الحوكمة الرشيدة: قلب التنمية المستدامة النابض

بقلم: د.شكرية المراكشي
الخبير الدولي في الزراعات البديلة ورئيس مجلس إدارة شركة مصر تونس للتنمية الزراعية
في المحور السياسي والحكومي، تتحول التنمية المستدامة إلى منظومة متكاملة من الإستراتيجيات والقوانين التي تعمل على تحقيق توازن دقيق بين البيئة والمجتمع والاقتصاد، بحيث يصبح دمج أهداف الاستدامة في الخطط الوطنية إعادة صياغة شاملة لأولويات الدولة، ليس فقط من أجل الحاضر، بل لضمان مستقبل متين للأجيال القادمة. فالتشريعات البيئية الرصينة تحمي صحة المواطن وتحافظ على جودة الحياة، بينما يفتح دعم الاقتصاد الأخضر أبوابًا واسعة أمام الاستثمار والابتكار في مجالات الطاقة النظيفة، وإعادة التدوير، والزراعة المستدامة، مما يخلق وظائف جديدة ويعزز القدرة التنافسية للدولة.
لكن الطريق ليس مفروشًا بالورود؛ فالفساد يلتهم الموارد ويقوض الثقة بين المواطن والحكومة، والبيروقراطية المترهلة تعرقل سرعة التنفيذ، وضعف التنسيق بين الوزارات يجعل الجهود متفرقة بدل أن تكون متكاملة. ومع ذلك، تبقى الفرص واعدة إذا ما تبنت الدولة الشفافية كنهج ثابت، وأقامت حوكمة رشيدة تعيد الانضباط للمسار التنموي، مع تعزيز التعاون الإقليمي والدولي لمواجهة التحديات العابرة للحدود، مثل تغير المناخ أو الأزمات الاقتصادية والصحية.
كما أن تبني السياسات التشاركية يمنح المواطنين مساحة للتأثير والمساهمة في صياغة القرارات، فيتحول مشروع التنمية من خطة حكومية إلى رؤية وطنية جامعة يشعر الجميع بملكيّتها. وهكذا تصبح الحكومة ليس فقط قائدًا يضع الإطار العام، بل شريكًا يمكّن المجتمع والقطاع الخاص من السير معًا نحو مستقبل شامل. وفي هذا المشهد، يظل هذا المحور هو القلب النابض للتنمية المستدامة؛ نبضه يعني تدفق الحياة في شرايين الوطن، وجموده يعني توقفها مهما كانت الجهود الفردية مخلصة.
أدماج أهداف التنمية في الخطط الوطنية، فرض تشريعات بيئية، دعم الاقتصاد الأخضر.
دمج أهداف التنمية في الخطط الوطنية ليس مجرد إضافة شعارات جميلة إلى وثائق الدولة، بل هو إعادة هندسة لأولوياتها بحيث تصبح الاستدامة بوصلة كل قرار ومشروع. حين تُصاغ السياسات بروح الاستدامة، تتحول الخطط الاقتصادية والاجتماعية والبيئية إلى مسار واحد متكامل، يوازن بين النمو والحفاظ على الموارد، وبين احتياجات الحاضر وحقوق المستقبل.
أما فرض التشريعات البيئية، فهو الدرع الواقي الذي يحمي المواطن والطبيعة معًا. ليست القوانين البيئية نصوصًا جامدة، بل هي خطوط حمراء تضع حدًا للتلوث والهدر، وتدفع الأفراد والشركات إلى التفكير في أثر أفعالهم قبل الإقدام عليها. هي رسالة واضحة أن صحة الإنسان ونقاء الهواء والماء والتربة ليست قابلة للمساومة أو التأجيل.
وفي قلب هذه المنظومة، يبرز دعم الاقتصاد الأخضر كجسر بين حماية البيئة وتحقيق النمو. إنه اقتصاد يرى في الطاقة الشمسية والرياح والزراعة العضوية وإعادة التدوير فرصًا للابتكار والربح، لا عبئًا على الخزينة. اقتصاد يخلق وظائف جديدة، ويجذب الاستثمارات، ويعطي مثالًا عمليًا على أن الاستدامة ليست عائقًا أمام التقدم، بل محرّكًا قويًا له.
وعندما تلتقي هذه العناصر الثلاثة في إطار وطني واحد، يصبح الطريق إلى تنمية شاملة أوضح وأكثر ثباتًا، حيث تنمو الدولة دون أن تستنزف مواردها، وتزدهر المجتمعات دون أن تفرّط في حق أبنائها في غدٍ صالح للحياة.
القرارات الحكومية تحدد الإطار العام الذي تتحرك فيه التنمية.
القرارات الحكومية تشبه الرياح التي تحدد اتجاه سفينة الوطن، فهي التي ترسم المسار وتحدد السرعة وتضع القواعد التي تحكم حركة الجميع. حين تصدر الحكومة قرارات رشيدة، فإنها تفتح الطرق أمام المبادرات، وتخلق بيئة تسمح للأفكار أن تتحول إلى مشاريع، وللخطط أن تتحول إلى واقع. هي الإطار الذي تتشكل داخله جهود الأفراد والمؤسسات، فإذا كان هذا الإطار متينًا وعادلًا ومرنًا، ازدهرت التنمية وتحركت بخطى واثقة نحو أهدافها.
لكن إذا جاء القرار مرتجلًا أو منفصلًا عن الواقع، فإنه يصبح قيدًا يكبّل الإمكانات بدل أن يطلقها. القرارات ليست مجرد نصوص على ورق، بل هي إشارات تبدأ منها حركة الاستثمار، ونبض العمل، وتوزيع الموارد، وتحديد الأولويات. فقرار واحد بفرض معايير بيئية صارمة قد يحمي أجيالًا كاملة من التلوث، وقرار بدعم قطاع معين قد يخلق فرص عمل تغير حياة آلاف الأسر.
وهكذا، فإن التنمية ليست مجرد جهد متفرق بين الوزارات والمجتمع والقطاع الخاص، بل هي حركة جماعية تحتاج إلى بوصلة واضحة، وهذه البوصلة تصنعها القرارات الحكومية. كل قرار سليم يضيف لبنة إلى صرح المستقبل، وكل قرار خاطئ قد يسحب من تحت هذا الصرح أساسًا بأكمله.
الفساد، البيروقراطية، ضعف التنسيق بين الوزارات.
الفساد هو الطين الذي يعلق بعجلات التنمية، يبطئ حركتها ويمتص مواردها قبل أن تصل إلى مستحقيها، فيتحول المشروع الكبير إلى صورة على ورق، والخطة الطموحة إلى حلم يتلاشى في دهاليز المصالح الشخصية. وحين يتغلغل الفساد في مفاصل الإدارة، ينهار جسر الثقة بين الدولة والمواطن، فيفقد الناس إيمانهم بأن الجهد والجدارة هما طريق النجاح.
أما البيروقراطية فهي المتاهة التي تتيه فيها الأفكار قبل أن ترى النور؛ إجراءات معقدة وأوراق لا تنتهي، وموافقات تنتقل من مكتب إلى آخر حتى يبهت الحماس ويتبخر الوقت. إنها الجدار الصامت الذي لا يعاديك علنًا، لكنه يعيقك في كل خطوة، فيجعل سرعة الإنجاز رهينة لأختام وتوقيعات أكثر من ارتباطها بالكفاءة أو الإبداع.
ويأتي ضعف التنسيق بين الوزارات كعزف نشاز في أوركسترا التنمية، حيث تعزف كل جهة لحنًا مختلفًا، فتتصادم الخطط بدل أن تتكامل، وتضيع الجهود في ازدواجية العمل أو تناقض القرارات. وحين يغيب الانسجام، يتحول العمل الحكومي من قوة دفع إلى قوة احتكاك، وتبقى الأهداف المشتركة معلقة بين النوايا والواقع.
هذه التحديات مجتمعة ليست مجرد عقبات عابرة، بل هي ثقوب في سفينة التنمية، لا يكفي أن نسير بسرعة إذا كانت المياه تتسرب من الداخل.
الشفافية، الحوكمة الرشيدة، التعاون الإقليمي والدولي.
الشفافية هي النور الذي يكشف الطريق، تزيح الضباب عن القرارات وتسمح للمواطن أن يرى كيف تُدار موارده وأين تُصرف جهوده، فحين تُفتح النوافذ أمام أعين الناس، ينكمش الفساد ويتراجع النفوذ الخفي، ويصبح الحوار بين الحكومة والشعب مبنيًّا على وضوح وثقة.
أما الحوكمة الرشيدة فهي البوصلة التي تمنع السفينة من الانحراف وسط أمواج المصالح المتضاربة، حيث تُدار الموارد بعقلانية، وتوزع المسؤوليات بعدالة، وتُقاس النتائج بمعايير واضحة لا بمجرد الوعود. إنها الإطار الذي يحول الإدارة من مجرد تسيير يومي إلى قيادة واعية تعرف كيف توازن بين الحاضر والمستقبل.
ويأتي التعاون الإقليمي والدولي كجسر يمتد فوق حدود الجغرافيا، ينقل الخبرات والتجارب والموارد، ويمنح الدول قدرة أكبر على مواجهة تحديات لا تعرف الحدود مثل تغيّر المناخ أو الأزمات الاقتصادية. ففي زمن تتشابك فيه المصائر، يصبح الانعزال مخاطرة، بينما يفتح التعاون آفاقًا أوسع للابتكار والنمو المشترك.
وعندما تجتمع الشفافية مع الحوكمة الرشيدة ويعززهما التعاون الإقليمي والدولي، تتحول التنمية المستدامة من شعار إلى منظومة حية، تتغذى على الثقة وتتقوى بالعمل الجماعي، وتفتح الباب لمستقبل تصنعه الشراكات لا القرارات المنفردة.
وهكذا، يتضح أن التنمية المستدامة ليست مجرد خطة اقتصادية أو مشروع بيئي، بل هي رؤية شاملة تمس كل جوانب الحياة، من الإنسان إلى البيئة، ومن السياسة إلى الاقتصاد. هي عقد اجتماعي وأخلاقي يربط الحاضر بالمستقبل، ويضع العدالة والمساواة في قلب كل قرار. نجاحها يتطلب وعيًا مجتمعيًا، وإرادة سياسية صادقة، وشراكات واسعة تتخطى حدود القطاعات والدول. فإذا التقت هذه العناصر في منظومة متناغمة، صار الطريق نحو مستقبل مزدهر أكثر وضوحًا، وصارت الأجيال القادمة وارثة لثمار الجهد لا لآثار الإهمال، فنترك لها كوكبًا صالحًا للعيش، ومجتمعًا قادرًا على الازدهار، واقتصادًا يوازن بين الربح والمسؤولية.
🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.



