رأى

الكوكب يئن: هل أصبحت الأرض تنتقم من أبنائها؟

بقلم: د.شكرية المراكشي

الخبير الدولي في الزراعات البديلة ورئيس مجلس إدارة شركة مصر تونس للتنمية الزراعية

بعد هذه الإجازة المباركة التي حملت لنا نفحات روحانية وسكينة مؤقتة، نعود لواقع يفرض نفسه بقوة، واقع لم يعد قابلاً للتجاهل، ولم يعد الانتظار فيه ترفًا. من الجميل أن نغتنم لحظات الصفاء بعد هذه الوقفة الروحية لنتأمل في ما يحدث حولنا، في تفاصيل الحياة التي تتبدّل، وفي الأرض التي كأنها لم تعد كما كانت.

لقد باتت التغيرات المناخية تطرق أبوابنا بلا استئذان، تتسلل إلى تفاصيل حياتنا اليومية وتغيّرها بصمتٍ أحيانًا، وبعنفٍ أحيانًا أخرى. الأمطار لم تعد كما عهدناها، الرياح أصبحت تحمل شيئًا من القسوة، والشمس نفسها، التي كانت تبعث الدفء، باتت ترسل لهيبًا لا يُطاق. ليست هذه مشاهد عابرة أو ظواهر معزولة، بل مقدمات واضحة لتحوّلات كبرى تُنذر بمستقبل مختلف تمامًا عن الذي عرفناه.

نحن لا نتحدث عن نظريات بيئية أو توقعات علمية مستقبلية، بل عن وقائع نعيشها ونراها بأعيننا. عن أعاصير تزداد شراسة، عن فيضانات تجتاح مدنًا بأكملها، عن جفافٍ يحوّل الأراضي الخضراء إلى صحراء قاحلة، عن زلازل وموجات حرّ غير مسبوقة. وكأن كوكبنا قرر أن يصرخ، أن يُسمِعنا آلامه بعد أن أرهقناه باستهلاك لا يعرف الشبع، وبصناعة لا تلتفت لعواقبها، وبأنانية حضارية نسينا فيها أن الأرض شريك في هذا الوجود، وليست مجرد مسرحٍ لمشاريعنا ومطامعنا.

في هذه اللحظة المفصلية، لا يمكن للكتابة أن تظل رفاهية فكرية، بل تصبح أداة مقاومة، وسلاح وعي، وصوت منبه. لذا، سنفتتح هذه السلسلة من المقالات ليس فقط لنرصد الواقع، بل لنحاكمه، لنفهم كيف وصلنا إلى هذا المنعطف الحادّ، وما الذي يمكن فعله قبل أن يصبح الوقت متأخرًا بالفعل.

سنفتح الملفات المغلقة، ونسأل الأسئلة التي يخشاها الكثيرون:
هل أصبحت الأرض تنتقم من أبنائها؟
هل تجاوزنا نقطة اللاعودة؟
من المسؤول الحقيقي؟
وما الذي تبقّى من أمل؟

سنتحدث، لا عن الطبيعة بوصفها كائنًا صامتًا، بل بوصفها طرفًا حيًّا في معادلة الحياة، له قدرة على الرفض والتمرد والتعبير عن الغضب بطريقته. وسنناقش الإنسان، ليس فقط كضحية، بل كمساهم مباشر في هذا الجنون المناخي الذي بدأ يخرج عن السيطرة.

فلنبدأ الرحلة، ليس بوصفنا كتّابًا ومفكرين فقط، بل بوصفنا بشرًا يهمهم بقاء هذا الكوكب، وأطفالاً سيكبرون في عالمٍ لا نريده أن يكون نسخة من الجحيم.
فلنبدأ… قبل أن تصرخ الأرض صرختها الأخيرة.

الكوكب يئن: هل أصبحت الأرض تنتقم من أبنائها؟

في زمن لم يعد فيه الخطر يأتي من بعيد، ولم تعد الكوارث حكايات تُروى على شاشات الأخبار، بل صارت مشاهد يومية نشهدها في كل زاوية من العالم، يصعب أن نتجاهل الحقيقة الصارخة: الأرض تغيّرت، والأمر لم يعد مجرد خلل عابر في المناخ أو تقلب طبيعي في الطقس، بل يبدو وكأن الكوكب نفسه قد ضاق ذرعًا بنا، كأنّ الأرض بدأت تئن من الألم، وكأنها… تنتقم.

كم هو مخيف أن نستفيق في كل صباح على صور الجليد الذي يذوب كدمعة حارقة على خدّ العالم، أو على مشاهد الغابات التي تلتهمها النيران كما لو كانت تحاول ابتلاع كل أثرٍ تركناه هناك، من غير اكتراث. كم هو مفزع أن تنقلب السماء فجأة من زرقة وطمأنينة إلى عاصفة ورعد وغضب، وأن يغدو المطر سيفًا، والرياح وحشًا، والبحر قبراً جماعيًا مفتوحًا على شواطئ الأبرياء.

إنها ليست مجرد طبيعة غاضبة، بل مرآة تُعيد إلينا وجوهنا مشوّهة بما فعلناه نحن. من ماضٍ لم نعبأ فيه بتحذيرات العلماء، ومن حاضرٍ استنفدنا فيه موارد الحياة، ومن مستقبل بات أقرب إلى الرعب منه إلى الحلم. لعقود طويلة، توهّم الإنسان أنه المنتصر الوحيد في معركته مع الطبيعة. شقّ الجبال، وجفف الأنهار، وملأ البحار بنفاياته، وكسّر التوازن البيئي كمن يهدم بيته بيديه، ثم جلس على الركام يتساءل بدهشة: لماذا تهتز الأرض؟ لماذا تغرق المدن؟ لماذا تموت الأشجار، وتختنق الطيور، وتذبل المحاصيل، ويتجهم المناخ؟

هل هي مجرد مصادفات كونية؟ أم أن هناك حسابًا يجري، على طريقة الطبيعة الهادئة والقاتلة في آن؟
هل الأرض كائن حيّ يملك ذاكرة؟ وهل تحمل في أعماقها سخطًا دفينًا علينا؟
أم أن ما يحدث هو ببساطة ردّ فعل على الفوضى التي أحدثناها، وصدى طبيعي لما زرعناه من اختلال واضطراب؟

في هذا الطرح، لسنا بصدد رثاء كوكب يحتضر فحسب، بل أمام دعوة للتأمل في معنى العلاقة بين الإنسان ومصدر حياته الأول: الطبيعة. تلك العلاقة التي بدأت بالدهشة والتقديس، ثم انزلقت إلى الاستغلال والهيمنة، وانتهت – كما يبدو – إلى المواجهة.

هل نحن أبناء الأرض… أم غزاتها؟
وهل هذا الوجع البيئي هو إنذار أخير؟ أم بداية لحساب عسير قد لا ننجو منه جميعًا؟
في هذه السلسلة، لن نكتفي بسرد المآسي، بل سنفتح العيون على الجذور العميقة للأزمة، وسنبحث في التاريخ، والعلم، والأخلاق، لنفهم كيف انكسرت العلاقة بيننا وبين الكوكب. ربما لا يكون الأوان قد فات… وربما لا زال في الطبيعة قلب ينبض… ينتظر من يعتذر.

المحور الأول: البعد الفلسفي والإنساني  هل الطبيعة كائن حي له إرادة؟

منذ أقدم الأزمنة، وقف الإنسان أمام الطبيعة في خشوع، يراها كيانًا يتجاوز قدرته، قوةً عظيمة تحكم الفصول، تزرع المطر في الحقول، وتبعث الدفء في الأجساد، وتُنسيه قسوة الحياة بظلّ شجرة، أو بنغمة نسيم عابر. كانت الطبيعة في وعيه الجمعي أمًّا، بكل ما تحمله الأمومة من معانٍ: عطاء لا يُطلب، حنوّ لا يُقابل، وصبرٍ طويل لا ينفد. بنى أساطيره حولها، وعبد الشمس والقمر والبحر والنار والريح، لا لأنها آلهة، بل لأنها تمثل شيئًا أعمق: الحياة في شكلها الخام، الصافي، الغامض.

لكن شيئًا ما تغيّر في لحظة ما من تاريخنا. حين بدأت الآلة تطرق أولى ضرباتها على الأرض، وحين اخترق الإنسان قلب الجبل، وفتح أحشاء الأرض بحثًا عن كنوزها، تغيّر كل شيء. سقطت هالة القداسة عن الطبيعة، ولم تعد الأمّ التي نلجأ إليها، بل أصبحت شيئًا آخر: مخزنًا هائلًا للموارد، منجمًا لا ينضب للثروات، مساحة مفتوحة للاستغلال والتوسع. تلك العلاقة الدافئة التي اتسمت بالاحترام والخوف معًا، تحولت إلى علاقة طرف واحد يطلب، وينهب، ولا يشبع.

توقف الإنسان عن الإصغاء. لم يعد يسمع أنين الجبال حين تُثقب، ولا صراخ الأنهار حين تُجفف، ولا تنهيدات الغابات وهي تُحرَق دون رحمة. أصبحت الطبيعة بالنسبة له صامتة، خانعة، لا رأي لها ولا صوت. لكنه نسي، أو تجاهل عمدًا، أن الكائنات الحيّة لا تبقى صامتة إلى الأبد، وأن حتى الأمّ الرؤوم إن أهملها أبناؤها وآذوها مرارًا، قد تغضب.

فهل الطبيعة كائن حي له إرادة؟ السؤال يبدو غريبًا في ظاهره، لكنه يحمل في جوهره قلقًا فلسفيًا عميقًا. عندما نرى هذه الدقة في توازنها، وهذا الانسجام بين عناصرها، وعندما نشهد كيف تنتظم الحياة وتتكامل داخلها كما في جسد واحد ينبض، ألا يحق لنا أن نتساءل إن كانت هذه المنظومة تمتلك وعيًا ما؟ أو ذاكرة ما؟ أو إحساسًا بالخلل الذي يحدث داخلها؟

ولعل ما نعيشه اليوم من كوارث ليس مجرد ردود فعل طبيعية، بل صرخات تنبيه من جسد هائل يحاول استعادة توازنه. فكلما اخترقنا قلب هذا الكوكب، كلما تمادت الطبيعة في إظهار غضبها. الأعاصير لم تعد مجرد عواصف موسمية، بل انفجارات جامحة. الزلازل تضرب دون مقدمة، والفيضانات تغرق الأرض بلا رحمة. كأنّ الطبيعة تسألنا: “إلى متى؟”

ربما ليست الطبيعة كائنًا حيًا كما نفهم الكائنات، لكنها بالتأكيد ليست جمادًا أبكم. إنها نظامٌ حي، نابض، مترابط، يعرف متى يتألم، ومتى يلفظ من داخله ما يؤذيه. نحن لم نكن يومًا خارج هذا النظام، بل جزءًا دقيقًا منه. ولكننا توهّمنا أننا السيّد، المتحكم، الصانع لكل شيء. نسينا أن الذي يزرع الفوضى في قلب جسدٍ حي، لا بد أن يصطدم يومًا برد فعل مناعي شرس.

إننا اليوم لا نقف أمام كوارث مناخية فحسب، بل أمام لحظة مراجعة وجودية، تضعنا في مواجهة مع السؤال الكبير: هل نستحق هذا الكوكب؟ وهل يمكن أن نعود من جديد أبناءً لهذه الأرض، لا جلادين لها؟

هل الطبيعة “تعاقب” الإنسان؟ أم أن ما يحدث هو مجرد انعكاس لقانون “السبب والنتيجة”؟

هل الطبيعة تعاقب الإنسان؟ سؤال يحمل في طيّاته الكثير من القلق والخوف، ويخفي وراءه رغبة دفينة في إيجاد تبرير لما يحدث، وكأننا نحاول أن نُسقط مفاهيمنا البشرية – كالانتقام والعقاب – على هذا الكيان العظيم الذي يحيط بنا، ويحضننا، ويقسو علينا أحيانًا. حين تجتاح الأعاصير المدن، وتبتلع السيول القرى، وتهتز الأرض تحت أقدامنا فجأة، نسارع إلى التساؤل: “هل غضبت الأرض؟ هل الطبيعة تنتقم؟”

لكن لنتأمل هذا من منظور أعمق، فلسفيّ أكثر. الطبيعة ليست قاضٍ يزن الأفعال، ولا كائنًا يحصي الخطايا ليصوبها بسوط العواصف. إنها، في جوهرها، نظام بالغ التعقيد والدقة، تحكمه قوانين صارمة، غير قابلة للعبث أو المجاملة. ما نراه اليوم من فيضانات متكررة، وحرائق غابات متوحشة، وذوبان جليدي غير مسبوق، ليس “عقوبة”، بل نتيجة. نتيجة مباشرة لما فعلناه، وما زلنا نفعله. الطبيعة لا تنتقم، لكنها أيضًا لا تغفر.

نحن من زرعنا بذور هذا الخلل، وسقيناها بجشعنا، ورعيناها بإهمالنا. قطعنا الأشجار التي تحبس الكربون، فاختنق الهواء. لوّثنا المحيطات، فماتت الكائنات، وانهار التوازن. أطلقنا الغازات في السماء، فارتفعت درجات الحرارة، واضطربت الفصول، وبدأت الظواهر التي كانت نادرة تتكرر وكأنها باتت القاعدة لا الاستثناء.

