السيادة الدولية والسيادة البيئية
بقلم: أ.د.أشرف عمران
رئيس المجلس العربي للأمن المائي والغذائي والخبير الدولي في زراعات الهيدروبونيك والأكوابونيك
تغيّر المناخ يشكّل تهديدًا حقيقيًا للعالم، وللمنطقة العربية خاصة في البلاد الساحلية: تونس، الجزائر، ليبيا، المملكة المغربية، ودول الخليج بلا استثناء، ودلتا النيل في مصر. فسيصبح الحفاظ على المناخ والسيطرة على التلوث من مقومات الأمن القومي وضرورة للمستقبل لتفادي الأزمات.
والعمل الدائم على تحقيق بصمة كربونية جيدة يجب أن يصبح سلوكًا عامًا، وتصرفًا شائعًا بين الأفراد، ومنهجًا عند رسم السياسات لإقامة المشاريع، ودستورًا يتم تقنينه وتفعيله بالنسبة لسياسات الدول.
وكانت هناك شكوك في الأبحاث وبعض الاجتهادات حول منظومة التغيرات المناخية، هذا الرعب القادم الذي يغيّر جغرافية مناطق كثيرة من العالم، ويتغيّر معه خريطة إنتاج الغذاء عالميًا. وقد أصبح الآن واقعًا ملموسًا لا جدال فيه.
وتسببت الثورة الصناعية في رفع نسبة التلوث العالمي، وزادت أعداد المصانع وما يلزمها من الطاقة كمحرّك لمنظومة الاقتصاد، وما زال حتى الآن الاعتماد قائمًا على مصادر الطاقة الأحفورية.
(الفحم – النفط – الغاز) تشكّل 90٪ من الطاقة التي يُعتمد عليها، وللأسف فإن البصمة الكربونية الناتجة عنها عالية. على سبيل المثال، ينتج عن كيلو وات واحد من الفحم نحو 3 كيلوجرامات من الكربون.
ثم تأتي الطاقة النووية لتوليد الكهرباء، وتشكل 6٪ من الاعتماد على الطاقة عالميًا، تليها الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية (تشكل 2-3٪)، ثم طاقة الرياح (1٪)، وطاقة الهيدروجين (أقل من 1٪)، والطاقة الكهرومائية (أقل من 1٪)، أما طاقة البيوجاز فما زالت شبه معدومة، لذا فهي خارج الإحصائيات. وما زال الأمل معقودًا على التوسع في الطاقة البديلة.
ومن أهم الأسباب: زيادة عدد السكان، وما نوفّره لتلبية الاحتياجات مثل الغذاء والتنقّل؛ فتم استخدام الزراعة الكثيفة، والأسمدة بكميات كبيرة، واستهلاك المياه، وكل ذلك يؤدي إلى إنتاج ملوّثات سواء في الجو أو التربة أو المياه الجوفية. وأيضًا إنشاء مزارع مكثفة لتربية الحيوانات، وما ينتج عنها من غاز الميثان الذي يؤثر سلبًا على طبقة الأوزون. وهذا فضلًا عن السلوك الشخصي في نهج الحياة، وتختلف البصمة الكربونية من شخص لآخر حسب نمط الحياة، ويتأثر ذلك بمستوى الدخل القومي للفرد ومستوى الرفاهية ونسبة المخلفات المنتجة، والتي تتحول إلى المرادم أو مكبات المخلفات. ومع عدم تدويرها بصورة جيدة، يتسبب ذلك في تلوّث كبير.
ونسبة فاقد وهدر الطعام كل ذلك يفاقم أزمة الغذاء. فبحسب الإحصائيات، وصل المعدل العالمي لهدر وفقد الطعام إلى 135 كجم سنويًا للفرد الواحد، وفي بعض البلدان يتعدى 200 كجم سنويًا للفرد، أي يشكل 40-50٪ من الغذاء العالمي. وعند حساب البصمة الكربونية لما فُقد من الطعام، نجد أنها تُنتج غازات تسهم بنسبة كبيرة في تلوث المناخ.
إذا لم نُسرع في وضع الحلول، فسيتسارع تغيّر المناخ، مما يتسبب في ارتفاع درجات الحرارة وتغيّرات في التساقطات المطرية، وتمدد البحار، وارتفاع مستوى سطح البحر، وكل ذلك يؤثر على الأمان والاستقرار. فارتفاع درجات الحرارة يوازيه ارتفاع في مستوى سطح البحر بسبب (التمدد المائي في البحار + ذوبان الجليد في القارة القطبية)، وهذا الارتفاع يؤدي إلى تآكل السواحل، مما يسبب غمر المناطق الساحلية المنخفضة، ويؤدي إلى تملّح التربة وتسرب الأملاح إلى الآبار الجوفية، وارتفاع مستوى سطح المياه مع سوء عملية الصرف، فيؤثر ذلك على الزراعة بصفة عامة، أي أن تسرب مياه البحر المالحة إلى الخزانات الجوفية والتربة الساحلية يسبب ارتفاع مستوى الماء الأرضي، وتصبح المياه مالحة، وهذا يؤدي إلى خروج الأراضي من منظومة الزراعة.
كما أن ارتفاع مياه البحر يؤدي إلى تآكل الشواطئ وتهديد البنية التحتية، وغمر الطرق والموانئ والمنشآت الساحلية والمناطق السكنية، مثل المنتجعات ومحطات تحلية المياه ومحطات إنتاج الكهرباء بمياه البحر. كما يتسبب تغيّر المناخ في زيادة شدّة تساقط الأمطار الغزيرة، واختلال أنماط التساقط في بعض المناطق، مما يسبب فيضانات مفاجئة، وزيادة فترات الجفاف وشدتها في مناطق أخرى، وأيضًا عدم انتظام مواسم الأمطار، مما يهدد الزراعة البعلية وإدارة الموارد.
وما يهمنا هو الوضع في الدول العربية.
الآثار على مصر ودلتا النيل تُعدّ حالة حرجة، تؤدي إلى ضعف الدلتا، إذ إن دلتا النيل منخفضة عن سطح البحر (أقل من متر فوق سطح البحر في مناطق واسعة)، وتربتها طينية هشّة، مما يجعلها من أكثر المناطق المهددة بارتفاع مستوى البحر. تقديرات علمية تشير إلى أن ارتفاع البحر بمقدار متر واحد قد يغمر ما يصل إلى 16% إلى 30% من الدلتا، وهذه نظريات افتراضية، وكلمة “غمر” لا تعني الغرق، بل تشير إلى ضعف الإنتاجية وتقليل الاعتماد عليها. لذا، ناديت منذ عام 2007 بالعمل على إنشاء دلتا جديدة، وتم تحديد مكانها طبقًا للأبحاث والدراسات، في مناطق الاستقرار المناخي الواقعة بين خط عرض 23 شمال وجنوب خط الاستواء، وتشمل وسط وغرب إفريقيا، ومنها السودان وجنوب منطقة أسوان في مصر، وباقي أسوان ومنطقة الأقصر وقنا تقع في مدار 22 درجة.
وهذه مناطق الدلتا الجديدة أو الدلتا البديلة. وأنادي باستخدام الدلتا القديمة في استخدامات اقتصادية تدريجيًا، مع التأكيد على النسب والتناسب بين المساحات المعرضة للتملّح، رغم المجهودات التي تم بذلها مثل إنشاء مصدّات للأمواج وغيرها، حفاظًا قدر الإمكان، ولكن التملّح متسارع.
ورغم أننا نعتمد على مياه النيل في الري، فإن ارتفاع مستوى البحر يدفع المياه المالحة تحت الأرض (تسلل مياه البحر) لمسافات أكبر داخل اليابسة، مما يرفع منسوب المياه الأرضية المالحة ويجعل التربة غير صالحة للزراعة، حتى مع توافر مياه الري العذبة من النيل. وهنا، لكي تنتج أراضي الدلتا بصورة جيدة، يلزمها عملية غسيل من الأملاح، وتحتاج إلى زيادة معدل الري بمياه النيل، في حين أننا نواجه أزمة حقيقية في المياه. وحالنا كحال الدول الساحلية مثل بلاد المغرب العربي، تونس والجزائر، وخاصة المملكة المغربية لموقعها المميز، ولكونها تطل على ساحل البحر المتوسط والمحيط. فارتفاع مستوى البحار يؤدي إلى تدهور جودة الأراضي ذات الملوحة العالية، مما يقتل المحاصيل ويقلل الإنتاجية الزراعية بشكل كبير، ويهدد الأمن الغذائي.
تآكل الشواطئ الشمالية لمصر (خاصة الدلتا) يحدث بمعدلات متسارعة بسبب ارتفاع البحر وزيادة شدة العواصف. ولا بد من تشكيل هيئات لإدارة الأزمات والتدريب على إدارة الطوارئ، نتيجة عدم الحرص والتفعيل والتحصين بالكيانات الخضراء، بمعدلات زمنية تسبق أو توازي فوضى المناخ.
ستزداد الأعاصير في المنطقة العربية، ونتدارس بين (الواقع والمتوقّع)، والسبب في زيادة الظواهر المتطرفة هو الإهمال والتسارع في الاستمطار الصناعي، ونجني فوضى المناخ مثل العواصف المدارية والأعاصير (الاستوائية وشبه الاستوائية) والتأثيرات المتنوعة للأعاصير على البلاد كأمثلة، وليس على سبيل الحصر.
الأعاصير المدارية وتأثيرها على عُمان، اليمن، الإمارات، جنوب إيران، وأحياناً باكستان
ـ أعاصير البحر المتوسط: أعاصير صغيرة لكن شديدة الخطورة، تتكون في البحر المتوسط، وتجمع بين خصائص الأعاصير المدارية والعواصف المتوسطة. سبب ظهورها هو ارتفاع حرارة مياه المتوسط.
أحداث بارزة وخسائر كما حدث في عُمان واليمن:
ـ إعصار جونو (2007): خسائر بـ 4 مليارات دولار و50 قتيلاً.
ـ إعصار فيت (2010): فيضانات وخسائر مادية.
ـ إعصار شاهين (2020): أمطار غزيرة، فيضانات، أضرار بالبنية التحتية.
ليبيا (إعصار دانيال – سبتمبر 2023):
نتج عن إعصار متوسطي تطور فوق مياه دافئة بشكل غير طبيعي شرق المتوسط، وتسبب في خسائر كارثية. الأمطار الغزيرة (قد تصل إلى 414 ملم) تسببت في انهيار سدين رئيسيين:
ـ سد أبو منصور، أو ما يُطلق عليه أبو مانقور.
ـ سد البلاد (البيضاء).
إعصار دانيال تسبب في فيضان هائل اجتاح مدينة درنة ومحيطها، ودمر أحياءً كاملة. وكانت تقديرات الخسائر كبيرة في الأرواح: أكثر من 4300 قتيل وآلاف المفقودين (أرقام رسمية، أما التقديرات الحقيقية فقد تكون أعلى).
ـ الخسائر المادية: دمار شامل للبنية التحتية (طرق، جسور، مبانٍ)، وخسائر بالمليارات.
ـ الخسائر الإنسانية: تشريد عشرات الآلاف، مما أدى إلى أزمة إسكان وأزمات صحية بالطبع.
ما حدث في الإمارات (دبي) في أبريل 2024
أمطار تاريخية غزيرة (تجاوزت 250 ملم في أقل من 24 ساعة) تسببت في فيضانات مدمرة. السبب المباشر هو نظام منخفض جوي عميق تغذى على رطوبة عالية غير معتادة وحرارة بحر مرتفعة.
رغم ذلك، كانت الخسائر محدودة: غمر طرق، تعطيل مطار دبي الدولي، وأضرار قليلة بالممتلكات، مما يظهر قوة البنية التحتية وقدرتها على استيعاب أمطار بهذا الحجم المفاجئ، ويُحسب هذا النجاح للتخطيط والإدارة.
في مصر، من أقرب الأمثلة: الإسكندرية
شهدت أحداثًا متكررة حديثًا، وكان السبب تكرار سقوط أمطار غزيرة جدًا في فترات قصيرة، بسبب تغير أنماط الطقس وارتفاع حرارة البحر المتوسط. الأمطار تفوق قدرة شبكات الصرف الخاصة بالأمطار والسيول.
وبالطبع، شبكة صرف الأمطار والسيول منفصلة عن شبكة الصرف الصحي.
تسببت الأعاصير المفاجئة في آثار ضارة مثل: غرق الشوارع، تعطيل حركة المرور، تلف الممتلكات، وانهيارات جزئية في بعض المباني القديمة أو غير الآمنة، مما يسبب مخاطر على السكان.
ومع تكرار وتيرة وشدة هذه الأحداث نتيجة استمرار تغير المناخ، وخطر حدوث فيضانات مفاجئة أكثر تدميرًا أو أعاصير متوسطية تؤثر مباشرة على السواحل، فلا بد من إدارة جيدة للطوارئ، وعمل خطة لتعديل المصارف لتصريف المياه، وترميم المباني الآيلة للسقوط، ووضع خطة بديلة للتسكين المؤقت والجزئي حتى يُعاد بناء نفس الأحياء.
عند الحديث عن الإجراءات والاحتياطات المطلوبة، تتوزع المسؤولية على جميع الأطراف: الدولة، المؤسسات، والأفراد.
على مستوى الدولة:
ـ وضع خطة للتكيف مع ارتفاع البحر وأثره على دلتا مصر.
ـ تعزيز الحماية الساحلية (حواجز أمواج، أرصفة بحرية، تغذية شاطئية بالرمال، استصلاح الأراضي بطريقة ذكية توفر المياه وتزيد الإنتاج).
ـ الزراعة المائية، تربية الحيوان بطرق ذكية، تغذية تقلل انبعاث الميثان والأمونيا.
ـ إنشاء أنظمة صرف فعالة لمواجهة ملوحة التربة، تطوير محاصيل مقاومة للملوحة، تخطيط لإعادة توطين مجتمعات معرضة للغرق، تحديث خرائط الخطورة.
الدول المطلة على الخلجان (وليس الخليج فقط) مثل جزر المالديف تحتاج إلى استثمارات ضخمة في الحماية الساحلية، وإنشاء جزر اصطناعية، وتطوير بنية تحتية مرنة وخطط لمواجهة الأمطار الغزيرة والأعاصير.
خطة تطوير البنية التحتية تشمل:
ـ تحديث شبكات صرف الأمطار.
ـ تعزيز تصاميم الجسور والطرق.
ـ رفع معايير البناء لمقاومة الرياح الشديدة والأمطار الغزيرة.
ـ إنشاء أنظمة إنذار مبكر فعالة.
ـ آلية إدارة السدود والخزانات، التفتيش الدوري، وخطط طوارئ للإخلاء.
ـ قوانين تمنع البناء في أودية السيول ومناطق الفيضانات.
ـ الحفاظ على المساحات الخضراء لامتصاص المياه وثاني أكسيد الكربون.
خطة مواجهة ارتفاع الحرارة تشمل:
ـ استخدام مواد بناء عاكسة للحرارة، وتحديد نسب الواجهات الزجاجية بقانون.
ـ التشجير البيئي المدروس علميًا.
ـ إلزام المصانع بزراعة أنواع أشجار تمتص الغازات الملوثة بحسب نوع الملوث، أو دفع رسوم بيئية تُوجه لمشاريع تشجير.
ـ العمل على خفض الانبعاثات، التحول نحو الطاقة المتجددة، النقل المستدام، تحسين كفاءة الطاقة، وتحقيق بصمة كربونية جيدة.
ـ إصدار قوانين صارمة وتطبيقها دون تهاون.
على مستوى المؤسسات والشركات:
ـ تقييم مخاطر المناخ على الأصول والعمليات.
ـ تطوير خطط استمرارية العمل.
ـ تطبيق معايير بناء مرنة، والاستثمار في تدابير التكيف لحماية المرافق.
على مستوى الأفراد:
ـ نشر الوعي وفهم المخاطر البيئية.
ـ التدريب على التعامل مع مخاطر تغير المناخ (فيضان، حرارة، عاصفة).
ـ إعداد خطة إخلاء سريع، ونشر ثقافة الاستجابة.
ـ اتباع تعليمات السلطات أثناء الطوارئ وعدم المخاطرة.
ـ حماية الممتلكات، والاتجاه نحو التأمين ضد الكوارث (إن وجد).
ـ التعامل مع المباني القديمة (خاصة في الإسكندرية) بالتفتيش الدوري والتعزيز الهيكلي، ومعرفة نقاط الضعف ومخارج الطوارئ.
ومن الضروري إدراك أن تغير المناخ قادم لا محالة بسبب التلوث المتزايد رغم كل القوانين.
ومن المفترض أن تكون القوانين ملزمة لجميع الدول بلا استثناء، وتُرفق بعقوبات للدول المخالفة، لأن:
ـ السيادة الدولية تتعلق بالحدود (برية، بحرية، جوية).
ـ أما البيئة، فلا سيادة لها، فالتلوث ينتقل بلا حدود: ما تسببه دول الشمال يؤثر على الجنوب، وما تسببه دول الشرق يؤثر على الغرب.
لذلك، السيادة البيئية يحكمها قانون موحد واجب التنفيذ بلا استثناء، وإلا فسنواجه فوضى مناخية مستمرة، لن تنتهي أزماتها سواء في الغذاء أو الاستقرار أو الخسائر البشرية والمادية.
نحن جميعًا مسؤولون، وعلينا العمل الجاد بمنهج علمي وحضاري للخروج من “أزمنة الرماد” إلى مستقبل أخضر ومستدام.
🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.