاطوتة بعد أن حصلت على بذورها من شركة زراعية بالتعاون مربي نباب من مركز بحثي.

قامت هي وبناتها بجمع السنابل يدويًا بعد أن تحولت للون الذهبي، ثم فردنها على “السطوح” في أطباق من القش للتجفيف تحت أشعة الشمس. وبعد ذلك خزّنّ البذور في “شوالات” من القماش، بعيدًا عن الرطوبة.:

طريقة الزراعة التي اعتمدتها “أم محمود” – زراعة القاطوتة (القطيفة) بالوسائل البسيطة

تجهيز الأرض: في البداية، اختارت “أم محمود” قطعة صغيرة من الأرض بجوار منزلها، لا تتعدى نصف قيراط.
قامت بتقليب التربة يدويًا باستخدام “فأس” صغير وكسرت التكتلات الترابية. لم تستخدم جرارًا زراعيًا أو أي معدات كبيرة، فقط جهد يدوي بسيط بمساعدة زوجها.

التسميد الطبيعي: اعتمدت على السماد البلدي (روث الحيوانات) المتوفر لديها، وخلطته بالتربة قبل الزراعة بحوالي أسبوعين.
قالت: “ما حطيتش كيماوي، لا نقدر نشتريه ولا بحب أستخدمه في أكل العيال.”

نثر البذور: قامت بنثر بذور القاطوتة مباشرة على الأرض بعد بلّها قليلًا، ثم غطّتها بطبقة خفيفة من التراب باستخدام المكنسة اليدوية (“مقشة”) بطريقة تقليدية، دون خطوط أو تخطيط علمي.

الري: روت الأرض بالـ”جرادل” يدويًا في الأيام الأولى، وبعد الإنبات اعتمدت على ري بسيط مرتين أسبوعيًا فقط، لأنها لاحظت أن النبات يتحمّل العطش.

العناية بالنبات: لم تستخدم أي مبيدات، بل كانت تزيل الحشائش يدويًا كل أسبوع تقريبًا. لم تواجه مشاكل في الحشرات، وقالت: “نبات القاطوتة ريحتُه كأنها بتطرد الدود!”

الحصاد: بعد مرور حوالي 70–80 يومًا من الزراعة، لاحظت أن رؤوس النبات أصبحت ثقيلة وممتلئة بالبذور.
قامت هي وبناتها بجمع السنابل يدويًا بعد أن تحولت للون الذهبي، ثم فردنها على “السطوح” في أطباق من القش للتجفيف تحت أشعة الشمس. وبعد ذلك خزّنّت البذور في “شوالات” من القماش، بعيدًا عن الرطوبة.:

الفرز والتخزين: بعد الجفاف، دقّت السيقان يدويًا في شوالات قديمة، ثم نظّفت البذور باستخدام الغربال.  خزّنتها في أكياس قماشية في مكان جاف داخل البيت.

هذه الطريقة البسيطة التي اعتمدتها “أم محمود” تُظهر أن الزراعة الناجحة لا تعتمد دائمًا على أدوات معقّدة، بل على الفهم الجيد لطبيعة الأرض والنبات، والاستفادة من الموارد المحلية المتاحة. وهي طريقة يمكن تكرارها بسهولة في أي قرية مصرية أو عربية.

بدأت “أم محمود” تجرّب إضافته إلى الدقيق لصناعة خبز بيتي غني بالبروتين. كما باعت جزءًا منه لمخبز صغير في المدينة كان يبحث عن مكونات صحية.

ورغم بساطة المشروع، كانت تقول: “سولا مرة خزنّا القاطوتة وتسوّس، وطعمه حلو، والولاد قالوا العيش ده بيشبع وبيخليهم مرتاحين طول اليوم.”

رابعاً: ما الذي نحتاجه لدعم هذا الدور؟

  1. تدريب موجه للنساء في التجفيف والتخزين الحديث.
  2. توفير بذور نباتات بديلة قابلة للزراعة في المساحات الصغيرة.
  3. تمويل صغير مخصص للمشروعات المنزلية الزراعية.
  4. تسويق مباشر لمنتجات النساء الريفيات في أسواق المدن.
  5. توثيق وتقدير مساهمات النساء في تقارير التنمية الزراعية.