ما يحدث ليس غضب الطبيعة… بل صوتها حين تتكلم بلغة القوانين الكونية. هذه اللغة لا تعرف الرحمة، لكنها أيضًا لا تعرف الظلم. كل فعل له نتيجة. كل عبث يقابله خلل. ما نعيشه اليوم هو الصورة الحيّة لهذا القانون السرمدي: السبب والنتيجة. الطبيعة لا تعاقب، لكنها أيضًا لا تنقذ من لا يحترم نظامها.

ومع ذلك، لا يخلو الأمر من البعد الرمزي… حين ترى قرية بأكملها تُجرف في لحظات، أو مدينة متقدمة تُشلّ بفعل عاصفة، لا تملك إلا أن تشعر أن هناك رسالة تُرسَل إلينا. رسالة لا تكتب بالحروف، بل تُنقش بالماء والنار والريح. رسالة تقول: أنتم لستم وحدكم في هذا الكوكب، أنتم لستم الآلهة.

وهنا تتجلّى المفارقة العجيبة… نحن، الذين بنينا حضاراتنا على وهم السيطرة، نجد أنفسنا اليوم تحت رحمة قوة لا يمكن التفاوض معها، ولا إقناعها، ولا حتى الهرب منها. ما يحدث ليس انتقامًا، بل دعوة للاستيقاظ.
الطبيعة لا تحمل لنا الكراهية، بل تحمل لنا الحقيقة. وإن كنّا نراها قاسية اليوم، فلأننا كنا قساة بالأمس… واليوم، نحن فقط نحصد ما زرعناه.

الإنسان سيّد الطبيعة أم جزء منها؟ هل نعيش خارج النظام الطبيعي أم داخله؟

لطالما تغنّى الإنسان بذكائه، وراح يُعلي من شأن عقله وقدرته على السيطرة، حتى أوهم نفسه بأنه الكائن الوحيد الذي خرج من عباءة الطبيعة ليصبح سيّدها المطلق. أنشأ المدن فوق الجبال، وحفر الأنفاق في باطن الأرض، وحوّل الصحارى إلى ناطحات سحاب، ونظن أننا انتصرنا. لكن هل حقًا خرج الإنسان من نظام الطبيعة؟ أم أنه لا يزال جزءًا صغيرًا – وإن كان صاخبًا – في نسيجها الهائل؟

في الحقيقة، لا نحتاج إلى كثير من التأمل لندرك أننا لم نغادر الطبيعة يومًا، بل كل ما فعلناه أننا حاولنا أن نتحايل عليها. ظننا أن بناء الجدران يعزلنا عن الفيضانات، وأن التكييف يحمينا من الحر، وأن الأقمار الصناعية تعفينا من مراقبة السماء. لكن الحقيقة تلاحقنا في كل لحظة، وتذكرنا، بلا كلل، أننا لسنا فوق الطبيعة… نحن جزء منها، ونخضع لقوانينها سواء اعترفنا بذلك أم لا.

الهواء الذي نستنشقه، الماء الذي نشربه، الغذاء الذي ينبت من الأرض، حتى المرض الذي يهاجم أجسادنا… كل ذلك جزء من منظومة بيئية هائلة نحن لا نعيش خارجها، بل نتنفّس داخلها، نأكل من خيراتها، ونموت حين تختلّ توازناتها. الإنسان ليس سيّد الطبيعة، بل أشبه بركّاب سفينة هائلة تمخر عباب الكون، إن أفسد فيها مكانه، لا تغرق السفينة… بل يُلقى هو منها.

نحن كائنات مترابطة، حتى لو توهّمنا أننا فوق ذلك. النحلة التي تطن في بساتين بعيدة قد تكون سببًا في تفاحة نأكلها بعد عام. غابة تُقطع في قارة ما قد تغيّر مسار الرياح في قارة أخرى. حوتٌ يموت في أعماق البحر قد يكون مؤشرًا لانهيار سلسلة غذائية كاملة. هذه ليست مبالغات شاعرية، بل حقائق علمية تُثبت لنا أن الكون ككلّ نسيج واحد، وإذا شدّ الإنسان خيوطه من طرفٍ، اهتزّ من الطرف الآخر دون أن يدري.

ومع ذلك، لا يمكننا إنكار أن الإنسان يمتلك شيئًا لا تمتلكه بقية الكائنات: الوعي والقدرة على الاختيار. هذه الملكة الفريدة جعلته قادراً على إحداث التغيير – سلبًا أو إيجابًا. نحن لا نعيش داخل الطبيعة بشكل آلي، بل نتفاعل معها بإرادتنا. وهذا التفاعل هو ما يجعلنا مسؤولين، لا عن أنفسنا فقط، بل عن مصير الكوكب كله.

فلنتخيل الطبيعة ككائن حيّ… لا يرانا كغزاة، بل كأعضاء منه مرضى. ما يحتاجه ليس انتقامًا، بل شفاء. والطريق إلى هذا الشفاء يبدأ من الاعتراف: أننا لسنا آلهة فوق الأرض، بل بشرٌ من ترابها ومائها، وأن توهّم السيادة هو أول أسباب السقوط.

هل من الأخلاقي أن نُخضع الطبيعة بالكامل لعقولنا ومشاريعنا، دون اعتبار لتوازنها واحتياجاتها؟

في عمق هذا السؤال يكمن الصراع القديم بين السلطة والأخلاق، بين الرغبة في السيطرة والقدرة على التحكّم، وبين الحاجة إلى الاحترام والتواضع. فمنذ أن اكتشف الإنسان النار، واخترع العجلة، وصنع الآلات وابتكر التكنولوجيا، وهو يتقدّم في مسيرةٍ تبدو للوهلة الأولى انتصارًا للعقل. لكن، هل كل ما يمكننا فعله… يجب علينا فعله؟ هل امتلاك القدرة يبرر استخدام السلطة؟ وهل خضوع الطبيعة لعقل الإنسان هو قمة المجد أم أول فصول الهاوية؟

عبر القرون، سعت الحضارات إلى إخضاع الطبيعة، لا كمصدر حياة، بل كحقل مفتوح للتجربة، ككتلة صامتة من الموارد تنتظر التقطيع والاستغلال. قطعنا الغابات لنزرع مصانع الحديد، سدّدنا الأنهار لنروي ملاعب الغولف، وأطفأنا الليل بأضواء المدن، لا لأننا في حاجة ماسّة إلى كل ذلك، بل لأننا استسلمنا لفكرة أن النجاح يعني الهيمنة.

لكن في هذا الجموح، تجاهلنا أن للطبيعة إيقاعًا خاصًا، نظامًا دقيقًا لا يحتمل العبث. فكما لا يُسمح لقلب الإنسان أن ينبض بإيقاع فوضوي، لا يجوز لكوكب الأرض أن يختلّ توازنه البيئي دون عواقب. إننا اليوم نعيش بعضًا من تلك العواقب: حرائق تجتاح الغابات قبل أن تثمر، أعاصير تأتي في غير موسمها، أمطار لا تتبع منطق الطقس، موجات حر تقتل الصغار قبل الكبار. الطبيعة لا تنتقم، لكنها تردّ الفعل بطريقتها الخاصة.

فهل من الأخلاقي أن نتمادى؟ أن نحكم على أنواع بالكائنات بالانقراض فقط لأن مشاريعنا تبتلع مواطنها؟ أن نحول الأنهار إلى مجارٍ صناعية لأننا نريد الكهرباء الرخيصة؟ أن نصنع مواد لا تتحلل أبدًا فقط لأننا نحب الراحة؟

الأخلاق الحقيقية لا تُقاس بمدى ما نملكه من أدوات، بل بمدى ما نتحلى به من مسؤولية تجاه من لا صوت له. والأرض، رغم عظمتها، لا تصرخ بالكلمات، بل بالكوارث. نحن نملك القدرة على التغيير، لكننا أيضًا نملك الخيار: أن نُعامل الطبيعة كشريك في الحياة… لا كعبد نُقيده بالسلاسل.

إن السؤال ليس فقط: هل من الأخلاقي أن نخضع الطبيعة؟ بل: هل نستحق البقاء إن أصررنا على ذلك؟

المحور الثاني: وقائع الكوارث المناخية الأخيرة – إشارات إنذار؟

لم يعد الحديث عن الكوارث المناخية ترفًا إعلاميًا يُستعرض في نشرات الأخبار أو يستهلك في تقارير بيئية متخصصة… بل بات واقعًا يفرض حضوره العنيف في تفاصيل الحياة اليومية لشعوبٍ بأكملها. لم نعد نقرأ عن الفيضانات في كتب الجغرافيا القديمة، بل نشاهدها تغمر المدن الكبرى في أوروبا وآسيا وأمريكا، وتقتلع البيوت من جذورها في أفريقيا والشرق الأوسط، كأن الأرض قد قررت فجأة أن تستردّ ما سُلب منها على مدى قرون.

في الصيف الماضي، شهدت كندا حرائق غابات هي الأكبر في تاريخها، حرائق التهمت آلاف الهكتارات من المساحات الخضراء، وغطّت سماء نيويورك بلون رمادي خانق، أعاد إلى الأذهان مشاهد الأفلام الكارثية. لم تكن تلك النيران ناتجة عن إهمال بشري مباشر، بل عن موجات حر استثنائية، حرائق بدأت من تلقاء نفسها لأن الهواء ذاته بات مشتعلًا… حرفيًا.

وفي الوقت الذي كانت فيه كندا تحترق، كانت ليبيا تغرق. مدنٌ بأكملها، مثل درنة، اختفت تحت المياه، بفعل عاصفة دانيال التي لم تكن عاصفة تقليدية، بل كابوسًا من الرياح والأمطار والدمار. المئات، بل الآلاف، لقوا حتفهم، ليس فقط بسبب العاصفة، بل لأن البنية التحتية المتهالكة لم تكن مستعدة لمواجهة وحش بهذا الحجم. الطبيعة تهاجم، نعم، لكن ما يجعل هجومها قاتلًا هو تراكم الإهمال والتجاهل والصمت.

ولا ننسى الزلازل، وإن كانت غير مباشرة في علاقتها بالتغير المناخي، إلا أن تواترها وتزامنها مع ظواهر مناخية أخرى يطرح تساؤلات مقلقة. ما حدث في تركيا وسوريا مطلع العام كان مأساة تتجاوز قدرة العقل على التصور… عشرات الآلاف من القتلى في ساعات، مدن انهارت كما تسقط أوراق الخريف، وأمل ضائع في أن الطبيعة ما تزال رحيمة. ثم جاء الزلزال في المغرب، بعده بأسابيع، ليزيد المشهد قتامة… هل نحن أمام نمط جديد من الانهيار الجيولوجي، أم أن الأرض بدأت بالفعل ترسل إشارات إنذار أكثر حدة ووضوحًا؟

أما في آسيا، فلم تسلم لا الهند ولا الصين ولا بنغلاديش من فيضانات قاتلة، وموجات حر خانقة تجاوزت 50 درجة مئوية، بل وصلت إلى درجة تبخير مصادر المياه وجعل الزراعة التقليدية مستحيلة. أما القارة العجوز، أوروبا، فلم تعد تنعم بذلك “الطقس المعتدل” الذي كان يُضرب به المثل… بل باتت تعاني من جفاف نهر الراين في ألمانيا، وحرائق في البرتغال وإسبانيا، وعواصف بَرَد دمّرت محاصيل بأكملها في فرنسا.

في كل هذه الكوارث، يبدو أن شيئًا ما قد اختل. لم يعد بالإمكان الحديث عن “حوادث طبيعية معزولة”، بل عن نمط متكرر، عن رسائل واضحة، عن صفعات قوية من الأرض لكل من ما زال يصر على أن التغير المناخي “مجرد مبالغة”. هذه الكوارث لم تعد استثناءات، بل أصبحت القاعدة الجديدة. والأخطر من الكارثة نفسها، هو استمرارنا في التصرف كأن شيئًا لم يحدث.

فهل سننتظر الكارثة التالية لنبدأ في الفهم؟ أم أن الوقت قد حان لنتوقف عن دفن رؤوسنا في رمال الإنكار، ونبدأ بالتصرف كما لو أن حياتنا، فعلاً، على المحك؟

الأمثلة الواقعية

الأعاصير الشرسة التي اجتاحت الولايات المتحدة والمكسيك في الأشهر الأخيرة.

أما في الجانب الآخر من الكوكب، تحديدًا في القارة الأميركية، فقد باتت الأعاصير الموسمية أشبه بحرب دورية لا تهدأ، تخرج من المحيط الأطلسي أو الهادئ كوحوش عاتية، وتضرب الشواطئ والمدن كما لو كانت تسعى للثأر. الولايات المتحدة، التي لطالما امتلكت أكثر أنظمة الرصد والتنبؤ تطورًا، وجدت نفسها في الأشهر الأخيرة عاجزة أمام غضب الطبيعة.

الإعصار “إداليا”، الذي ضرب جنوب شرق الولايات المتحدة في أغسطس الماضي، ليس مجرد اسم على قائمة طويلة من الكوارث، بل كان تجربة مرعبة عاشها الملايين في فلوريدا وجورجيا وكارولينا. رياح تجاوزت سرعتها 200 كيلومتر في الساعة، أمطار غزيرة حوّلت الشوارع إلى أنهار، واقتلاع للأشجار والمنازل كما لو أن الأرض تتقيأ ما بُني فوقها. الإدارات المحلية رفعت حالة الطوارئ، والمواطنون فرّوا إلى الملاجئ، بينما كان الإعصار يرسم خريطته الخاصة للدمار، غير عابئ بخطط التنمية أو عمر المدن.

وقبل أن تلتقط هذه المناطق أنفاسها، جاء إعصار “أوتيس” ليربك الحسابات من جديد، وهذه المرة في المكسيك. مدينة أكابولكو السياحية، والتي كانت حتى الأمس القريب وجهة الحالمين بالشمس والبحر، تحولت في ساعات إلى مشهد من أفلام ما بعد الكارثة. الإعصار ضرب بقوة نادرة لم تتوقعها حتى أجهزة الأرصاد، والتي وصفت تطوره بأنه “صاعق” و”مفاجئ”. خلال ساعات، صعد أوتيس من عاصفة استوائية إلى إعصار من الفئة الخامسة – وهي الأعلى في سلم الكوارث – دون أن يُمنح السكان الوقت الكافي للاستعداد. الفنادق انهارت، والطرق قُطعت، والميناء امتلأ بالحطام، في مشهد بدا وكأنه نهاية عالم صغيرة.

وفي خضمّ كل ذلك، أصبح السؤال الصامت يصرخ في أذهان الجميع: ما الذي يحدث للغلاف الجوي؟ لماذا تتسارع وتيرة الأعاصير بهذا الشكل الجنوني؟ ولماذا لم تعد هذه العواصف تكتفي بالعبور والتراجع، بل أصبحت تبقى، وتدمر، وتُعيد رسم حدود الأرض والبحر؟

المؤسف في الأمر أن هذه الأعاصير لا تميز بين الفقير والغني، لكنها تضرب الأكثر ضعفًا بقسوة أكبر. المناطق الساحلية التي يعيش فيها الفقراء غالبًا ما تكون أولى الضحايا، فبيوتهم أقل صلابة، وبناهم التحتية أكثر هشاشة، واستعدادهم للطوارئ معدوم. وهكذا، لا تعود الكارثة مجرد حالة طقس استثنائية، بل تتحول إلى مرآة ضخمة تعكس خللًا عميقًا في طريقة تعاملنا مع الطبيعة… خللًا ندفع ثمنه بأرواحنا وممتلكاتنا ومستقبل أجيالنا القادمة.

الفيضانات المدمرة في البرازيل وأفريقيا وآسيا.

في حين كانت الأعاصير تهاجم اليابسة من قلب المحيطات، كانت المياه تتسلل إلى اليابسة من السماء… فتسقط الأمطار كأنها انفتاح جرح في السماء، لا يتوقف عن النزيف، لتتحول مدن بأكملها إلى بركٍ غاضبة، وتذوب الحدود بين اليابسة والماء كأن الأرض تعود إلى حالتها الأولى قبل الخلق.

في البرازيل، بلد الأمازون الأخضر والمطر الأبدي، لم تكن الأمطار هذا العام بركة، بل لعنة متفجرة. ولاية “ريو غراندي دو سول” الجنوبية غرقت حرفيًا تحت سيل لا يُحتمل من الأمطار، التي هطلت بمعدلات تفوق أي توقعات سابقة. القرى الصغيرة اجتثّتها المياه من جذورها، الجسور انهارت كما تنهار أعمدة الورق، والناس صعدوا إلى الأسطح في انتظار النجدة، وكأنهم يلوّحون من قوارب غرقى في وسط محيط بلا شاطئ. مشاهد لأطفال يُحملون في أوانٍ بلاستيكية عوضًا عن قوارب، ونساء يُجلين كبار السن على قطع خشب طافية، حوّلت الكارثة إلى مشهدٍ مأساوي من مسرح الواقع، حيث الماء لم يعد رمز الحياة، بل صار سلاحًا للغرق.

وفي إفريقيا، القارة التي عرفت دائمًا التقلبات بين الجفاف والفيضان، بدت الأشهر الماضية وكأنها استسلام للطوفان. السودان، الذي يعاني أصلًا من أزمات سياسية واقتصادية معقدة، تلقى ضربة قاسية من الأمطار الموسمية التي فاقت حدود التحمل. البيوت الطينية، التي صمدت لعقود في وجه الشمس والريح، انهارت ببساطة تحت زحف الطين والماء، لتبقى العائلات في العراء، تترقب مصيرًا لا أحد يستطيع التنبؤ به. وفي نيجيريا، غمرت الفيضانات أكثر من نصف البلاد، واقتلعت مئات الآلاف من بيوتهم، وأغرقت الحقول التي كانت مصدر الرزق الوحيد لكثيرين، وبدت الطرقات وكأنها قنوات نهرية حديثة العهد، لكنها ليست مخصصة للحياة.

أما في آسيا، التي لطالما اعتادت مواسم الرياح الموسمية، فقد تحوّلت الأمطار هذا العام إلى طوفان مدمر في بلدان مثل الهند، وبنغلاديش، والفيليبين. في الهند، العاصمة نيودلهي التي تعج بالضجيج والناس، اختنقت بمياه الأمطار التي حولت الأنفاق إلى مصائد موت، وغمرت المترو، وأغلقت المدارس والمصانع والمستشفيات. المئات قضوا بسبب الانهيارات الأرضية والسيول التي لا تفرق بين بيت فقير أو غني، وبين طريق سريع أو حيّ شعبي.

لقد أصبحت هذه الفيضانات لا تُعد ولا تُحصى، ولكنها تحمل نفس النداء: الطبيعة ترفض أن تُستنزف أكثر. المياه التي لطالما سعت البشرية لترويضها، خرجت عن الطوق، وأصبحت تكتب رسائل الغضب على جدران المدن، وتترك توقيعها العنيف على وجه الأرض. فيضان تلو فيضان، وكأن العالم يعيد اكتشاف هشاشته أمام عنصر بسيط… عنصر يبدو ناعمًا وشفافًا، لكنه حين يثور، لا يترك وراءه سوى الطين والخراب.

موجات الحرارة غير المسبوقة في أوروبا ومناطق الخليج.

كأن السماء قد قررت أن تسقط لهيبها على الأرض، لا مطرًا يروي، بل نارًا تحرق. في أوروبا، التي لطالما كانت معروفة باعتدال مناخها ونعومة صيفها، باتت الشمس عدوًا متربصًا، لا يرحم. درجات الحرارة وصلت إلى مستويات غير مسبوقة، حطّمت الأرقام القياسية في مدن لم تعرف حرارة الصحراء يومًا. باريس، المدينة التي غنّى لها الشعراء تحت ظلال أشجارها، اختنقت بحرارة تجاوزت الأربعين درجة مئوية. أما إسبانيا، فقد بدت كأنها قطعة من الجحيم وقد سقطت من السماء، حيث اندلعت الحرائق في الغابات والتهمت الهكتارات وكأنها أوراق يابسة في مهب لهيبٍ هائج.

وفي إيطاليا، مات بعض كبار السن وحدهم في شققهم، بعدما لم يتمكنوا من مقاومة موجة الحر التي تسللت إلى الجدران والأجساد على حد سواء. المستشفيات امتلأت بحالات ضربات الشمس، والسلطات رفعت حالة الطوارئ في أكثر من مدينة، بعدما تحولت الحياة اليومية إلى صراع من أجل الظل والماء والنجاة. لم تعد الشواطئ ملاذًا، بل ملجأ للهرب من البيوت التي فقدت برودتها، ولأول مرة في تاريخها، صدرت تحذيرات بأن البقاء في المنزل قد يكون خطرًا أكثر من الخروج!

أما مناطق الخليج، حيث الشمس ضيف دائم منذ الأزل، فقد تجاوزت الأمور فيها حدود التحمل البشري. الحرارة وصلت في بعض الأيام إلى ما يزيد عن خمسين درجة مئوية، وهو ما لا تتحمله حتى الآلات، فكيف بالبشر؟ الشوارع بدت خالية في وضح النهار، وكأن الحياة اختارت أن تتوقف، والناس أصبحوا سجناء المكيّفات. وفي الكويت، ذابت بعض مكونات السيارات في الشوارع، وصدرت تعليمات صارمة للعمال بتقليص ساعات العمل، بعدما صارت الشمس سيفًا مشرعًا فوق الرقاب. البحرين وقطر والسعودية عاشت صيفًا لا يُنسى، ليس فقط بحرارته، بل بما كشفه من هشاشة بنيتنا أمام تغيرات الطبيعة التي لم نعد نملك السيطرة عليها.

هذه الموجات ليست مجرد فصول حارّة مرت بنا، بل إنذارات صارخة… وكأن الأرض تصرخ في وجوهنا: “أفيقوا… لقد تجاوزتم الحدّ، وآن للثمن أن يُدفع”.

حرائق الغابات التي لم تهدأ في كندا وأستراليا.

في مشاهد تُشبه نهاية فيلم سينمائي عن كارثة كونية، اشتعلت الغابات في كندا وأستراليا كما لو أن الطبيعة نفسها قررت أن تثور وتصرخ بألسنة اللهب. لم تعد الحرائق مجرد “مواسم” موسمية متوقعة كما في السابق، بل تحوّلت إلى وحوش جامحة، تنهش الأشجار والهواء والسماء، وتبعث برسائلها الحمراء عبر الدخان المتصاعد إلى عنان الغلاف الجوي.

في كندا، اندلعت النيران هذا العام في مشهد غير مسبوق، كأن الغابات قررت فجأة أن تحترق بالكامل. حرائق امتدت من الشرق إلى الغرب، من بريتيش كولومبيا إلى كيبيك، وخلّفت وراءها دمارًا غير معهود. ملايين الهكتارات أُتلفت، والغابات التي كانت ترقد بهدوء لعقود أصبحت رمادًا يتطاير مع الريح. سماء كندا، تلك الزرقاء الصافية، غدت برتقالية خانقة، وغطّت سحب الدخان الولايات المتحدة وأجزاء من أوروبا، كأنّ الأرض كلها تشارك في جنازة خضراء عظيمة.

أما أستراليا، فكأنها تعود عامًا بعد عام إلى كابوسٍ لا يزول. في كل صيف، يمتد لهيب النار كأنما الأرض نفسها انفجرت من الداخل. الغابات في نيو ساوث ويلز وفيكتوريا التهمتها النيران بشراسة، والحيوانات الهاربة من اللهب صارت رموزًا لعجز البشر أمام قوى الطبيعة. مشاهد الكوالا المحترقة والعصافير التي تسقط من السماء أثارت في العالم موجات من الحزن والغضب، لكن الطبيعة لم تهدأ، بل ازدادت شراسة. الحرارة المرتفعة، الجفاف، والرياح الساخنة، كلها اجتمعت لتمنح النيران روحًا وجسدًا يتحرك بلا رحمة.

الحرائق في كندا وأستراليا لم تعد مجرد كوارث طبيعية نتحسر على آثارها، بل هي رسائل صارخة، كأن الأرض تريد أن تقول: “لقد تماديتم، والآن تدفعون الثمن.” هذه النيران لا تحرق الأشجار فقط، بل تحرق شيئًا من ضميرنا أيضًا… من ثقتنا بأننا نسيطر على هذا الكوكب. لكنها تذكرنا، بقسوة، بأننا لسنا أسيادًا، بل ضيوفًا… ضيوفٌ أطالوا البقاء وعبثوا كثيرًا.

الزلازل والانهيارات الأرضية في تركيا والمغرب واليابان.

في لحظات مباغتة، تهتز الأرض تحت أقدام البشر كما لو كانت تُريد أن تُذكّرهم بأنها ليست جامدة ولا ساكنة، بل كائنٌ نابض بالحياة، يُخفي في أعماقه قوى جبّارة لا يمكن كبحها. الزلازل التي ضربت مؤخرًا تركيا والمغرب واليابان، لم تكن مجرد ارتدادات جيولوجية عابرة، بل كانت مشاهد درامية دامية، تُعلن عن يقظة الأرض وصراخها في وجه من ظنّ أنه سيّدها.

في تركيا، كانت المأساة بحجم وطن. زلزال فبراير العنيف الذي ضرب جنوبي البلاد، وامتد إلى شمال سوريا، مزّق الأرض ومزّق معها قلوب الملايين. مبانٍ انهارت على من فيها، عائلات دفنت تحت الأنقاض، وصرخات اختلطت بغبار الإسمنت والحديد. مدن كاملة تحولت إلى أكوام من الركام في لحظات معدودة. قُتل الآلاف، جُرح عشرات الآلاف، وتركت الكارثة خلفها جرحًا إنسانيًّا لا يندمل. لم يكن الزلزال حدثًا طبيعيًّا فقط، بل كان مرآة لكل تراكمات الإهمال والتخطيط السيئ والتغاضي عن تحذيرات الطبيعة. وكأن الأرض تقول: “أنذرتكم مرارًا، لكنكم لم تُصغوا.”

وفي المغرب، كان زلزال الحوز فاجعة غير مسبوقة في تاريخ البلاد الحديث. قرى جبلية معزولة اختفت عن الخريطة، وأصوات الاستغاثة لم تكن تجد من يرد عليها بسرعة. الهلع عمّ المدن الكبرى من مراكش إلى أغادير، لكنّ الرعب الحقيقي كان في تلك المناطق المنسية، حيث تهدمت البيوت الطينية فوق رؤوس ساكنيها، وكأن الأرض في لحظة غضب قررت أن تبتلع من لم يكن لهم صوت أو درع يحميهم.

أما في اليابان، ذلك البلد الذي تعايش مع الزلازل كقدر محتوم، فلم يكن العام الأخير أقل مأساوية. ورغم أن البنية التحتية هناك تُصمّم لتقاوم، فإن الزلزال الأخير الذي ضرب الساحل الغربي تسبب بخسائر فادحة، وانهيارات أرضية ضخمة، وحرّك البحر في موجات ارتدادية أثارت فزع السكان. اليابانيون، برغم خبرتهم، وقفوا أمام هذا الحدث كما يقف الطفل أمام عاصفة: بخوف مشوب بالدهشة، ووعي بأن الطبيعة مهما حاولنا ترويضها، تظلّ متقلبة، لا يُؤمن جانبها.

في كل هذه الحوادث، لم تكن الأرض تتحرك فقط، بل كانت تتكلم. وكأنها تريد أن تهمس في آذاننا ــ أو تصرخ ــ بأن التوازن مختل، وأنّ من يعيش فوق سطحها لا يمكنه أن يتجاهل ما يحدث في أعماقها. فالهزّات لم تكن تحت الأرض فقط، بل في الضمير الإنساني، وفي فهمنا المبتور لطبيعة هذا الكوكب… الذي ما عاد يتحمّل المزيد من الغفلة والتحدي.

رؤية إنسانية: في كل كارثة، الضحايا من الفقراء غالبًا. فهل الأرض تعاقب المذنب، أم أن الأبرياء هم أول من يدفع الثمن؟

في كل كارثة كبرى تهزّ كيان الأرض، لا تفرق الطبيعة بين غني وفقير، بين مذنب وبريء. ولكن حين تنقشع سحب الغبار، وتنتهي الزلازل، وتخمد النيران، وتنسحب مياه الفيضانات، يتّضح المشهد الحقيقي المرير: الفقراء دومًا هم أول من يسقط، وآخر من يُنقذ، وأقل من يُذكر. هم الذين يعيشون على حافة المدن، في بيوت من صفيح أو طين، دون بنية تحتية تحميهم، أو أنظمة إنذار مبكر تنبّههم. هم الذين لا يملكون مركبات للهروب، ولا حسابات مصرفية للإغاثة، ولا نفوذًا يُسخّر لهم جهود الدولة. يقتلعهم الإعصار كما يقتلع ورقة في مهب الريح، ثم لا يبقى لهم سوى الصمت.

الطبيعة لا تعاقب أحدًا بنية واعية، لكنها تتفاعل مع اختلالات البشر في توازنها، ولا أحد يُعاني من نتائج هذه الاختلالات أكثر من أولئك الذين لم يشاركوا أصلًا في صنعها. من أطلق الغازات السامة؟ من بنى المصانع العملاقة؟ من استنزف الغابات والموارد؟ ليس الفقراء. ومع ذلك، حين يفيض النهر، يغمر أكواخهم. حين ترتفع درجات الحرارة، يموتون في مساكن لا تملك نوافذ ولا مكيفات. وحين تضرب العواصف، لا يملك أطفالهم خوذات ولا ملاجئ، بل يختبئون في أحضان أمهاتهم المرتجفات، كما لو أن الحنان وحده قادر على صدّ جنون الطقس.

ليست الأرض ظالمة، لكن الظلم في نظام البشر. في توزيع الموارد، في التخطيط العمراني، في الغياب شبه الدائم للعدالة البيئية. في كل كارثة، تُسارع وسائل الإعلام لتوثيق الدمار، وتعرض صور الموتى والمشردين، لكن نادرًا ما يُطرح السؤال المؤلم: لماذا يقع العبء دومًا على من لا صوت لهم؟ لماذا تُدفن الأحلام الصغيرة تحت أنقاض منازل لم تكن يومًا آمنة؟ لماذا يبدو العالم وكأنه يقف دقيقة صمت، ثم يمضي وكأن شيئًا لم يكن؟

الضحايا الحقيقيون ليسوا من لوّثوا الكوكب، بل هم من وُلدوا في المناطق الخطأ، في اللحظة الخطأ، دون فرصة للنجاة. وفي هذا، يصبح السؤال فلسفيًّا وإنسانيًّا في آنٍ واحد: هل الأرض تعاقب؟ أم أن الإنسان هو من جعلها ساحة للانتقام الطبقي بصيغة طبيعية؟ هل اختلال المناخ هو السبب، أم أن اختلال ضمائرنا هو الجريمة الكبرى؟

المحور الثالث: الأسباب البشرية – من الذي جعل الأرض تئن؟

لقد آن الأوان أن نضع المرآة أمام وجوهنا، وننظر بصدق إلى ما اقترفته أيادينا. فحين نسمع أن الأرض “تئن” من الألم، فإن هذا الأنين ليس أسطورة بيئية أو شعوراً شعرياً عاطفياً، بل هو صوت صادق صادر من أعماق الكوكب الذي أرهقناه حتى الاختناق. لم يعد بإمكان الأرض أن تبتلع المزيد من الغازات السامة ولا أن تحتمل مزيدًا من الخراب المتعمد في غاباتها وأنهارها وهوائها. كل شق في التربة، كل موجة حرارة قاتلة، كل إعصار مفترس، ليس مجرد حادث طبيعي عابر، بل هو في كثير من الأحيان انعكاس صارخ ليد الإنسان حين تعمى عن الحكمة، وتغتر بالقوة، وتفقد احترامها للنظام الذي وُجد قبل وجوده بزمن طويل.

لسنا شهودًا على عصر انهيار طبيعي مفاجئ، بل نحن في قلب عصر الانكشاف. انكشاف الإنسان أمام نتائج طمعه، وجشعه، وإصراره على التعامل مع الكوكب كمجرد منجم موارد لا ينضب. لقد تعاملنا مع الطبيعة كمجال للتملك لا للتناغم، ونسينا أن الأرض لا تنسى من يجرحها، ولا تسامح بسهولة من يخون عهد التوازن الذي ظلّت تحفظه على مدى آلاف السنين.

في كل أزمة مناخية، يختبئ بين السطور سؤال محوري واحد: من الفاعل؟ والإجابة المؤلمة أننا نحن. نحن من فتحنا أبواب الكارثة بخياراتنا اليومية، بأنظمة إنتاجنا الجائرة، باقتصادنا العابر لكل حدود بيئية، برغبتنا في المزيد، دائمًا المزيد، دون تفكير في الثمن. نحن من جرفنا الغابات باسم التوسع، وسممنا المياه باسم الصناعة، وأطلقنا ثاني أكسيد الكربون في السماء باسم “التنمية”.

إن ما تعانيه الأرض اليوم هو نتيجة متراكمة لصمت طويل. صمت العالم عن تحذيرات العلماء، وتجاهل الحكومات لأجراس الإنذار، وإصرار الأقوياء على الاستهلاك المفرط الذي يُدفع ثمنه في أفقر بقاع الأرض. والأنين الذي نسمعه الآن ليس سوى البداية. فهل نصحو قبل أن يصبح الصمت الأبدي هو صوت الطبيعة الأخير؟

الأنشطة الملوثة: الاعتماد الكثيف على الوقود الأحفوري.

في أعماق الأرض، ترقد بقايا ملايين السنين من الحياة القديمة، متحولة إلى نفط وفحم وغاز… مواد خام حملت في طياتها طاقة هائلة، فتحت للبشر أبواب الثورة الصناعية، ومنحتهم القوة لابتكار قطارات، وسفن، ومصانع، ومدن متلألئة لا تنام. بدا حينها وكأننا اكتشفنا سر السيطرة على الطبيعة، فهرعنا نحو هذه الكنوز المدفونة دون أن نسأل أنفسنا: ما الثمن؟

كان الاعتماد على الوقود الأحفوري بمثابة توقيع غير معلن على عقد طويل الأمد مع التلوث. كل قطرة نفط نحرقها، كل قطعة فحم نشعلها، كل متر مكعب من الغاز نستهلكه، يطلق في الهواء كميات ضخمة من ثاني أكسيد الكربون وغيره من الغازات الدفيئة، التي ترتفع إلى السماء، وتبقى هناك، تحيط بالكوكب كغطاء كثيف يمنع الحرارة من الهروب، ويؤدي تدريجيًا إلى تسخين الأرض بأكملها. وهكذا، بدأ التوازن المناخي الذي نشأت عليه الحياة يختل شيئًا فشيئًا، دون أن ننتبه في البداية إلى ما يحدث.

في البداية، لم تُسمع التحذيرات. بدت الغازات كأنها غير مرئية وغير مؤذية، لا رائحة لها ولا لون، فلا خوف منها. لكن الآثار بدأت تظهر تباعًا: طقس متطرف، ذوبان الجليد، ارتفاع منسوب البحار، حرائق مدمرة، ومواسم زراعية مختلة. ومع ذلك، لم نكف. لأن البنية التحتية التي بنيناها طوال قرون باتت تعتمد على الوقود الأحفوري اعتمادًا شبه تام. أصبح النفط والغاز والفحم عصبًا اقتصاديًا، فارتبطت به السياسة، والحروب، والمصالح، والنفوذ.

لم يعد المسار مجرد خيار طاقي، بل بات قدرًا يصعب الفكاك منه. تقاومه بعض الدول، وتتبناه بقوة دول أخرى، بينما تظل البيئة تدفع الثمن. الطائرات التي تملأ السماء، السيارات التي تسد الطرقات، المصانع التي لا تهدأ، محطات الكهرباء التي تستهلك الأطنان يوميًا… كلها تشترك في ضخ المزيد من الغازات السامة إلى الغلاف الجوي، وكأننا نحفر قبورنا بأنفسنا في الهواء.

الوقود الأحفوري ليس فقط مصدرًا للتلوث، بل هو مثال حي على كيف يمكن للإنسان أن يطوّع الطبيعة في البداية، ثم يجد نفسه عبدًا لها في النهاية. فما بدأ كخدمة للتنمية تحوّل إلى إدمان جماعي، تزداد كلفته الأخلاقية والبيئية عامًا بعد عام. والسؤال الذي يطاردنا الآن: متى نمتلك الشجاعة للفطام؟ متى نتحرر من هذا الاعتماد القاتل، قبل أن نجد أنفسنا نحرق آخر قطرة، ونحن نغرق في دخانها؟

إزالة الغابات.

كانت الغابات، منذ فجر الحياة، هي الرئة التي تتنفس بها الأرض. أشجار باسقة تمتد بجذورها إلى أعماق التربة، وتسافر بأغصانها إلى حدود السماء، تغزل للعالم هواءً نقيًّا وتزرع في المناخ توازنًا لا يُقدّر بثمن. هناك، في صمت تلك المساحات الخضراء، تدور دورة سحرية من الحياة: تمتص الأشجار ثاني أكسيد الكربون، وتطلق الأوكسجين، وتبرد الجو، وتحمي التربة من الانجراف، وتمنح الكائنات موطنًا وظلًّا وأمانًا. كانت الغابات بمثابة الوصي الصامت على استقرار الكوكب، حامية للأنظمة البيئية، ومصدًّا طبيعيًّا للكوارث.

لكن الإنسان، بسكين طمعه، بدأ يبتر هذا الجسد الأخضر قطعة بعد قطعة. باسم التنمية، وباسم الاقتصاد، وباسم التوسع الزراعي والعمراني، سقطت ملايين الأشجار في صمت دامٍ، وتحولت الغابات إلى مزارع ماشية أو حقول زيت نخيل، أو ببساطة إلى أراضٍ عارية تنتظر “مشروعًا استثماريًا”. في لحظة قصيرة أمام منشار كهربائي، ينهار كائن حيّ ظلّ ينمو عشرات السنين، وتنطفئ فيه آلاف النبضات البيئية التي لا تُعوض.

كلما أزيلت غابة، اختنق الهواء قليلًا، وارتفعت درجات الحرارة أكثر. فالأشجار التي كانت تمتص الكربون، لم تعد موجودة. ومع زوالها، لا يختفي فقط التوازن المناخي، بل تنقرض أيضًا أنواع نادرة من الحيوانات والنباتات التي كانت تعيش تحت ظلالها وتحتمي بجذوعها. لم تعد الأرض تكتفي بالبكاء، بل بدأت تصرخ بحرائق وانهيارات طينية وفيضانات مفاجئة، كما لو أنها تصرخ على أشلائها.

في الأمازون، التي تُعرف بـ”رئة الأرض”، تُزال كل دقيقة مساحة من الغابة تعادل عشرات ملاعب كرة القدم. وفي أفريقيا وجنوب شرق آسيا، يتكرر المشهد ذاته، حيث تتراجع الغابات تحت ضغط الجوع، والتجارة، والجشع. إنها معركة غير متكافئة بين مناشير لا ترحم، وأشجار لا تملك إلا الصمود بصمت.

إن إزالة الغابات ليست جريمة بيئية فقط، بل هي خيانة أخلاقية لكوكب وثق بنا، ولأجيال لم تأتِ بعد. فما الذي سنتركه لهم؟ تربة جرداء؟ سماءً خانقة؟ أرواحًا لا تجد ملجأها الأخضر؟ نحن لا نقطع مجرد خشب… بل نقتلع القلب النابض للأرض، ونكتب بأيدينا فصولًا جديدة من الحزن المناخي الذي يزحف نحونا بخطى ثابتة.

التوسع العمراني العشوائي.

في سباقه المحموم نحو الحداثة، راح الإنسان يبني ويهدم، يشق الشوارع، يرفع الأبراج، يطوّق السهول بالإسمنت، ويغرس الحديد في قلب الأرض كما لو أنه يحاول ترويض الطبيعة بقوالب الخرسانة وخرائط المدن. لم يعد العمران مجرد وسيلة لسكنٍ كريم، بل أصبح رمزا للهيمنة والانتصار على الفراغ، وكأن الامتداد الأفقي والعمودي للمدن هو المعيار الوحيد للتقدم.

لكنّ الحقيقة أكثر قسوة. فذاك التوسع العمراني الذي يُرَوّج له بوصفه إنجازًا حضاريًّا، ما هو في جوهره إلا غزو عشوائي جائر للطبيعة. فقد تمددت المدن كالأخطبوط، تبتلع الأراضي الزراعية، وتُطوّق الغابات، وتجفف الوديان، وتطرد الحيوانات من مواطنها الأصلية. حيثما ارتفع مبنى، سقطت شجرة، وانحسر حقل، واندثرت رقعة خضراء كانت تحمي التربة وتُنَظّم حرارة المكان وتنعش الهواء برائحة الحياة.

العمران حين لا يُخطّط له بعقلٍ، يتحول إلى كارثة مؤجلة. فالشوارع غير المدروسة تُغرق المدن عند أول هطول، والمباني المتلاصقة تحتجز الحرارة كجدران فرن، والضغط السكاني غير المتوازن يُجهد الموارد الطبيعية، ويُسهم في تآكل البيئة ببطء مستمر. تمدّدت الأحياء العشوائية على أطراف المدن كأورام إسمنتية، تفتقر إلى الصرف الصحي والتهوية والتخطيط، وتُراكم الأزمات البيئية والاجتماعية في آن واحد.

بل الأسوأ من ذلك، أن الزحف العمراني لا يعرف التوقف عند حدود الحاجة، بل غالبًا ما يُحرّكه منطق الربح السريع. شركات العقارات تستبيح الطبيعة باسم المنتجعات، وتُحوّل الشواطئ إلى فنادق، والجبال إلى شقق، والوديان إلى مجمعات تجارية، فلا يبقى للبيئة إلا الفتات، ولا يبقى للكائنات الأخرى سوى الهجرة أو الفناء.

لقد أصبحنا نعيش في مدن تُخيفنا حرارتها صيفًا وتغرقنا أمطارها شتاءً، لأننا بنيناها على جثة الطبيعة، دون اعتبار لدورتها أو قوانينها. التوسع العمراني العشوائي لم يغيّر فقط ملامح الأرض، بل شوّه علاقتنا بها، فصرنا نعيش في كتل صمّاء، بلا ظلال ولا نسيم، كأننا نفصل أنفسنا عن الكوكب الذي نعيش فيه، ونظنّ – مخطئين – أننا في مأمن من غضبه.

التصنيع الزائد وإنتاج النفايات.

حين انطلقت شرارة الثورة الصناعية، لم تكن مجرد لحظة فارقة في تاريخ التكنولوجيا، بل كانت أيضًا بداية لانفصال الإنسان عن إيقاع الطبيعة. تحول المصنع إلى معبد جديد، والدخان المنبعث من مداخنه صار رمزًا للتقدم. وبدأنا ننتج ونصنع ونستهلك كما لو أن الأرض لا تكلّ ولا تملّ، وكأن مواردها لا تنضب، وسعتها لا تضيق. لكن الحقيقة أن لكل شيء ثمناً، وأن هذا التصنيع الزائد الذي نباهي به، بات الآن واحدًا من أخطر السموم التي تنهش كوكبنا بصمتٍ قاتل.

آلاتٌ لا تتوقف، وسلاسل إنتاج لا تعرف الرحمة، ومخازن مكتظة بالبضائع، وأخرى مكتظة بالنفايات، فيما الهواء يغدو أكثر تلوثًا والماء أقل نقاءً. لم تعد المصانع تكتفي بإنتاج ما يحتاجه الإنسان، بل صارت تنتج ما يُغريه، وتدفعه إلى الاستهلاك الدائم. وهكذا دخلنا في دوّامة لا نهائية: تصنيع مفرط، استهلاك مفرط، ثم نفايات لا تجد مأوى إلا في أحشاء الأرض أو قيعان البحار أو حتى في رئات الأطفال.

ولأن الكارثة لا تأتي فرادى، تراكمت أنواع النفايات: صلبة وسائلة، عضوية وكيميائية، منزلية وصناعية، حتى النفايات الإلكترونية وجدت طريقها إلى البيئة. ملايين الأطنان تُنتَج سنويًّا، ولا تُدفن فقط، بل تُدفن معها إمكانيات النجاة. المواد البلاستيكية تملأ المحيطات، السموم الصناعية تتسلل إلى التربة، والمعادن الثقيلة تستقر في أجسام الأسماك، لتعود إلينا في أطباق الطعام في دورة قاسية من التسمم الذاتي.

والأسوأ من ذلك كله، أن هذا الإفراط لا يوازيه وعي. لا في المصانع التي تهدف إلى الربح، ولا في السياسات البيئية التي تتأخر، ولا في المستهلك الذي يشتري ثم يرمي، دون أن يتساءل عمّا خلف الستار. فقد بات التلوّث جزءًا من المعادلة الاقتصادية، والنفايات سمة لصيقة بالحياة العصرية، كأننا لا نصنع المنتجات بل نصنع نهايتنا بأيدينا.

في زحمة ماكينات الإنتاج، خفت صوت الطبيعة. وفي رماد المصانع، اختنقت رئتا الأرض. أصبحنا نعيش في عالم ينتج أكثر مما يحتاج، ويستهلك أكثر مما يحتمل، ويلقي في القمامة ما يكفي لإشباع قارة جائعة. وإذا لم نعد النظر في هذه الحلقة المفرغة، فإن كوكبنا لن يصبح فقط ملوثًا، بل قد يغدو غير صالح للعيش، لأننا لم نعرف يومًا كيف نوازن بين حاجاتنا وحدود الطبيعة.

الاستهلاك المفرط: سلوك الإنسان في القرن الحادي والعشرين لم يعد يكتفي باحتياجاته، بل تجاوزها إلى الجشع والترف والإفراط.

في مشهد لا يخلو من التناقض المرير، يعيش الإنسان المعاصر وسط وفرة لم يعرفها التاريخ، لكنّه في الوقت نفسه يواجه شحًّا روحيًّا وبيئيًّا لا يُضاهى. لم يعد الإنسان في القرن الحادي والعشرين يستهلك من أجل البقاء، بل أصبح يستهلك من أجل الانتماء، من أجل الإحساس بالقوة، من أجل تلبية رغباتٍ لا تشبع، وأحلامٍ تُبنى على الشاشات وتنهار في الواقع. لقد تحوّل الاستهلاك من وسيلةٍ إلى غاية، من نشاطٍ يومي بسيط إلى هوسٍ شامل، حتى أصبحنا نُقاس بما نملك لا بما نكون.

الأسواق لا تنام، والإعلانات لا تصمت، والثقافة الرائجة لا تدعو إلى القناعة، بل تُلهب التطلعات وتزرع الحسد في النفوس. هاتفٌ جديد كل عام، سيارةٌ أفخم، منزلٌ أوسع، ملابس تُستبدل لمجرد تغيّر الموضة، طعامٌ يُرمى لأن العين لم تعجبها، وليس لأن المعدة قد شبعت. بات الإنسان يملأ يومه بالشراء، ويملأ بيئته بالمخلفات، ويملأ داخله بالفراغ. وكلما ظن أنه امتلك أكثر، ازداد شعوره بالنقص، فأفرط أكثر.

ولأن لكل فعل أثر، فإن هذا الاستهلاك المتسارع يترك خلفه سلسلة من الأضرار لا تُعد ولا تُحصى. الغابات تُزال من أجل صناعات التغليف، المياه تُهدر في تصنيع أشياء لا تُستخدم إلا مرة، والمزارع تُستنزف لتلبية شهوةٍ لا تعرف التوازن. حتى الهواء الذي نتنفسه، أصبح ضحية لهذا الترف، إذ ترتفع الانبعاثات الكربونية مع كل شحنة توصيل، ومع كل رحلة طيران غير ضرورية، ومع كل منتج استوردناه لا لحاجتنا، بل لرغبتنا في تقليد ما يُعرض في الإعلانات.

ووسط كل هذا، يبدو الفقير – في القرى البعيدة والمناطق المهمشة – كائنًا غريبًا لا يستهلك إلا ما يحتاجه فعلاً، لكنه ليس النموذج الذي يُروَّج له. وكأن البساطة باتت تهمة، والتقشّف عارًا، بينما التباهي بالهدر أصبح علامة على النجاح.

إننا اليوم نعيش لحظة صدام قيمي حادة بين ثقافة الاستهلاك وثقافة الاستدامة، بين من يرى العالم موردًا يجب استنزافه، ومن يراه كيانًا يجب احترامه. لكن في ظلّ اختلال هذا الميزان، تبدو الأرض وكأنها تئن، لا فقط من المصانع والمداخن، بل من السلوك الفردي اليومي، من القرار الصغير الذي نتخذه حين نشتري ما لا نحتاج، أو نرمي ما لا نعير اهتمامًا.

الإنسان لم يعُد يسكن الأرض، بل يغزوها بما يملكه، ويقيس قيمته بما يستهلك، غير مدرك أن هذا الطريق – مهما بدا مبهرًا – يقود إلى هاويةٍ من التهالك البيئي، والعجز الأخلاقي، والانهيار الوجودي.

الخلل في علاقة الإنسان بالطبيعة

أصبحت الأرض أشبه بمصنع إنتاج دائم، لا تُمنح وقتًا للتجدد أو الاستراحة.

أصبحت الأرض، التي كانت يومًا حضنًا حنونًا وأمًّا سخية، تُعامل اليوم وكأنها آلة ميكانيكية، خُلقت فقط لتخدم الإنسان، وتستجيب لجشعه، وتُلبي طلباته المتزايدة دون توقّف. في الماضي، كان الإنسان يقف أمام الجبل بخشوع، يصغي لصوت الريح، يتأمل الأشجار كأنها أرواح، ويشرب من النهر كأنما يتواصل مع سرٍّ قديم. أما الآن، فقد انقطعت تلك الصلة المقدسة، وتحوّلت العلاقة إلى علاقة استغلال لا احترام فيها، ولا حوار، ولا إنصات.

أصبحت الأرض أشبه بمصنع إنتاج دائم، لا تُمنح فرصة للتجدد، ولا وقتًا للاستراحة. تُستخرج مواردها كأنها لا تنضب، تُحرق غاباتها كأنها لا تبكي، تُشق جبالها وتُستنزف مياهاها، وتُضغط طبقاتها الداخلية بحثًا عن الوقود والمعادن، وكأنها جسدٌ فاقد للإحساس، لا يتألم ولا يصرخ. لكن الحقيقة أن الأرض تصرخ، بكل ما أوتيت من وسائل، ونحن فقط من اختار أن لا يصغي.

نمارس الزراعة بأساليب قاتلة، لا تترك للتربة وقتًا كي تستريح، نصيد البحار بطريقة تُفني الأحياء البحرية، ونبني المدن فوق السهول الخصبة، بلا أدنى إحساس بالذنب. نُجبر الطبيعة على الركض معنا في سباق مجنون للإنتاج، حتى أصبحت الفصول غير متوازنة، والمناخ مختل، والتنوع البيولوجي في خطر، كأننا نعيد ترتيب كيمياء الأرض برعونة طفل يعبث في مختبر دون أن يدرك ما يصنع.

لم نعد نأخذ من الأرض لنعيش، بل ننهب منها لنستهلك. لم نعد نزرع لنأكل، بل لنبيع ونكدّس ونصدّر. أصبحت الطبيعة ضحية لمنطق السوق، لا لنداء الفطرة. كلّ شيء يُحسب اليوم بالربح، حتى الهواء والماء والشمس، وكأن الكون بأسره تحوّل إلى مشروع اقتصادي ضخم، لا مكان فيه للتأمل، أو للراحة، أو للرحمة.

ولأن الأرض كائن حيّ، وإن اختلفت لغتها عن لغتنا، فإنها بدأت ترُد، لا عن طريق العقاب، بل عبر قوانينها التي لم نخضع لها، بل حاولنا كسرها. القوانين التي تقول إن لكل فعل ردّ فعل، وإن الإنهاك يقابله الانهيار، وإن من لا يُنصت لصوت الطبيعة في وقت السلام، سيسمع هديرها في وقت الغضب.

وها نحن نعيش في عصر تتسارع فيه الكوارث، لا لأنها غضبٌ سماوي، بل لأنها صدى لما اقترفناه. الأرض لا تنتقم، لكنها تستعيد توازنها، حتى وإن تطلّب ذلك أن تُزحزح من فوقها من أسرف في استغلالها. وهذا التوازن هو الذي كسرناه، وهو الذي يجب أن نُعيده، لا فقط عبر التشريعات، بل من داخل وعينا، من داخل نظرتنا إلى الطبيعة ككائن حيّ، لا كمخزون احتياطي تحت تصرّفنا.

المحور الرابع: الخطاب الأخلاقي – هل نستحق ما يحدث لنا؟ هل جلب الإنسان الدمار على نفسه؟

في لحظة هدوء نادرة وسط ضجيج العالم، حين يخفت صوت المدن وينسحب الضوء إلى ظلاله، ينفتح باب الأسئلة الكبرى في أعماق النفس: هل ما يحدث حولنا من انهيار بيئي، وكوارث متلاحقة، وتغيّر مفزع في ملامح الكوكب، هو قدر مكتوب لا مفر منه؟ أم أننا نحن من كتبنا هذا المصير بأيدينا، وختمناه بأفعالنا، وأطلقناه ليسكن معنا في كل زاوية من زوايا الحياة؟ هل نحن الضحية أم الجلاد؟ وهل نستحق ما يحدث لنا حقًا؟

إذا نظرنا إلى العالم بعين الضمير، سنجد أن الإجابة ليست غامضة كما نحاول أن نوهم أنفسنا. لقد زرع الإنسان الشراهة، فحصد الجفاف. فتح أبواب الجشع، فدخلت منه الرياح العاتية والفيضانات. أطاح بتوازنات الطبيعة من أجل رفاهيته، ففقد حتى أدنى درجات الطمأنينة. لم تكن الكوارث سوى صدى لأفعالنا، ومرايا تعكس وجوهنا الحقيقية بعدما انطفأت عليها مساحيق الحضارة الخادعة.

الإنسان، الذي ظن أنه سيد الأرض المطلق، عامل الطبيعة كخادم، والبيئة كمخزن لا ينضب، والكائنات الأخرى ككماليات لا أهمية لها. أنشأ المدن على حساب الغابات، وأطلق الصناعات على حساب الهواء، وصنع السلع والملابس والآلات دون أن يصغي لصوت البحر أو نبض التربة أو شهيق الغيوم. وعندما بدأت الأرض ترتجف، والمناخ يجنّ، والأنهار تجف، جلس يتساءل بخوف: لماذا يحدث هذا لنا؟

لكن السؤال الحقيقي ليس لماذا يحدث، بل كيف وصلنا إلى هذه اللحظة من العمى الأخلاقي؟ الإنسان امتلك العقل لكنه غيّب الحكمة. امتلك العلم لكنه خسر الضمير. سافر إلى الفضاء ونسي من يعيش بجانبه على الأرض. أغرق نفسه في الاستهلاك حتى فَقَدَ المعنى، وباع الفصول الأربعة في مزادات الربح.

هل جلبنا الدمار على أنفسنا؟ نعم، وبكل وضوح، ولكن المأساة ليست في الجواب، بل في أننا ما زلنا نكرّره ونحن نُمعن في نفس الأخطاء. ما زلنا نحرق ونلوّث ونراكم النفايات، ثم نحزن عندما تُبتلع مدننا بالفيضانات، أو نحترق تحت شمس لا تعرف الرحمة.

العدالة الكونية لا تعرف المجاملة، والطبيعة لا تُراوغ. هي لا تعاقب انتقامًا، لكنها ترد الفعل وفقًا لما زرعناه. ومن يزرع الخراب، فليس من المنطقي أن ينتظر السلام. السؤال الأخلاقي الذي يواجهنا الآن ليس فقط: هل نستحق ما يحدث؟ بل: هل لا نزال نملك القدرة على التغيير؟ هل يمكننا، وسط كل هذا الدمار، أن نستعيد شيئًا من توازن الروح، لنُعيد بناء علاقة أكثر عدلًا ورحمة مع هذا الكوكب الذي لم يطلب منا يومًا سوى الاحترام؟

من يتحمل المسؤولية؟ هل هي الحكومات، أم الشركات الكبرى، أم كل فرد في سلوكه اليومي؟

من يتحمل المسؤولية؟ سؤال لا يطرق باب العقل فحسب، بل يدق جدران الضمير، وينغرس في عمق الألم الذي يعيشه كوكبنا كل يوم. حين تتهاوى الأنظمة البيئية وتشتعل الحرائق وتغرق المدن، تتجه الأصابع للبحث عن مذنب، كأننا نريد محاكمة جهة بعينها لنعفي أنفسنا من التورط. لكن الحقيقة أكثر تعقيدًا من أن تُختصر في اسم أو مؤسسة. فالمأساة التي نعيشها اليوم ليست من صنع يد واحدة، بل هي نتيجة تشابك مرير بين الحكومات، والشركات الكبرى، والأفراد أنفسهم. إنها مؤامرة غير مقصودة، لكنها واقعية وموثقة في كل زفير تخرجه الأرض وهي تحتضر.

الحكومات تتحمل نصيب الأسد من هذا العبء. هي من صاغت السياسات التي سمحت بتجريف الغابات، وهي من غضّت الطرف عن تلوث الأنهار والبحار، وهي من فضّلت الأرباح السريعة على الاستدامة البعيدة. كثير من الدول، خاصة تلك التي تسكن قمم الاقتصاد، رفعت شعارات البيئة في المؤتمرات، لكنها وقّعت صفقات الفحم والنفط خلف الكواليس. حكومات اختارت طريق الرفاه الاستهلاكي على حساب الأجيال القادمة، وبدل أن تكون حاميةً للموارد، تحولت في أحيان كثيرة إلى متواطئة في استنزافها.

أما الشركات الكبرى، فقصتها أكثر شراسة. تلك الكيانات العملاقة التي تحرك الاقتصاد العالمي، وجعلت من الأرض مجرد سلعة. مناجمها تبتلع الجبال، ومصانعها تلوث السماء، ومخلفاتها تشق طريقها إلى البحر وإلى أجسادنا. تدّعي الابتكار، لكنها في كثير من الأحيان تبتكر أساليب جديدة في التلويث وتضليل المستهلك. بعينها الساهرة على الأرباح، لم تتوقف لحظة لتتأمل الآثار الجانبية لما تصنعه. وهل يُنتظر من شركةٍ هدفها الأول هو الربح أن تعيد للغابة شجرتها، أو للمحيط صفاءه؟

لكن لنكن صرحاء حتى النهاية، فالمواطن العادي، أنا وأنت، لسنا خارج دائرة المسؤولية. كل سلوك استهلاكي زائد، كل منتج نشتريه دون حاجة، كل نفاية نرميها دون تفكير، هو طعنة صغيرة في جسد الأرض. نحن نشتري من الشركات، وننتخب الحكومات، ونشكل بأنماط حياتنا النمط العام لهذا العالم. حين نطلب الراحة السريعة، نصنع جشع السوق. وحين نغض الطرف عن السياسات الكارثية، نمنح الحكومات صكّ البراءة.

إذًا، المسؤولية جماعية. الكارثة لم تأتِ من فراغ، بل هي مرآة لأفعالنا جميعًا، كلٌّ من موقعه، وكلٌّ بوزنه. الحكومات أخطأت حين تقاعست عن القيادة. الشركات أجرمت حين تجاهلت البيئة في سعيها للثروة. ونحن، الأفراد، أسأنا حين عشنا دون وعي، واستهلكنا بلا حدود، ولم نعبأ بأن وراء كل قطعة بلاستيك، وكل رحلة جوية، وكل دقيقة من الإنارة الزائدة، هناك فاتورة تُدفع من عمر الأرض.

فمن يتحمل المسؤولية؟ الجميع، وبقدر ما تسبّب، عليه أن يصلح. لا أحد بمنأى عن الحساب، ولا أحد يستطيع النجاة وحده.

المسؤولية الجماعية والفردية:

المسؤولية، في هذا العصر المشحون بالتحولات المناخية والانهيارات البيئية، لم تعد رفاهية فكرية أو موضوعًا للتأمل الفلسفي، بل تحولت إلى نداءٍ عاجل يتردد صداه في كل ركن من أركان الكوكب. والمسؤولية هنا لا تعرف شكلًا واحدًا، ولا تقتصر على طرف دون آخر. إنها مسؤولية جماعية وفردية، متشابكة كشبكة عنكبوت، إن انقطعت إحدى خيوطها اختل توازن المنظومة بأكملها. فالخطر الذي نواجهه لم يعد مسألة نظرية، بل واقعًا نعيشه: جفافٌ يحاصر الحقول، أعاصير تقتلع المدن، وحرائق تلتهم الغابات كما تلتهم النار أوراق الخريف اليابسة.

المسؤولية الجماعية تبدأ من المؤسسات الكبرى، من الحكومات والشركات والمنظمات الدولية، حيث يُتخذ القرار، ويُرسم مستقبل الكوكب بخطوط عريضة على الورق. إنهم من يملكون الأدوات والتشريعات والميزانيات، وهم من يمكنهم قلب المعادلة إذا تحلّوا بالشجاعة السياسية والنية الصادقة. لكن هذه المسؤولية لا تُمارس فقط من خلف مكاتب السلطة، بل أيضًا من خلال بناء ثقافة عالمية تعترف بحقوق الطبيعة، وتربط بين السياسات الاقتصادية والاستدامة البيئية، وبين قرارات التنمية وعدالة الأجيال القادمة. الجماعة قادرة على أن تضع حدًا للتمادي، أن تخلق قوانين رادعة، أن تفرض ضرائب على التلوث، وأن تعيد توزيع الموارد بعدالة تجعل من حماية الأرض مصلحة عامة لا مجرد خيارٍ أخلاقي.

ولكن الجماعة، في نهاية المطاف، تتكون من أفراد. وهنا تأتي المسؤولية الفردية كعنصر لا يقل أهمية عن أي معاهدة دولية أو مؤتمر مناخي. الفرد هو من يختار كيف يستهلك، وماذا يشتري، وكيف يتعامل مع نفاياته، ومتى يقول “كفى” لهذا النمط المجنون من العيش. هل يحتاج فعلاً إلى خمسة أزواج من الأحذية؟ هل يدرك ما يتركه هاتفه الجديد من بصمة كربونية في جبال التعدين؟ هل يعيد التفكير في طريقة تنقله، في استهلاك الكهرباء، في كميات الطعام التي تُهدر من مطبخه؟ كل فعل صغير يتراكم. وكل قرار واعٍ ينقذ جزءًا من هذا الكوكب.

المسؤولية الجماعية تعطي الإطار، لكنها بلا المسؤولية الفردية تبقى حبرًا على ورق. والعكس صحيح، فحتى أنقى النوايا الفردية تُخنق إن كانت تُمارَس داخل منظومة تُكافئ التبذير وتُعاقب الترشيد. لهذا فإن الحل الحقيقي لا يمكن أن يُولد من جهة واحدة، بل من تضافر الإرادتين: أن يتحرّك الفرد كقطرة الندى، صافية ونقية، وتتحرك الجماعة كسحابة تحمل المطر المنتظر. حينها فقط، يمكن أن تعود الأرض إلى تنفسها، إلى توازنها، إلى حيويتها التي سُرقت منها على مدى قرون من الغفلة والجشع.

لو أن كل شخص راجع استهلاكه للكهرباء، والماء، والبلاستيك، هل كان سيحدث فرق؟

تخيّل لو أن كل شخص، دون استثناء، وقف أمام مرآته ذات صباح، لا ليمشط شعره أو يعدل هندامه، بل ليسأل نفسه سؤالًا واحدًا: هل أنا أعيش حقًا كما يجب؟ هل أستهلك ما أحتاج، أم أنني أُهدر بلا وعي؟ ماذا لو أن كل إنسان أعاد حساباته الصغيرة في استهلاك الكهرباء، والماء، والبلاستيك، وأدرك أن ما يعتبره تفصيلًا عابرًا في يومه، هو في الحقيقة خيط في نسيج الكارثة التي تتسع رقعتها كل يوم؟ لن يكون هذا التغيير لحظة خيالية أو حلمًا طوباويًا، بل ثورة صامتة تبدأ من أعماق كل بيت.

لو أن كل يد أغلقت المصباح حين غادرت الغرفة، وكل عقل تذكّر أن السخان لا يجب أن يشتغل طوال اليوم، وأن الأجهزة لا تُترك في وضع الاستعداد ليلًا، لأصبحت مدننا تلمع بنور الوعي بدلًا من وهج الإسراف. تخيّل الأرقام الهائلة التي يمكن توفيرها من الطاقة، لو تحوّلت عاداتنا اليومية إلى تصرفات مسؤولة. هذه الكمية من الكهرباء التي يعتقد البعض أن انقطاعها للحظة هو كارثة، قد تكون السبب في انقاذ كوكب بأكمله من كارثة حقيقية.

ثم الماء، هذا السائل السحري الذي جعل الله منه كل شيء حي، كم نُهدره بلا رحمة. الصنبور المفتوح أثناء غسل الأسنان، الاستحمام الطويل وكأننا نغتسل من خطايا الدنيا، غسيل السيارة وكأنها قطعة أثرية تستحق أن تُغمر بالدلال المائي كل يوم. لو أننا شعرنا بقدسية الماء، وتوقفنا لحظة واحدة لنفكر في ملايين الأطفال الذين يمشون أميالًا لجمع بضع لترات ملوثة، لارتجفت أيدينا خجلًا من تلك القطرات التي نتركها تهرب عبثًا في المجاري. كل نقطة نحافظ عليها، قد تُترجم يومًا إلى حياة.

أما البلاستيك، العدو الهادئ الذي يتسلل إلى طعامنا، وهوائنا، ومحيطاتنا، فقد آن الأوان أن نعلن عليه حربًا شعبيّة. لو أن كل شخص رفض استخدام الأكياس البلاستيكية لمجرد “راحة سريعة”، ولو أن كل واحد منا حمل زجاجته القابلة لإعادة الاستخدام، وقال لا للملاعق والشفاطات التي تُرمى بعد دقيقة، لكان البحر تنفس بعمق، ولعادت الأسماك تسبح بلا خطر. هذه المواد التي نستخدمها لثوانٍ، تبقى لعقود في أحشاء الأرض، تقاوم التحلل وكأنها ترفض أن تغادر ساحة الجريمة.

نعم، الفرق ممكن. بل إن الفرق يبدأ من هنا، من قلب الإنسان. لو أن الملايين أدركوا أن السلوك الفردي، مهما بدا صغيرًا، له القدرة على صناعة تحول جمعي مذهل، لصرنا نشهد عالمًا جديدًا يُبنى على أسس الوعي لا الفوضى، والاحترام لا الجشع. الأرض لا تطلب الكثير، هي فقط ترجونا أن ننتبه، أن نُقلل، أن نُعيد، أن نُفكر. وحين يتحول الوعي إلى عادة، والعادة إلى ثقافة، والثقافة إلى ضمير عالمي، حينها فقط يمكننا أن نقول إننا قد استحقينا العيش على هذه الأرض، لا كغزاة، بل كأبناءٍ صالحين يعرفون كيف يردّون الجميل.

هل الفقراء مسؤولون مثل الأغنياء؟ وهل الدول النامية تُلام مثل الصناعية؟

في ميزان العدالة البيئية، يبدو أن الكفة لا تتساوى، وأن اللوم لا ينبغي أن يُوزّع بعشوائية كما تُنثر الرياح الغبار. فحين يُطرح السؤال الحارق: هل الفقراء مسؤولون مثل الأغنياء؟ وهل تُلام الدول النامية كما تُلام الدول الصناعية؟ فإن الإجابة، لو نطق بها الضمير العالمي، لن تكون إلا بالنفي القاطع، مع تنهيدة مريرة تحمل كل الألم والظلم المتراكم.

الفقراء، أولئك الذين بالكاد يملكون قوت يومهم، لا يمكن أن يُطلب منهم تقنين استهلاكهم أو إعادة تدوير نفاياتهم أو التفكير في البصمة الكربونية التي يخلّفونها. كيف يُلام من لا يملك سوى مصباح يتيم، وثلاجة عتيقة، وصنبور ماء يتمنى ألا يجف؟ كيف نضع على كاهله مسؤولية انهيار مناخي ساهم فيه من يملك عشرات السيارات الفارهة، والطائرات الخاصة، والمصانع التي لا تنام؟ الفقير حين يستهلك، يفعل ذلك من باب النجاة، أما الغني، فكثيرًا ما يفعل من باب الترف.

ثم تأتي الدول النامية، تلك التي لا تزال تحاول الخروج من ظلال الاستعمار، ومن لعنة الديون، ومن فخ الفقر والجهل، فنتساءل: هل يمكن مساواتها بالدول الصناعية التي أحرقت الفحم لأكثر من قرن، وأقامت مجدها على حساب صحة الكوكب؟ الدول النامية بالكاد بدأت تسير في دروب التنمية، في حين أن نظيراتها المتقدمة استهلكت نصيبها ونصيب غيرها من الموارد، ثم جلست على مقعد المراقب، تشير بأصابع الاتهام وتلقي المحاضرات عن ضرورة خفض الانبعاثات.

الظلم لا يكون فقط في توزيع الثروات، بل في تحميل المسؤوليات أيضًا. العدالة تقتضي أن يتحمّل من لوّث أكثر، وامتلك أكثر، المسؤولية الأكبر. الأغنياء يستهلكون الموارد بمعدلات فلكية، ويساهمون في التلوث بنسبة لا تُقارن، ثم يتوقعون من الفقراء أن “يتصرفوا بمسؤولية”. الدول الصناعية ترفض التنازل عن أنماط حياتها الفاخرة، لكنها تطالب الآخرين بأن يدفعوا فاتورة العواقب البيئية.

ومع ذلك، فإن الفقراء والدول النامية ليسوا خارج اللعبة كليًا. صحيح أنهم لم يتسببوا في المشكلة، لكنهم سيكونون أكثر المتضررين، وأكثر من يدفع الثمن. ولهذا، فإن مشاركتهم في الحل ضرورية، لا من باب الاعتراف بالذنب، بل من باب الدفاع عن البقاء. ولكن على العالم أن يُراعي حجم الفجوة، وأن يقدّم الدعم، والتكنولوجيا، والعدالة المناخية، بدلًا من الخطاب الأخلاقي الفارغ.

ليست المسؤولية متساوية، ولا يجب أن تكون. فالميزان، إن كان عادلًا، لن يساوي بين من استهلك وأهدر، وبين من حاول أن يعيش ببساطة وسط عالم معقد.

المحور الخامس: المستقبل – هل ما زال في الإمكان تدارك الأمر؟

حين نُدير وجوهنا نحو الأفق، لا نراه صافياً كما كان في الصور القديمة، ولا مُضيئاً كما حلم به الشعراء والفلاسفة، بل نراه مشوباً بالضباب، تغلفه أسئلة ثقيلة كالسحب الرمادية: ماذا ينتظرنا هناك؟ هل ما زال في الإمكان أن نكتب فصلاً جديداً بلون الأمل؟ أم أن الحكاية وصلت إلى نهايتها، وصرنا أسرى لعالم نحترق فيه تدريجياً دون أن ننتبه؟

إن مستقبل الأرض لم يعد سؤالاً مؤجلاً، ولا ترفاً فلسفياً نتداوله على طاولات المؤتمرات. لقد صار طارئاً، صار صرخة، صار ضرورة عاجلة. تتسارع التحولات من حولنا على نحو يثير الذهول والقلق: فصول السنة تتداخل، مواسم المطر ترتبك، والأرض، تلك الأم الحنون، بدأت ترتجف تحت أقدامنا كأنها لم تعد تحتمل. ومع ذلك، رغم هذا المشهد الكارثي المتفاقم، تبقى نافذة الرجاء مواربة. لا تزال هناك فرصة، لكنها لا تُمنح مجاناً، بل تُنتزع بوعي وإرادة وتغيير جذري في نظرتنا لأنفسنا وللعالم.

الأرض ليست ضدنا، ولم تكن يوماً عدوّاً لنا. كل ما فعلته هو أنها عكست أفعالنا في مرآتها، فظهرت ملامح جشعنا واضحة، وخطايانا البيئية صارخة. لذلك، لا يمكن أن يكون الخلاص إلا من خلال العودة إلى أصل العلاقة: الاحترام، التكافل، الانسجام مع قوانينها لا كسرها. المستقبل ليس صدفة تنتظر أن تقع، بل مشروع يحتاج أن يُصاغ، ورؤية تحتاج أن تُبنى على أسس جديدة من العدل البيئي، والمساواة في الموارد، والتقنية النظيفة، والعقلانية في الاستهلاك.

السؤال إذن لم يعد: هل ما زال في الإمكان تدارك الأمر؟ بل أصبح: هل نحن مستعدون لتغيير أنفسنا بما يكفي لنستحق مستقبلاً أفضل؟ الجواب ليس في الكتب ولا في الأبحاث وحدها، بل في كل قرار نتخذه اليوم. في الطريقة التي نستخدم بها الماء، في نوع الطاقة التي نعتمدها، في نوع التعليم الذي نقدمه لأطفالنا، وفي القيم التي نغرسها في ضمائر الأجيال القادمة.

فالمستقبل ليس بعيداً… إنه يُكتب الآن.

نقطة تحول: هل وصلنا إلى نقطة اللاعودة؟ أم لا يزال لدينا فرصة للصلح مع الطبيعة؟

نقف اليوم عند مفترق طرق، تتقاطع فيه آهات الأرض مع أنفاس الإنسان الأخيرة في سعيه نحو “التقدّم”، لكن دون أن يدري إن كان هذا التقدّم يقوده إلى حياة أفضل، أم يدفعه بخطى واثقة نحو الهاوية. سؤال يلوح في الأفق مثل سحابة داكنة قبل العاصفة: هل بلغنا نقطة اللاعودة؟ هل تجاوزنا الخط الأحمر، حيث لا ينفع ندم ولا يجدي إصلاح؟ أم أن بصيص الأمل لا يزال يلوح في الأفق، ويمنحنا فرصة أخيرة لنمد يدنا إلى الطبيعة ونطلب الصفح؟

العلماء يحذّرون، والتقارير تتراكم، والجليد يذوب، والأعاصير تزداد عنفًا، لكن رغم كل هذا الجحيم البيئي المتصاعد، لا تزال هناك نافذة صغيرة مفتوحة نحو الخلاص. هي نافذة تضيق كل يوم، لكنها لم تُغلق تمامًا. الطبيعة، بطريقتها العجيبة التي لا تفهم سوى بلغة التوازن، لا تزال ترسل لنا إشارات متكررة، وكأنها تقول: إن اعترفتم بخطئكم، وإن عدّلتم مساركم، فإنني قد أغفر.

نقطة اللاعودة ليست لحظة زمنية جامدة، بل سلسلة قرارات نتّخذها كل يوم. نحن من نصنع هذه النقطة، ونحن من نقرر إن كنا سنعبرها أو نتوقف على الحافة. الأمر لا يتعلق فقط بانبعاثات الغازات، ولا بإزالة الغابات، ولا بارتفاع درجات الحرارة، بل بروح العلاقة التي تجمع الإنسان بكوكبه. إنها علاقة انهارت حين قرر الإنسان أن يتصرّف كمالك لا كساكن، كآمر لا كشريك، كجشع لا كراعٍ أمين.

لا يزال في الإمكان أن نتراجع. لا تزال هناك فرصة، وإن كانت تضيق كعين إبرة، لنحمل لواء الصلح مع الأرض. ليس ذلك بالأمر السهل، ولا السريع، ولكنه ليس مستحيلًا. يمكن أن تبدأ الرحلة من قرارات بسيطة: تقنين الاستهلاك، احترام الطبيعة، الاستثمار في الطاقة النظيفة، تعليم الأجيال الجديدة أن الجمال ليس في ناطحات السحاب بل في الأشجار التي تعانق السماء، وفي الأنهار التي تنساب دون تلوث، وفي الهواء الذي يُستنشق دون خوف.

هذه لحظة فاصلة في تاريخ البشرية. إما أن نكون، فنكون حماة الأرض وسدنتها، أو نمضي في طريق الفناء، نغني أغنية التقدم على أنقاض الكوكب. والخيار، كما كان دومًا، لا تملكه الطبيعة… بل نحن من نملكه.

آفاق الحل: إعادة النظر في النموذج الاقتصادي العالمي.

ربما لم يكن الخلل في استغلال الإنسان لموارد الأرض فقط، بل في الفكرة التي انطلق منها هذا الاستغلال ذاته. إن النموذج الاقتصادي العالمي الذي تحكم في مسارات الحضارة الحديثة لم يُبنَ على التوازن، بل على الهيمنة. لم يقم على الكفاية، بل على التكديس. لم يكن هدفه تحقيق الرفاه للبشرية جمعاء، بل تضخيم الأرباح لدى قلة على حساب الكثرة، وعلى حساب الطبيعة ذاتها. وهنا يكمن أصل الجرح المفتوح الذي تنزف منه الأرض بلا توقف.

لقد شُيّدت دعائم هذا النموذج على استنزاف لا يعرف رحمة، واستهلاك لا يعرف حدودًا. اقتصاد يقوم على تسليع كل شيء: الشجر، والهواء، والماء، وحتى البشر. كل شيء له ثمن، وكل شيء يُستهلك حتى آخر ذرة. لا وقت للراحة، ولا مجال للاستدامة، ولا مكان للصوت الداخلي الذي يطالب بالاعتدال والعدالة والرحمة. ومن تحت هذه العجلة اللاهثة، سُحقت القيم، وتراجعت الحكمة، وتحولت الطبيعة إلى مخزن ضخم يُنهب صباحًا ومساءً تحت شعار “النمو” و”التقدم”.

ولكن ماذا جلب هذا “التقدم”؟ بيئة مشوهة، تغير مناخي، تدهور تنوع بيولوجي، تفاوت طبقي صارخ، وتنامٍ مرعب في ثروات أقلية صغيرة تقابله مجاعات وحرائق وجفاف واحتباس حراري يعصف بالجنوب العالمي أولًا، ثم يهدد الجميع.

اليوم، أكثر من أي وقت مضى، آن الأوان لإعادة النظر في هذا النموذج. لا من باب المراجعة النظرية، بل من باب النجاة. لقد ثبت أن الاقتصاد القائم على الاستهلاك اللامحدود والتوسع الصناعي الأعمى لا يمكن أن يستمر. نحن بحاجة إلى اقتصاد أخلاقي، بيئي، إنساني. اقتصاد يضع الاستدامة في صميمه، ويعيد توزيع الثروة بإنصاف، ويستثمر في الطاقة النظيفة، ويعيد الاعتبار للزراعة المحلية، ويكفّ عن تحويل الكوكب إلى مسرح لتجار الحروب والمضاربات والمصانع التي تُنتج أكثر مما يحتاجه البشر، ثم تلقي بالفائض في المحيطات والأنهار.

ربما لم نعد نملك ترف التأجيل. فإعادة التفكير في نموذجنا الاقتصادي ليست خيارًا، بل ضرورة وجودية. علينا أن ننتقل من منطق الربح الأقصى إلى منطق الحياة المتوازنة، ومن جنون الأسواق إلى منطق البقاء. فإما أن نغيّر هذا النموذج الجائر، أو نُدفع جميعًا إلى مصير محتوم لا يفرق بين غني وفقير، بين شمال وجنوب، بين من تسبب ومن لم يكن له يد. الأرض لم تعد تتحمل. والإنسان كذلك.

الاستثمار الحقيقي في الطاقة المتجددة.

ربما لم يعد الحديث عن الطاقة المتجددة رفاهية بيئية أو حلمًا أخضر يلوّح به الناشطون في المؤتمرات، بل أصبح ضرورة وجودية تمسّ حياة كل إنسان على هذا الكوكب. ففي زمن يئن فيه الغلاف الجوي من غازات الاحتباس الحراري، وتذوب فيه الثلوج قبل أوانها، وتجف الأنهار في قلب المواسم، ويُختنق الهواء في المدن الكبرى، يطلّ الاستثمار في الطاقة المتجددة كطوق نجاة حقيقي، كنافذة أمل لمستقبل أكثر توازنًا ورحمة.

إن الشمس تشرق كل يوم، بسخاء لا ينضب، والرياح تهب في السهول والجبال، والأنهار لا تزال تنحدر من أعالي الجبال بقوة وطاقة لا تتوقف. هذه الموارد، التي كانت يومًا تُهمل أو تُعتبر زخرفة طبيعية، هي اليوم كنوز الأرض الحقيقية. إنها الطاقة التي لا تُدمر ولا تقتل، لا تلوّث السماء ولا تنفث السموم، لا تسفك دمًا من أجلها ولا تُشن الحروب للسيطرة عليها. فلماذا لا نراهن عليها بكل ما نملك من عقل وإرادة وإبداع؟

الاستثمار في الطاقة المتجددة ليس مجرد إنشاء مزارع شمسية أو تركيب توربينات هوائية. إنه مشروع حضاري يعيد رسم العلاقة بين الإنسان والطبيعة. إنه تحوّل في المفهوم، من ثقافة الاستخراج والنهب إلى ثقافة التعايش والتوازن. فحين توجّه دولة ميزانيتها لتطوير تقنيات الطاقة الشمسية، أو حين تختار شركة عملاقة أن تتحول إلى إنتاج طاقة نظيفة بدلًا من الوقود الأحفوري، فإنها لا تغير فقط مصادر طاقتها، بل تعلن انتماءً جديدًا إلى المستقبل.

وليس هذا الاستثمار مجديًا فقط بيئيًا، بل اقتصاديًا أيضًا. فكل دراسة تشير إلى أن الطاقات المتجددة تخلق وظائف أكثر، وتقلل من تكاليف الصحة العامة الناتجة عن التلوث، وتُنعش الاقتصادات المحلية، خاصة في المناطق الريفية التي لطالما كانت على هامش التنمية. إن مزارع الطاقة الشمسية في الصحراء الكبرى قد تكون يومًا مصدر طاقة لنصف القارة، وإن مشروعًا مائيًا مستدامًا قد يضيء قرية منسية بلا حاجة لآبار النفط أو شاحنات الفحم.

لكن التحدي لا يكمن في التكنولوجيا، فهي باتت متوفرة ومتقدمة. التحدي الحقيقي يكمن في الإرادة، في القرار السياسي، في كسر تحالفات المصالح القديمة، في الخروج من دائرة شركات النفط العملاقة، واحتكارات الطاقة الأحفورية التي ترفض أن تترجل عن عرشها الملوث. لقد حان الوقت لأن يُوجَّه المال حيث يجب، أن تُدعم الأبحاث في الطاقة النظيفة لا في تسليح الأرض، وأن يُعامل الاستثمار الأخضر على أنه مشروع بقاء لا مغامرة اقتصادية.

إن الاستثمار الحقيقي في الطاقة المتجددة ليس فقط مسألة حسابات، بل مسألة أخلاق. هو تعبير صادق عن احترام الحياة، عن رغبة في الإصلاح، عن صلح نمدّ فيه أيدينا إلى الطبيعة ونقول لها: كفانا ما فعلنا، دعينا نبدأ من جديد.

تغيير جذري في ثقافتنا الاستهلاكية.

لقد بات واضحًا اليوم أن المعركة من أجل البيئة لا يمكن كسبها فقط بالتقنيات والمشاريع الكبرى، بل تبدأ من داخل عقولنا ومن عمق عاداتنا اليومية. إن ثقافتنا الاستهلاكية، التي ترسخت عبر عقود من الترويج والإعلانات والنمو الاقتصادي الجامح، أصبحت واحدة من أخطر القنابل الموقوتة التي تهدد هذا الكوكب. فلا يكفي أن نزرع الأشجار ونركب الألواح الشمسية، إن لم نعد النظر في طريقة استهلاكنا لما تنتجه الأرض. فكل منتج نشتريه، وكل عبوة نفتحها، وكل جهاز نستبدله قبل عطله، هو جزء من سلسلة تؤذي الأرض دون أن ننتبه.

نحن لا نستهلك فقط الطعام أو الماء أو الطاقة، بل نستهلك الوقت، والموارد، والجهد، وحتى الحياة نفسها. أصبحنا نعيش في مجتمع لا يقدّر الأشياء إلا بمقدار ما يمكن التخلص منها بسهولة، ولا يقيس النجاح إلا بعدد المشتريات، ولا يربط السعادة إلا بكمية ما نملك لا بجودته أو ضرورته. وهكذا نشأت ثقافة “الشراء إذن أنا موجود”، وتحولت الأسواق إلى معابد حديثة تُعبد فيها العلامات التجارية، وتُنسى فيها الحدود بين الحاجة والرغبة، بين الكفاية والجشع.

إن التغيير الجذري المطلوب اليوم هو ثورة على هذا النمط الفكري والسلوكي. علينا أن نعيد تعريف مفاهيم مثل “الاكتفاء”، و”الرفاهية”، و”النجاح”، ليس بوصفها مظاهر استهلاك، بل بوصفها مظاهر وعي واستدامة. أن نتعلم أن شراء ملابس أكثر لا يعني أناقة أكثر، وأن تنقّلنا الدائم بين الأجهزة لا يعني ذكاءً رقميًا، وأن السفر المستمر بالطائرات لا يعني انفتاحًا، بل أحيانًا هروبًا من فراغ داخلي نملؤه بالماديات.

التغيير الجذري في الثقافة الاستهلاكية يعني أن نعود لنسأل أنفسنا قبل كل استهلاك: هل أحتاج حقًا لهذا؟ هل يمكن إصلاح ما أملك بدلًا من استبداله؟ هل يمكنني تقليل استهلاكي دون أن تنخفض جودة حياتي، بل لعلها ترتفع؟ إنها ثقافة جديدة تقوم على الاحترام: احترام الطبيعة، احترام الموارد، احترام الجهود البشرية التي تقف خلف كل منتج.

ولعل أجمل ما في هذا التغيير أنه لا يحتاج إلى قرارات سياسية كبرى، بل يبدأ من قرار فردي صغير، يتخذ كل صباح: أن أشرب من كوب زجاجي لا بلاستيكي، أن أمشي بدلًا من استخدام السيارة، أن أطفئ الأضواء في الغرفة الفارغة، أن أشتري أقل، وأحب أكثر. إنها أفعال تبدو بسيطة، لكنها تحمل في طيّاتها ثورة حقيقية، صامتة، لكنها عميقة، تُحدث فرقًا ليس فقط في بصمتنا الكربونية، بل في رؤيتنا للعالم ومكاننا فيه.

فإذا كنا قد أسرفنا في الاستهلاك حتى اقتربنا من استهلاك كوكب بأكمله، فربما آن الأوان أن نستهلك أقل، لنعيش أكثر.

تبني فلسفة العيش بانسجام مع الأرض

في عالمٍ أرهقته السرعة، وأغرقه الصخب، وتاهت فيه البوصلة بين الاستهلاك والجشع والتملك، تبرز فلسفة “العيش بانسجام مع الأرض” كنداء خافت لكنه عميق، كهمسة قديمة قادمة من جذورنا الأولى، تلك التي كانت تعرف أن الحياة لا تزدهر إلا حين تعانق الطبيعة ولا تعاندها. ليست هذه الفلسفة شعارًا بيئيًا عابرًا، ولا نداءً رومانسياً للعودة إلى الماضي، بل هي دعوة جادة لإعادة ترتيب العلاقة بين الإنسان والأرض على أساس جديد: علاقة احترام، وتقدير، وتوازن.

أن نعيش بانسجام مع الأرض لا يعني أن نتخلى عن التكنولوجيا أو نعود إلى الكهوف، بل يعني أن نُخضع كل ما نبتكره ونستهلكه إلى ميزان العدالة البيئية، وألا نأخذ من الطبيعة أكثر مما تمنحه بسخاء، وألا نطغى حين نستطيع أن نرشد، وألا نُفقر التربة والهواء والماء حين نقدر على أن نحفظها ونمنحها فرصة للحياة من جديد. فالانسجام ليس توقفًا، بل تناغم، كرقصة بين طرفين يعرف كلٌ منهما حدوده ويحترم إيقاع الآخر.

في فلسفة الانسجام مع الأرض، يصبح الغذاء أكثر من مجرد طعام؛ إنه رابط مع التربة، مع الفصول، مع اليد التي زرعت، والمطر الذي سقى، والشمس التي أنضجت. ويغدو الماء أكثر من مورد؛ إنه روح تسري في عروقنا كما تسري في جذوع الأشجار، يجب أن نشربه بوعي، لا بلامبالاة. وتتحول الطاقة من أداة استهلاك إلى فرصة إنتاج واعٍ، نستمدها من الريح والشمس دون أن نسمم السماء أو نثقل الأنهار.

العيش بانسجام مع الأرض هو استيقاظ من سباتٍ طويل جعلنا نرى الأرض مجرد مخزن ننهب منه ما نشاء، دون حساب. إنه لحظة مصالحة بعد قرون من الصراع، نمد فيها أيدينا لا لنقتلع، بل لنزرع، لا لنبني مصانع الدخان، بل لنقيم حدائق الحياة. هي فلسفة تُعيدنا إلى الفطرة، وتعلمنا أن نعيش ببساطة، لكن بعمق، أن نستهلك أقل لنحيا أكثر، أن نمتلك أقل لنشعر بحرية أكبر، أن نترك الأثر الأخضر لا البصمة الكربونية.

في الانسجام، يعود الليل ليكون وقت سكون لا وقت إنارة زائدة، ويصبح المشي في الطبيعة طقسًا يوميًا لا ترفًا مؤقتًا. نفتح نوافذ بيوتنا لنسمح للشمس بالدخول، لا لنزيد التكييف. نحترم دورة الحياة، فنفصل نفاياتنا، نُصلح بدل أن نرمي، نشارك بدل أن نحتكر، ونتعلم أن القيمة ليست في كثرة ما نملك، بل في عمق ما نحياه.

هذه الفلسفة، إن تبنيناها بحق، لا تُنقذ الأرض فقط، بل تُنقذ أرواحنا من ضياعها في زحمة الماديات. هي مفتاح لبناء عالمٍ أكثر رحمة، أكثر عدلاً، وأكثر صمتًا في حضرة الجمال، عالم لا تئن فيه الأرض، بل تغني، ولا يطارد فيه الإنسان السيطرة، بل يسعى إلى الانسجام.

هل يئن الكوكب لأننا أضعناه؟ أم لأننا أضعنا أنفسنا في صخب المدنية الحديثة ونسينا من أين أتينا؟

ختاما ، هل يئن الكوكب لأنه ينزف من جراح التلوث، والاحتباس، والتصحر، وانقراض الحياة؟ أم أنه يئن لأننا أضعناه حين أضعنا أنفسنا؟ لعل أنينه ليس فقط صدى ما أحدثناه فيه من دمار، بل هو صدى لما خسرناه نحن أيضًا في هذا الركض المحموم نحو وهم التقدم. لقد فقد الإنسان بوصلته حين قايض الهدوء بالضجيج، والسكينة بالسرعة، والبساطة بالتكديس. نسينا الأرض التي حملتنا، والهواء الذي أحيانا، والماء الذي روى عروقنا، واستبدلنا كل هذا بأنظمة استهلاك لا تشبع، ومدنٍ لا تنام، وشاشاتٍ تعزلنا عن نبض الحياة الحقيقي.

لقد تحولنا من كائنات تعيش في تناغم مع الطبيعة إلى مخلوقات تتوهم السيطرة عليها، نعبد أدواتنا وننسى أرواحنا، نُشيد الأبراج ونُهمل الجذور. وفي زحمة الطرق السريعة والمراكز التجارية وناطحات السحاب، فقدنا تواصلنا مع الأرض، ومع أنفسنا، ومع ذلك الصوت العميق في داخلنا الذي كان يعرف كيف يصغي إلى هدير البحر، ونبض الغابة، وهمس الرياح.

فهل يئن الكوكب لأنه يحتضر؟ أم لأنه يبكينا؟ يبكي حالنا، ونحن نتخبط في سباقٍ نحو الفناء ونحن نظن أننا نُعلي البناء؟ هل هذه الأرض تنذرنا، أم تترجانا؟ لعلها لا تزال تنتظر، بصبر أمٍ مجروحة، عودة أبنائها إلى رشدهم، لعلها رغم كل ما فعلناه بها، لم تفقد رجاءها فينا، في أننا سنصحو، وسنتذكر.

وفي هذه اللحظة، لا بد أن نطرح السؤال الأكبر: إذا كانت الأرض تتألم، فهل نحن حقًا أحياء؟ وإذا استمرينا في إغماض أعيننا عن أنينها، فهل نستحق أن نحيا على ظهرها؟ لا بد أن نعترف، بجرأة وصدق، أن جراح الكوكب هي انعكاس لجراح الروح الإنسانية التي تاهت بين المظاهر، ونسيت جوهرها. ولعل بداية الشفاء لن تكون فقط في إعادة تدوير النفايات أو خفض الانبعاثات، بل في إعادة تدوير وعينا، وإحياء مشاعرنا تجاه الأرض التي كانت وما زالت بيتنا الأول، وربما الأخير.

فلنصغِ إلى الأنين، لا كأصوات مزعجة تُهدد روتيننا اليومي، بل كنداءٍ مقدس من كائن حي يحتضر… ومن روحٍ عاقلة تبحث عن نفسها بين أنقاض العصر. لعلنا لم نُفقد الأرض فقط، بل أضعنا أرواحنا معها، وحان وقت العودة.

🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى