الحل النهائي للقضاء على النيماتودا.. بين العلم والممارسة الميدانية

إعداد: أ.د.خالد فتحي سالم
أستاذ بقسم البيوتكنولوجيا النباتية بمعهد الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية جامعة مدينة السادات
رحم الله والدي وعالمنا الجليل الأستاذ الدكتور فتحي سالم، أستاذ علم النيماتولوجي بكلية الزراعة جامعة المنوفية، وأحد رواد هذا العلم في مصر والعالم العربي، الذي أسهم بعلمه وعطائه في حماية الزراعة المصرية من أخطر الآفات التي تهددها: النيماتودا.
كان الدكتور فتحي سالم – رحمه الله – صاحب مدرسة علمية متميزة خرّجت أجيالًا من الباحثين، وشارك في العديد من الندوات والمحاضرات بمركز النيل للإعلام ومديرية الزراعة بالمنوفية، كما أنشأ مختبر النيماتودا الذي لا يزال يخدم الباحثين والمزارعين حتى اليوم. فجزاه الله خير الجزاء، وجعل علمه وعمله في ميزان حسناته.
آفة صغيرة بأثر مدمر
تُعد النيماتودا من أخطر الآفات الزراعية التي تهدد الإنتاج الزراعي في مختلف البيئات، إذ تسبب خسائر فادحة قد تصل في بعض الأحيان إلى فقدان كامل للمحصول.
هي كائنات دقيقة مجهرية لا تُرى بالعين المجردة، تعيش في التربة وتتطفل على جذور النباتات، فتضعف امتصاصها للماء والعناصر الغذائية، مما يؤدي إلى اصفرار الأوراق وضعف النمو وانخفاض الإنتاجية.
تتغذى النيماتودا على العصارة النباتية من خلال اختراق خلايا الجذور، مسببة انتفاخات أو عقدًا جذرية مميزة. وتكمن خطورتها في قدرتها العالية على التكاثر والتخفي داخل التربة، مما يجعل مكافحتها تحديًا كبيرًا للمزارعين والباحثين على حد سواء.
أنواع النيماتودا الضارة
من أكثر الأنواع شيوعًا وانتشارًا نيماتودا تعقد الجذور (Root-knot nematodes) التي تصيب محاصيل الخضر والفاكهة مثل الطماطم، البطاطس، الفلفل، الخيار، والبطيخ.
وهناك أيضًا نيماتودا تقرح الجذور ونيماتودا تعفن الجذور ونيماتودا الأوراق والسيقان.
ويعتمد مدى الضرر الذي تسببه كل فصيلة على نوع النبات المصاب، وطبيعة التربة، والظروف البيئية السائدة، ما يجعل التشخيص الدقيق خطوة أساسية في أي خطة للمكافحة.
لماذا يصعب القضاء عليها؟
تكمن صعوبة القضاء على النيماتودا في طبيعتها البيولوجية؛ فهي تعيش داخل أنسجة الجذور أو في عمق التربة، مما يجعل وصول المبيدات إليها صعبًا للغاية.
كذلك فإن الاستخدام المفرط للمبيدات الكيميائية التقليدية أدى إلى فقدان فعاليتها في كثير من الحالات، فضلًا عن آثارها الجانبية على البيئة وصحة الإنسان.
كل ذلك دفع الباحثين والعلماء إلى البحث عن حلول بديلة آمنة ومستدامة تضمن القضاء على النيماتودا دون الإضرار بالتربة أو المحاصيل.
استراتيجيات المواجهة: من الوقاية إلى الإدارة المتكاملة
لقد أثبتت التجارب الميدانية أن الحل لا يكمن في وسيلة واحدة، بل في منظومة متكاملة من الإجراءات الزراعية والبيولوجية والبيئية يمكن من خلالها خفض أعداد النيماتودا إلى الحد الاقتصادي الآمن.
1. الدورة الزراعية (التناوب المحصولي)
تُعد من أقدم وأفضل الطرق الزراعية للحد من انتشار النيماتودا.
تعتمد على زراعة محاصيل غير عائلة للنيماتودا في الأراضي الملوثة لفترة زمنية محددة، ما يؤدي إلى حرمانها من العائل وموتها تدريجيًا.
فمثلًا يمكن التناوب بين محاصيل الخضر الحساسة (كالطماطم) ومحاصيل الحبوب غير الحساسة (كالذرة أو القمح).
2. التعقيم الشمسي للتربة
خلال أشهر الصيف، يتم تغطية التربة بالبلاستيك الشفاف بعد ريها جيدًا لمدة 4–6 أسابيع.
ترتفع درجة حرارة التربة إلى أكثر من 50 درجة مئوية، ما يؤدي إلى قتل يرقات النيماتودا وبيوضها، بالإضافة إلى الحد من انتشار الفطريات والبكتيريا الممرضة الأخرى.
3. استخدام الأسمدة العضوية والمستخلصات النباتية
الأسمدة العضوية المتخمرة (الكمبوست) تحسّن خصوبة التربة وتنشّط الكائنات الحية المفيدة التي تتغذى على النيماتودا أو تفرز مواد مثبطة لنموها.
كما أثبتت مستخلصات بعض النباتات مثل الثوم والقطيفة والقرنفل وأوراق النيم (Azadirachta indica) فعاليتها في خفض أعداد النيماتودا عند إضافتها إلى التربة أو استخدامها كمعاملة وقائية.
4. المكافحة الحيوية
تُعد من أحدث الاتجاهات وأكثرها أمانًا، وتعتمد على استخدام كائنات دقيقة نافعة مثل الفطريات والبكتيريا القادرة على مهاجمة النيماتودا.
من أهم هذه الكائنات:
ـ فطر Paecilomyces lilacinus الذي يهاجم بيوض النيماتودا.
ـ فطر Trichoderma spp. الذي يحفّز نمو الجذور ويمنع اختراق النيماتودا.
ـ بكتيريا Pasteuria penetrans التي تلتصق بجسم النيماتودا وتمنع تكاثرها.
هذه الكائنات تساهم في خلق توازن بيولوجي داخل التربة يقلل من فرصة إعادة الإصابة.
5. المبيدات الحيوية
المبيدات الحيوية أو (Bio-Nematicides) تُعد بديلاً واعدًا للمبيدات الكيميائية، إذ تُصنّع من مواد طبيعية أو من كائنات دقيقة نافعة.
تتميز بكونها آمنة وصديقة للبيئة، ولا تترك بقايا سامة في التربة أو المحاصيل، ما يجعلها عنصرًا أساسيًا في برامج الإدارة المتكاملة.
6. التحسين الوراثي للمحاصيل
شهدت السنوات الأخيرة تقدمًا كبيرًا في تطوير أصناف نباتية مقاومة للنيماتودا من خلال الانتخاب الوراثي أو الهندسة الوراثية.
فقد نجحت مراكز بحثية وشركات عالمية في استنباط سلالات من الطماطم والفاصوليا والبطاطس مقاومة لأنواع معينة من نيماتودا تعقد الجذور.
الإدارة المتكاملة… الطريق إلى الحل النهائي
إن ما يُعرف بـ”الإدارة المتكاملة للآفات” (IPM) هو الأسلوب الأنجح والأكثر واقعية في التعامل مع النيماتودا.
فهي لا تقوم على الإبادة الكاملة، بل على خفض أعدادها إلى مستويات غير ضارة اقتصاديًا مع الحفاظ على التوازن الحيوي للتربة.
يتحقق ذلك من خلال الجمع بين الأساليب السابقة بطريقة مدروسة تبدأ من:
ـ الفحص الدوري للتربة قبل الزراعة.
ـ اختيار أصناف مقاومة.
ـ تحسين الصرف والتهوية.
ـ الاعتماد على الأسمدة العضوية.
ـ استخدام المكافحة الحيوية والمبيدات الآمنة عند الحاجة فقط.
الموجز المختصر
نحو زراعة آمنة ومستدامة، إن “الحل النهائي” للنيماتودا ليس في مبيدٍ واحد أو معاملةٍ سحرية، بل في تغيير المفهوم الزراعي نحو إدارة شاملة للتربة والنبات.
فالتربة كائن حي يحتاج إلى الرعاية والتوازن، وحماية الجذور هي أولى خطوات النجاح في أي منظومة إنتاجية.
إن تبني استراتيجيات الإدارة المتكاملة وتطبيق نتائج الأبحاث العلمية على أرض الواقع يمثل الطريق الصحيح نحو زراعة نظيفة، قادرة على تحقيق الأمن الغذائي دون الإضرار بالبيئة أو صحة الإنسان.
رحم الله والدي العالم الجليل ورائد علم النيماتولوجي في مصر، الأستاذ الدكتور فتحي سالم، الذي أضاء بعلمه طريق الباحثين والمزارعين نحو فهم هذه الآفة ومكافحتها بوعيٍ علمي وضميرٍ وطني.
ويبقى إرثه العلمي شاهدًا على أن العلم هو السلاح الحقيقي في معركة الزراعة ضد الآفات.
🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.



