تقارير

«القمح» تحت ضغط الأزمات العالمية والمناخية: كيف تواجه مصر تحدي تحقيق الأمن الغذائي؟

إعداد: د.محمد عبدالكريم عمارة

باحث بمعهد بحوث تكنولوجيا الأغذية – مركز البحوث الزراعية

يعد القمح أحد أهم المحاصيل الاستراتيجية في العالم، حيث يمثل مصدراً حيوياً للسعرات الحرارية والبروتين لملايين البشر، ويسهم بما يقدر بنحو 20% من إجمالي السعرات الحرارية والبروتين المستهلك عالمياً. يواجه الأمن الغذائي العالمي تحديات جسيمة في الآونة الأخيرة بسبب تغير المناخ والصراعات الدولية واختلال سلاسل التوريد، مما يستدعي تحليلاً متعمقاً لواقع القمح في مصر والعالم. وتسعى مصر لتحقيق الاكتفاء الذاتي على الرغم من التحديات المائية والجغرافية من خلال دراسة العوامل التي تؤثر على إنتاج القمح واستهلاكه وتوزيعه.

الأهمية الاستراتيجية للقمح في الأمن الغذائي العالمي

يُعتبر القمح عموداً فقرياً للأمن الغذائي العالمي، حيث يُعد المصدر الرئيسي للبروتين والسعرات الحرارية لما يقرب من 1.5 مليار شخص في العالم، بما في ذلك العديد من البلدان النامية. لا يقتصر دور القمح على توفير الغذاء الأساسي فحسب، بل يشكل أيضاً عنصراً حاسماً في الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي للعديد من الدول. تشير البيانات إلى أن القمح يساهم بحوالي 500 سعر حراري للفرد يومياً في الدول الرئيسية المستهلكة مثل الهند والصين، مما يجعله حجر الزاوية في مكافحة الجوع وسوء التغذية. وقد شهد الإنتاج العالمي للقمح نمواً مطرداً على مر السنين، مما يجعله أحد أكثر الحبوب إنتاجاً واستهلاكاً على مستوى العالم.

ومن ناحية التجارة الدولية، تهيمن ثماني دول رئيسية على صادرات القمح العالمي، وهي: روسيا، والاتحاد الأوروبي، وكندا، والولايات المتحدة، وأستراليا، وأوكرانيا، وكازاخستان، والأرجنتين. ومع ذلك، فإن النظام العالمي للقمح يواجه اختلالات عميقة بسبب مجموعة من العوامل المترابطة. فبالإضافة إلى التحديات المناخية، تسببت الصراعات الدولية كالحرب بين روسيا وأوكرانيا في اضطراب كبير في سلاسل التوريد العالمية، حيث كانت هذه الدول توفر مجتمعة حوالي 25% من صادرات القمح العالمية قبل الصراع. أدى هذا الاضطراب إلى ارتفاع حاد في الأسعار العالمية وانعدام الأمن الغذائي في العديد من البلدان التي تعتمد على الاستيراد، خاصة في أفريقيا والشرق الأوسط.

التحديات العالمية التي تواجه أمن القمح

تغير المناخ وتأثيره على الإنتاجية

يشكل تغير المناخ تهديداً وجودياً لإنتاج القمح العالمي. وفقاً لدراسة حديثة نُشرت في مجلة “نيتشر فوود” في مارس 2025، فإن الاحتباس الحراري يعرض أكثر من ثلث الإنتاج الغذائي العالمي للخطر، مع تعرض المناطق ذات خطوط العرض المنخفضة لأشد العواقب. يمكن أن تصبح نصف المساحات الزراعية في المناطق الاستوائية غير صالحة للإنتاج إذا استمرت درجات الحرارة في الارتفاع، مما يهدد الأمن الغذائي لملايين الأشخاص.

الصراعات والاضطرابات الجيوسياسية

إلى جانب تغير المناخ، تظل الصراعات الدولية عاملاً رئيسياً في تعطيل إنتاج وتجارة القمح. كانت للحرب الروسية الأوكرانية تأثيرات عميقة على سوق القمح العالمية، حيث كانت أوكرانيا توفر 9% من الإنتاج العالمي من القمح قبل الحرب. أدى تعطيل الشحنات من الموانئ الأوكرانية إلى ارتفاع حاد في الأسعار العالمية وإثارة مخاوف من نقص الإمدادات في البلدان الفقيرة المستوردة للغذاء.

وعلى مستوى التجارة، تواجه البلدان المنخفضة الدخل تحديات إضافية بسبب قيود التمويل ونقص العملة الصعبة، مما يعيق قدرتها على استيراد الاحتياجات الأساسية من القمح. على سبيل المثال، تواجه سوريا، التي شهدت انخفاضاً حاداً في إنتاج القمح بنسبة 40% بسبب الجفاف، صعوبات مالية في تأمين الواردات الكافية بسبب نقص السيولة والدعم الدولي المحدود.

السياسات والاستراتيجيات العالمية لتعزيز أمن القمح

الاتفاقيات الدولية والتعاون متعدد الأطراف

تم إنشاء عدة آليات دولية لتعزيز استقرار سوق القمح العالمي. تعد اتفاقية الحبوب الدولية واحدة من هذه الآليات، التي تعنى بتجارة الحبوب عبر العالم وتبادل المعلومات والتحليل والمشاورات حول سوق الحبوب وتطورات السياسات المتعلقة بها. وقعت على هذه الاتفاقية أكثر من 35 دولة، بما في ذلك كبار المنتجين والمستوردين. وتهدف الاتفاقية إلى تعزيز التعاون الدولي في جميع جوانب تجارة الحبوب، وتعزيز توسيع التجارة الدولية للحبوب، وتأمين أكبر تدفق ممكن لهذه التجارة، بما في ذلك إزالة الحواجز التجارية والممارسات غير العادلة والتمييزية. كما تلزم الاتفاقية الدول الموقعة بالمساهمة في استقرار أسواق الحبوب الدولية لصالح جميع الأعضاء، وتعزيز الأمن الغذائي العالمي.

الاستثمار في البحث والتطوير والابتكار

يمثل الاستثمار في البحث والتطوير عاملاً حاسماً لتعزيز إنتاجية القمح وجعله أكثر مقاومة للظروف المناخية من خلال استنباط أنواع من القمح تحتوي على مجموعة وراثية يمكنها تقديم صفات المقاومة للظروف المناخية القاسية والأمراض.

الواقع المصري للقمح والأمن الغذائي

ـ الإنتاج والاستهلاك والاستيراد في مصر

على الرغم من هذه الجهود، لا تزال مصر واحدة من أكبر مستوردي القمح في العالم، حيث تستورد ملايين الأطنان سنوياً لتلبية الاحتياجات المحلية المتزايدة بسبب النمو السكاني الكبير. وتعد من أفقر دول العالم من حيث الأمطار، وتعيش فيها أكثر من 100 مليون نسمة.

ـ التحديات التي تواجه مصر في مجال أمن القمح

تواجه مصر تحديات جسيمة في سعيها لتحقيق الأمن الغذائي المعتمد على القمح، يأتي في مقدمتها شح الموارد المائية. تعد مصر من أفقر دول العالم في تساقط الأمطار، وتعتمد بشكل شبه كلي على مياه نهر النيل، الذي يواجه ضغوطاً متزايدة بسبب سدود المنبع والتغيرات المناخية. بالإضافة إلى ذلك، فإن الزيادة السكانية المستمرة تمثل عبئاً ثقيلاً على الموارد الغذائية المحلية، حيث يضاف أكثر من 2 مليون مولود جديد كل عام، مما يزيد من الطلب على القمح ومنتجات الخبز.

ـ الاستراتيجيات المصرية لتعزيز أمن القمح

تبذل مصر جهوداً كبيرة لتعزيز إنتاجها المحلي من القمح وتقليل الاعتماد على الاستيراد. يأتي في مقدمة هذه الجهود مشروع “مستقبل مصر” العملاق، الذي يهدف إلى استصلاح مليون وخمسين ألف فدان من إجمالي 2.2 مليون فدان المساحة الإجمالية للدلتا الجديدة.

تركز استراتيجية مصر على عدة محاور رئيسية:

1ـ التوسع في استصلاح الأراضي، خاصة في مشروع الدلتا الجديدة ومحيط منطقة الضبعة، باستخدام التقنيات الحديثة في الري والزراعة.

2ـ دعم كبار وصغار المزارعين من خلال توفير البذور المحسنة والأسمدة والمعدات بأسعار مدعومة، وتشجيع القطاع الخاص على المشاركة في المشروعات الزراعية.

3ـ تحسين إنتاجية الوحدة الزراعية من خلال تبني أصناف عالية الإنتاجية ومقاومة للظروف المناخية الصعبة، وتحسين ممارسات الزراعة والحصاد.

4ـ تعزيز التخزين الاستراتيجي من خلال بناء صوامع جديدة لتقليل الفاقد من القمح، الذي كان يصل إلى نسب مرتفعة في السابق.

🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى