الصحة النباتية.. المعركة الصامتة بين الحياة والسموم

بقلم: أ.د.يوسف دوير
أستاذ كيمياء وسمية المبيدات بالمعمل المركزي للمبيدات – مركز البحوث الزراعية
في ظل تزايد المخاوف العالمية بشأن الأمن الغذائي وتغير المناخ، تبرز قضية الصحة النباتية كأحد أهم التحديات التي تواجه مستقبل الزراعة واستدامة الحياة على الأرض. فالنباتات ليست مجرد مصدر للغذاء، بل هي أساس التوازن البيئي والاقتصادي في العالم، وحمايتها تعني حماية الإنسان نفسه. ومع ذلك، تواجه النباتات حربًا صامتة ضد آفاتٍ وأمراضٍ لا تهدأ، في معركة يقف فيها المزارع بين خيارين متناقضين: استخدام المبيدات لحماية محصوله، أو المخاطرة بتلويث البيئة والإضرار بصحة المستهلك.
منذ منتصف القرن الماضي، شكّلت المبيدات ثورة في عالم الزراعة، إذ أنقذت المحاصيل من الدمار وساهمت في زيادة الإنتاج العالمي. غير أن الإفراط في استخدامها جعلها تتحول من وسيلة إنقاذ إلى مصدر خطر، إذ تسببت في تلوث التربة والمياه والهواء، وأدت إلى ظهور سلالات من الآفات مقاومة للمواد الكيميائية. كما تسربت بقايا المبيدات إلى الغذاء الذي يتناوله الإنسان يوميًا، لتتحول القضية من شأنٍ زراعي إلى مشكلة صحية وبيئية عالمية.
الصحة النباتية، في مفهومها الحديث، لا تعني مجرد مكافحة الآفات أو رش المبيدات، بل تشير إلى منظومة متكاملة تبدأ من اختيار البذور السليمة، مرورًا بإدارة التربة والري والتسميد بطرق آمنة، وصولًا إلى تداول المنتجات الزراعية بما يضمن خلوها من الملوثات. إنها عملية شاملة تهدف إلى إنتاج غذاء صحي وآمن يحافظ على البيئة والتنوع الحيوي.
وفي مواجهة مخاطر التلوث الكيميائي، ظهر مفهوم الإدارة المتكاملة للآفات ليشكل نقلة نوعية في الفكر الزراعي الحديث. فبدلًا من الاعتماد الكلي على المبيدات، يجمع هذا النهج بين المكافحة الحيوية باستخدام الأعداء الطبيعية للآفات، والممارسات الزراعية الذكية مثل تناوب المحاصيل، واستخدام المبيدات فقط عند الضرورة القصوى وبجرعات محسوبة. هذا التوجه لا يحمي النبات فحسب، بل يصون التوازن البيئي ويقلل من الأضرار التي تلحق بالكائنات النافعة مثل النحل والمفترسات الطبيعية.
وفي السنوات الأخيرة، دخلت التكنولوجيا بقوة إلى ساحة الزراعة، فباتت الطائرات المسيّرة (الدرون) وأنظمة الذكاء الاصطناعي تُستخدم لرصد الإصابات النباتية مبكرًا، وتحديد مواقعها بدقة، ورش كميات دقيقة من المبيدات في أماكن محددة فقط. كما تتجه البحوث العلمية نحو تطوير مبيدات حيوية ومستخلصات نباتية آمنة قادرة على مكافحة الآفات دون ترك آثار ضارة في البيئة. هذه الابتكارات تمثل خطوة مهمة نحو زراعة أكثر استدامة وأمانًا.
إن الطريق إلى الزراعة النظيفة ليس سهلًا، لكنه ضرورة حتمية. فالعالم اليوم بحاجة إلى مزارعين أكثر وعيًا، وعلماء أكثر التزامًا، وسياسات أكثر صرامة في مراقبة تداول واستخدام المبيدات. فكل رشّة زائدة قد تعني ضررًا طويل الأمد على التربة والمياه وصحة الإنسان.
في النهاية، تبقى الصحة النباتية قضية عالمية مشتركة تتقاطع فيها مصالح المزارعين والعلماء وصنّاع القرار والمستهلكين. فكل نبات سليم هو ضمانة لحياة أفضل، وكل استخدام مسؤول للمبيدات هو استثمار في مستقبلٍ أخضر وآمن. إنها معركة صامتة بين الحياة والسموم، لكن نتائجها ستحدد ملامح الغد: إما كوكب مزدهر يفيض بالحياة، أو بيئة منهكة تحصد ما زرعته بأيدينا.
🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.