الجانب الاقتصادي والتسويقي لتجربة القاطوتة

رغم أن “أم محمود” بدأت بمساحة صغيرة، إلا أن المفاجأة كانت في العائد. القاطوتة لا تحتاج إلى أسمدة باهظة أو ري متكرر، فوفرت كثيرًا من المصروفات مقارنةً بمحاصيل أخرى. كما أن كمية الحبوب الناتجة كانت مُرضية، خصوصًا أن النبات يعطي أكثر من حشة أحيانًا، ويمكن استخدام أوراقه كعلف مغذٍ للدواجن المنزلية.

أما عن التسويق، فقد لعبت خبرتها في الطبخ دورًا مهمًا. قامت بخبز أرغفة صغيرة من خبز القاطوتة ووزعتها على الجيران، وشيئًا فشيئًا بدأت الطلبات تأتيها من نساء مهتمات بالأكل الصحي أو من أمهات لديهم أطفال يعانون من حساسية الغلوتين.
ثم وجدت فرصة لبيع جزء من الإنتاج إلى مخبز صحي في مدينة المنيا، كان يبحث عن منتجات محلية “عضوية”، لتدخل بذلك سوقًا جديدة بأسعار أعلى من القمح.

قالت بفخر: “الردة بتاعة القمح ما كانتش تنفعني بحاجة، لكن القاطوتة بعت الكيلو بثلاثيتم جنيه، والمخبز قال لي لو جبتِ له كل أسبوع كمية، هايمشيها!”

مقارنة القاطوتة بالقمح – منظور واقعي من قلب الريف

الزراعة والتحمل:  القاطوتة تتحمل العطش أكثر من القمح، وتُجدد نفسها بسهولة. القمح يحتاج عناية مستمرة، بينما القاطوتة تنجح حتى في الأرض البور أو الرملية.

القيمة الغذائية: القمح غني بالنشويات، لكنه فقير بالبروتين مقارنة بالقاطوتة، التي تحتوي على جميع الأحماض الأمينية الأساسية. يعني – بكلام بسيط – أن رغيف القاطوتة يشبع أكثر ويفيد الجسم أكتر.

صحة الأسرة: أم محمود لاحظت أن القاطوتة كانت أخف على المعدة، خاصة لأولادها اللي بيعانوا من مشاكل في الهضم بعد أكل الخبز البلدي التقليدي.

التكلفة والعائد: القمح يحتاج للسماد والمبيدات، أما القاطوتة فتنمو دون كثير من التدخل، مما قلل التكلفة وزاد المكسب، خاصة أن سعر بيع القاطوتة كان أعلى.

تجربة “أم محمود” لم تكن مجرد مغامرة زراعية عابرة، بل كانت نبتة مزروعة في عمق التغيير الاجتماعي. القاطوتة، التي بدأت كاسم غريب على الألسنة، تحولت بين يدي امرأة ريفية بسيطة إلى مشروع صغير يحمل بذور الاكتفاء والأمل. لم تكن الأرض وحدها هي ما أزهرت، بل فكرة جديدة عن ما يمكن أن تكون عليه الزراعة حين تُدار بحكمة امرأة تعرف ترابها كما تعرف وجوه أولادها.

هي لم تنتظر دعماً خارجيًا، ولا شهادات علمية ولا مؤتمرات رسمية لتُقنعها بالمحاولة. كانت الثقة في الأرض وفي قدرتها على العطاء هي الوقود الحقيقي. وما زرعته “أم محمود” لم يكن فقط نبات القاطوتة، بل زرعت معها بذورًا من الثقة في النفس، وفي إمكانيات النساء الريفيات، وفي أن التغيير لا يحتاج إلى ضجيج حتى يحدث.

مع كل موسم، بدأت القاطوتة تحجز لها مكانًا في مطبخ الأسرة، في رغيف الخبز الصحي، وفي حديث الأمهات عن “العيش اللي بيشبع ويريّح”. ثم بدأ فائض المحصول يشق طريقه خارج البيت، نحو مخبز صحي في المدينة، نحو دخل إضافي لم تكن تحلم به من قبل. دخل صغير، لكنه ثابت. مشروع بسيط، لكنه واعد. وهكذا، دون صخب، دخلت “أم محمود” إلى السوق من باب جديد لم يكن أحد يتوقعه.

هذه القصة ليست فقط عن نبات بديل، بل عن نموذج بديل للتمكين، للرزق، وللصحة. عن امرأة فهمت الأرض وفهمت السوق، وصنعت من نبتة متواضعة بابًا لحياة أوسع. هي قصة مجهود صامت، لكنه فعّال، يشبه نبتة القاطوتة نفسها: لا تثير الانتباه، لكنها تملأ السلة بخير لا يُقدّر بثمن.

🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى