رأى

الحرب والمناخ: كيف تدمّر الأسلحة البيئة قبل الإنسان؟

بقلم: د.شكرية المراكشي

الخبير الدولي في الزراعات البديلة ورئيس مجلس إدارة شركة مصر تونس للتنمية الزراعية

في كل حربٍ، تُعلَن النهاية قبل أن تُسمع أول طلقة، قبل أن تسقط أول قنبلة، وقبل أن تُرفع راية الانتصار الزائفة على جثث المدن وأنقاض الأرواح. لكنها نهاية لا تُدوَّن في كتب التاريخ، ولا تُعرض في المؤتمرات، بل تُكتب بصمتٍ رهيب في جزيئات الهواء، في ذرات التربة، في نبض الأشجار التي أُحرقت قبل أن تُزهر، وفي صرخات الأنهار التي تلوّثت قبل أن تُروى. إنها نهاية لا يراها الإنسان إلا بعد فوات الأوان، حين يعجز عن التنفس دون أمراض، وحين تجف الحقول دون حصاد، وحين يتحول المطر إلى لعنة تحمل معها المعادن الثقيلة والرماد السام.

الحرب، وإن كانت صراعًا بين الجيوش، فهي في جوهرها معركة ضد الحياة ذاتها. فالطلقة التي تستهدف جنديًا، تصيب في طريقها سرب الطيور، وتربك مسار الرياح، وتبعثر التوازن الهش الذي بُني في الطبيعة عبر قرون. والقنبلة التي تُلقيها طائرة لا تسقط فقط على العدو، بل تُمزّق طبقات الغلاف الجوي، وتنفث في السماء سحابة من الغازات السامة، تظلّ عالقة لأيام، لأسابيع، ربما لسنوات. لا تنتهي الحرب عندما تُوقّع اتفاقيات السلام، بل تظلّ آثارها تُصارع في صمتٍ داخل الأرض، وتحت الماء، وفي أحشاء الغيوم.

كل دبابة تجتاح أرضًا، لا تُخلّف وراءها جراحًا سياسية فحسب، بل أيضًا تربة ملوثة بالوقود والمعادن الثقيلة. كل انفجار يخلق حفرة في قلب المدينة، ويُحدث صدعًا في النظام البيئي المتكامل، حيث تتفكك روابط الحياة كما تتفكك أجساد الضحايا. حتى الغابات لا تنجو من لهيب الكراهية؛ تُحرق عن عمد أو بالصدفة، وتتحول إلى رماد، وتتبخّر معها قدرة الكوكب على التنفّس.

ثم، بعد أن يصمت الرصاص، وتغادر الكاميرات، وتبدأ الدول بإعادة الإعمار، تظلّ البيئة تصرخ بلا صوت. الأنهار لا تنسى السموم التي سُكبت فيها، ولا البحر يطهر نفسه بسهولة من بقع النفط والدم. الهواء لا يعود نقيًا بكبسة زر، بل يحتفظ في صدره بكل ما لفظته الحرب من دخان ومعادن ومعاناة.

إنها مأساة من نوعٍ مختلف، لا تُقاس بعدد القتلى، بل بعدد الأشجار التي سقطت دون أن تُحصى، بالكائنات التي انقرضت دون أن تُذكر، بالمواسم الزراعية التي تعطّلت، وبالأطفال الذين سيكبرون في عالمٍ أقل خضرة، أقل نقاء، وأقل قدرة على احتضانهم.

الحرب لا تقتل الإنسان أولًا، بل تقتل كل ما يُبقي الإنسان حيًّا. إنها إعلان بطيء لنهاية الكوكب، بدايةً من جذوره الخضراء حتى سماواته الزرقاء. وإن لم نفهم ذلك الآن، فسنفهمه لاحقًا، حين نُدرك أن الرصاص لا يثقب الأجساد فقط، بل يثقب مستقبل الأرض ذاتها.

الحرب تقتل أولًا: الغلاف الجوي… الساحة الخفية للدمار

الهواء – ذاك العنصر الشفاف الذي لا نراه لكنه يسكن فينا – يتحول في زمن الحرب إلى ساحة معركة غير مرئية.
كل طلقة، كل تفجير، كل تحرك لآلية عسكرية، يُطلق كميات ضخمة من الغازات الدفيئة، وعلى رأسها ثاني أكسيد الكربون (CO₂)، بالإضافة إلى غازات أكثر فتكًا مثل الميثان وأكاسيد النيتروجين.

الطائرات المقاتلة، مثل الـF-35، تستهلك آلاف الليترات من الوقود في الساعة الواحدة، ما يطلق في الجو أطنانًا من الانبعاثات الحرارية، التي تساهم مباشرة في تسريع ظاهرة الاحتباس الحراري.
والأخطر من ذلك، أن الانفجارات العسكرية تطلق جسيمات دقيقة وسامة تدخل في طبقات الجو، وتؤثر على جودة الهواء الذي نستنشقه، مسببة أمراضًا تنفسية مزمنة.

الحرب لا تقتل الإنسان فقط، بل تبدأ بقتل ما هو أوسع منه وأرحب: الغلاف الجوي. نعم، تلك القشرة الرقيقة التي تحيط بكوكب الأرض، والتي تحفظ للحياة معناها، وللبيئة اتزانها، هي أولى ساحات الدمار التي لا تُرى بالعين المجردة، لكنها تنزف بصمت، في صمتٍ أشد قسوة من كل دويّ القنابل.

حين تُطلق القذائف، لا تنتهي آثارها بانفجارٍ على الأرض، بل يصعد دخانها عالياً، حاملاً معه مزيجاً ساماً من الجزيئات الدقيقة والمعادن الثقيلة وأكاسيد النيتروجين والكبريت والكربون، لتتغلغل في طبقات الجو وتعبث بنقاء الهواء. الحروب الحديثة، بأسلحتها الذكية والصواريخ بعيدة المدى، لم تعد تقتل في نطاق ضيق، بل أصبحت مصانع متنقلة للتلوث، تصب نفاياتها في الفضاء الجوي دون رقيب.

احتراق الوقود الأحفوري المستخدم في الآليات العسكرية يطلق كميات هائلة من ثاني أكسيد الكربون، فتساهم الحرب في تسريع التغير المناخي أكثر من العديد من الصناعات مجتمعة. الجيوش لا تزرع الأرض، لكنها تحرثها بالقنابل، وتجعلها عاجزة عن الحياة. ومثلما تفكك الحرب البنى التحتية للدول، تفكك الغلاف الجوي من الداخل، وتخلّ بتوازنه الكيميائي، ما يؤدي إلى تفاقم الاحتباس الحراري، واضطراب أنماط الطقس، وتكرار الكوارث المناخية.

والأدهى من ذلك، أن أماكن النزاع تصبح بؤراً مشتعلة لتسربات الوقود والغازات السامة من مخازن الأسلحة والمركبات المعطوبة، مما يضاعف من تلوث الهواء، ويحوّل المناطق المحيطة إلى عواصف كيميائية دائمة. حتى الرمال المتطايرة من القصف الجوي تحمل مواد مشعة أو سامة، تبقى عالقة في الهواء لأسابيع، وربما شهور، وتتنفسها الكائنات دون أن تدرك أنها تستنشق رماد الموت.

ثم هناك تلك القنابل المحرمة دوليًا، كالفسفور الأبيض واليورانيوم المنضب، التي لا تكتفي بقتل الجنود، بل تلوث الهواء بما يعجز الجسد عن مقاومته. وما لا يدركه كثيرون أن الغلاف الجوي، رغم امتداده الهائل، هشّ بشكل مخيف، ويمكن لعدد محدود من الانفجارات النووية أو الكيميائية أن يحدث فيه تغييرات كارثية تطال الكوكب بأسره.

وبينما تُكتب اتفاقيات السلام وتُرفع أعلام النصر، يبقى الغلاف الجوي مكلومًا، جريحًا، يحمل آثار الدمار لعقود قادمة. لا يشهد محاكمات الجنرالات، ولا يُدرج في تقارير حقوق الإنسان، لكنه الضحية الأولى التي تنهار بصمت. وهكذا، فإن الحرب ليست فقط شأنا بشريًا، بل فعل كوني، يهزّ التوازنات الطبيعية ويطلق العنان لفوضى كيميائية تفتك بما لا يُرى، لتبذر الموت في الهواء ذاته الذي نحيا به.   الحرب تقتل أولاً الغلاف الجوي، لأنها تزرع الفساد في أعلى طبقات الأرض، قبل أن ينزل رماده ليحرق من عليها.

ثانيًا: المياه… ضحية مسمومة

الحرب لا تكتفي بتعطيل الحياة فوق الأرض، بل تُلقي بسمومها في عروقها: الأنهار، والبحيرات، والمياه الجوفية.
الذخائر التي تحتوي على معادن ثقيلة مثل الرصاص واليورانيوم المنضب تترسّب في التربة، وتُغسل بفعل الأمطار، لتتسرب إلى المياه.

حين تندلع الحرب، لا تكون السماء وحدها هي التي تمطر نارًا، بل تنفتح الأرض أيضًا على جحيمها الخاص، وتبدأ عروقها – تلك الشرايين المائية التي تغذي الحياة – في النزف بصمت. الحرب لا تكتفي بإشعال الحرائق فوق السطح، بل تسحب معها السموم إلى الأعماق، تلوّث منابع البقاء، وتحوّل الماء من سرّ الحياة إلى ناقلٍ للموت البطيء.

في زمن السلم، تسير دورة المياه في تناغم هادئ مع الأرض، تغسلها وتمنحها الحياة. أما في زمن الحرب، فتصير المياه كائناً مريضاً، تنهشه المواد الكيميائية والمعادن السامة التي تفرزها القذائف والدبابات وأسلحة الفتك. كل رصاصة تنغرس في التربة، وكل قذيفة تتشظى، تترك وراءها ترسبات دقيقة من الموت، لا ترى بالعين المجردة، لكنها تتسلل مع المطر، وتندس بين طبقات الأرض، حتى تبلغ المياه الجوفية، وتبدأ دورة التسميم الصامتة.

ليست المياه بمعزل عن المجازر. فكما يُستهدف المدنيون، تُستهدف الآبار والينابيع، يُدمَّر ما تبقّى من شبكات توزيع، تُنسف المضخات، وتُغلق الصنابير. المياه النظيفة تتحوّل إلى سلعة نادرة، والصرف الصحي يفيض كالغضب، ويختلط بمصادر الشرب، في مشهدٍ يشبه يوم القيامة الصحية. لم يعد الخطر محصورًا في الرصاص أو الانفجارات، بل أصبح يقطر من كل قطرة ماء يرفعها طفل إلى فمه.

انظر إلى العراق بعد حرب الخليج، حيث تحوّلت مساحات شاسعة من الأرض إلى مختبرٍ مفتوح للتجارب النووية الصامتة. ذخائر اليورانيوم المنضب، التي تم الترويج لها باعتبارها “أكثر فاعلية”، كانت أشبه بلعنة طويلة الأمد. الأتربة التي امتصت بقايا القذائف، حملت الإشعاعات إلى الجوف، لتصبّها في الينابيع، وتُنهي حياةً لم تولد بعد. عقودٌ مرّت، وما زالت التقارير تكشف عن ارتفاع نسب السرطان، وتشوهات المواليد، وتلوّث المياه الجوفية بدرجات تفوق المسموح به بأضعاف.

وفي غزة، حيث القصف لا يهدأ، والبنى التحتية تُهدم بوحشية، تحوّلت المياه إلى همّ يومي. لا قدرة على معالجة الصرف الصحي، ولا إمكانيات لحماية الآبار، فالماء ذاته بات متورطًا في المعركة، لا نظيفًا بما يكفي للحياة، ولا نقيًا بما يكفي للغفران. تحالفت الحرب مع الجفاف والتلوث، لتخلق مشهدًا مائيًا مشوهًا، حيث الماء أقرب إلى السمّ، والصنبور أشبه بفخ.

حتى في السودان، حيث الأزمات مركبة، اندلعت الحرب فهرب الناس من القذائف، لكنهم اصطدموا بعطش لا يرحم. الآبار جُففت أو لُوِّثت، والأنهار لم تعد ملاذًا، بل صارت تنقل الجراثيم من مدينة لأخرى. لم يعد بالإمكان غسل الجراح، لأن الماء نفسه صار جرحًا.

الماء، الذي كان دومًا صورةً للنقاء والسكينة، لم يسلم من بصمة الحرب. تحوّل من طمأنينة إلى تهديد، من رمزٍ للسلام إلى حكاية ملوثة تُروى على لسان كل من عاش في أرضٍ مزقتها المعارك. إنه الموت بلا صوت، بلا لهب، لكنه أكثر قسوة، لأنه يتسلل إلى داخل الأجساد، ويقيم في خلاياها، ويُذكِّرها يومًا بعد يوم، أن الحرب لا تنتهي حين تتوقف المدافع، بل حين تُشفى ضحية مسمومة اسمها: الماء.

ثالثًا: الغابات والتربة… محارق خامدة

الحرب لا تبدأ من السماء ولا تنتهي عند الجدران، بل تلتهم ما هو أعمق وأكثر صمتًا: الجذور، والتربة، وجذوع الأشجار التي وقفت لقرون شاهدة على تقلبات الفصول، لا على حمم القنابل. عندما تندلع الحرب، لا تحتاج الغابات إلى نيران مباشرة كي تحترق؛ يكفي أن تمر جيوش على أرضها، أو أن تسقط قنابل في جوارها، حتى يبدأ النزف البطيء. الغابة لا تصرخ، لكنها تموت واقفة.

في فيتنام، حين أرادت الولايات المتحدة تجريد المقاومة من غطائها الطبيعي، لم تواجه الأشجار بالمنشار، بل بمادة كانت أكثر خيانة للطبيعة من أي شيء عرفته من قبل. “عامل البرتقال”، الاسم الذي يبدو خفيفًا كعصير الفواكه، كان في الحقيقة سائل الموت. ملايين الهكتارات من الغابات تبخّرت تحت هذا السم، وتركَ وراؤه أرضًا جرداء، وسكانًا مشوهين، وحياة نباتية استُؤصلت من جذورها. لم تكن تلك حربًا على بشر فقط، بل على فكرة الخضرة ذاتها، على الأشجار التي كانت توفر الظل، والمطر، والمأوى، والتوازن.

لكن في أفريقيا، الحرب تأخذ شكلاً آخر. ليست قنابل كيميائية، بل فقر ويأس ومخيمات تنمو كالأورام وسط الغابات. اللاجئون، الهاربون من الرصاص، يجدون في الأشجار حلًّا مؤقتًا للبرد والجوع. تُقطع الأشجار لبناء الأكواخ، تُحرَق للحصول على الدفء، وتُجتثّ دون خطة، دون بديل، دون ندم. ومع كل شجرة تسقط، يفقد الغطاء النباتي شيئًا من اتزانه، وتصبح الأرض مكشوفة لرياح التعرية، ثم للجفاف، ثم للزحف الصحراوي. الصحراء لا تحتاج إلى جيش لتنتصر، يكفي أن يغيب العقل، وأن تنشغل الأمم بالحرب.

والتربة… آه، التربة. تلك الكتلة الصامتة التي تحمل جذور الحياة، والتي لطالما اعتقدنا أنها مجرد تراب. في الحروب، تصبح التربة مسرحًا للجريمة. كل انفجار يحرثها بطريقة معكوسة، يقلب أعماقها إلى سطح، ويدفن خصوبتها في الأعماق. كل قذيفة تترك فيها شظايا معدنية، وكل دبابة تدكّها كأنها تزرع الموت. والدماء التي تسقيها لا ترويها، بل تلوثها، وتضيف إلى ملوحتها مواد لا تُرى لكنها تقتل كل بذرة أمل.

لم تعد الأرض تُنبت القمح، بل تُنبت الذكريات المرة. كل شبر منها مشبوه. كل حقل كان في الماضي أخضر، صار اليوم مليئًا بأجسام مدفونة مجهولة: ألغام لا تزال تتنفس تحت التربة، تنتظر الخطأ البشري. وكأن الحرب لم تشأ أن ترحل بصمت، بل قررت أن تترك وراءها أشباحها لتواصل الحصار حتى بعد الهدنة.

إنه الخراب الذي لا يُرى فورًا. خراب يتسلل بصبر، يتراكم عامًا بعد عام، حتى تصير الأرض غريبة عن نفسها، لا تعرف الأشجار التي تنبت عليها، ولا تستجيب للمطر كما كانت تفعل. هي الأرض ذاتها، نعم، لكن روحها ذُبحت على يد الحروب، ودفنت دون شاهد.

التربة التي كانت خصبة تُسقى بالدم، لا بالماء، وتُثقلها بقايا المتفجرات، فتصبح ملوثة وعقيمة، لا تُنبت إلا الخراب.

رابعًا: التلوث الكيماوي والبيولوجي… الموت البطيء

استخدام الأسلحة الكيماوية ليس مجرد انتهاك أخلاقي، بل كارثة بيئية مستدامة. الغازات مثل السارين والخردل لا تقتل فقط، بل تلوّث الهواء والتربة والماء لفترات طويلة.

الحرب لا تُطلِق الموت فقط عبر رصاصة مباشرة أو قنبلة تهدم بيتًا، بل تمتد يدها في الهواء، وتزرع سمومًا لا تُرى بالعين، لكنها تظل تفتك لعقود، بلا صوت ولا ضجيج. إنها حرب من نوع آخر، صامتة، متلصّصة، تنفذ إلى الرئتين مع كل شهيق، إلى الدم مع كل رشفة ماء، وإلى خلايا الأرض مع كل قطرة مطر.

عندما تُطلق قذيفة محمّلة بغاز السارين، لا تترك خلفها مجرد جثث ترتجف وتلفظ أنفاسها الأخيرة، بل تنفث في الهواء سمًا يعجز عن التبخّر. غاز الخردل، ذلك القاتل الخفي، يلتصق بالتربة كما يلتصق الألم بالجسد، يتسرّب إلى المياه، ويتحول إلى لعنة مستدامة على كل شكل من أشكال الحياة. إنه لا يكتفي بقتل من هم في مرماه، بل يترك أثره في كل نبتة، في كل قطرة، في كل جنين يولد بتشوّه، في كل شجرة تنبت مريضة.

حتى القنابل التي توصف بـ”التقليدية”، والتي تمرّ في نشرات الأخبار دون ضجة، ليست بريئة كما قد تبدو. كثير من هذه القذائف تحتوي على مركّبات مثل التولوين والنترات ومشتقات الزئبق والرصاص، وكلها مركّبات سامة لا تتحلل سريعًا، بل تبقى كامنة في التربة والمياه، كأنها توقّع مع الطبيعة معاهدة دمار بطيء. والكارثة تتضاعف حين يكون القصف عشوائيًا، بلا خرائط دقيقة، بلا تمييز بين هدف عسكري ومزرعة أو مجرى مائي.

في سوريا مثلًا، حيث تم استخدام السلاح الكيماوي أكثر من مرة، لم تكن الكارثة في عدد القتلى فقط، بل في بقاء التربة ملوثة لسنوات، في تلف المحاصيل، في هروب النحل وتناقص الكائنات الدقيقة التي كانت تحفظ توازن النظام البيئي. في غزة، حيث تتكرّر جولات القصف بلا رحمة، تشير تقارير محلية إلى أن التربة لم تعد تنتج بنفس القدرة، وأن آثار المعادن السامة بدأت تظهر في التحاليل الزراعية والمياه الجوفية. في السودان، حيث الحرب لم تهدأ يومًا، تجد التربة مثقلة ببقايا ذخائر قديمة، ومياه الآبار تتغير رائحتها وطعمها، ولا أحد يملك رفاهية التحقق من نسب التلوث فيها.

هكذا تتحول الحرب إلى سمّ زاحف، يتسلل عبر مسام الأرض، ويختبئ في ثنايا الطبيعة، لا يعلن نفسه صراحة، لكنه يفتك في الخفاء. لا تنتهي الحرب حين يُوقّع اتفاق سلام، بل تظل البيئة تُعاقب على ما لم ترتكبه. وحتى حين يعود البشر إلى بيوتهم، يعودون إلى أرض مريضة، وهواء ملوّث، وسماء لم تعد تمطر كما كانت. الموت هنا لا يأتي مرة واحدة… بل يأتي على دفعات، وببطء قاتل.

خامسًا: الخلل في التوازن البيئي والمناخي العام

الحرب تخلق فوضى في أنظمة الكوكب الطبيعية، وتُسرّع من التغيرات المناخية. في الوقت الذي يُفترض أن تتجه الدول إلى تقليل انبعاثاتها والتفكير في بدائل نظيفة، تنزف الحروب كل ما تبقى من توازن هش. نفقات التسليح تُنفق على صناعة الدمار بدلًا من علاج الكوكب. الدول التي تشعل الحروب تتجاهل أهداف المناخ، وتُفلت من أي مساءلة.

الحرب، بطبيعتها، لا تؤمن بالاتزان. إنها نقيض النظام، وعدوّ الاستقرار، وقاتلة الانسجام الذي تحتاجه الطبيعة لتتنفس. وحين تندلع، لا تعبأ بالقوانين الدولية ولا أهداف التنمية ولا اتفاقات المناخ، بل تمضي بعشوائية جارفة، تخلط بين السماء والأرض، وبين الغابات والمعامل، بين البشر والكائنات، فتُربك الدورة الكبرى لهذا الكوكب المنهك أصلًا.

في لحظة واحدة، يُشعل صاروخٌ واحد آلاف الأطنان من المواد الكيميائية، وتندلع حرائق تلتهم ما بناه الكربون في مئات السنين، وتنطلق في الهواء سحب سوداء من ثاني أكسيد الكربون والميثان وأكاسيد النيتروجين، لتغطي سماء المدن والغابات على حد سواء. هذه الغازات، التي تسعى الأمم إلى تقليصها بشتى الطرق، تُطلَق في الحروب بلا حساب، بلا تقارير، بلا حدود.

ولا يقف الدمار عند حدود الانبعاثات. كل دبابة تُصنع تستهلك معادن وطاقة تكفي لتشييد مئات المنازل الصديقة للبيئة. كل مقاتلة تُحلّق، تستهلك آلاف الليترات من الوقود، وتترك خلفها أثرًا كربونيًا لا يُمحى. مصانع الأسلحة، التي لا تخضع لأي اتفاق من اتفاقيات المناخ، تشتغل على مدار الساعة، وتطلق من الملوثات ما لا تجرؤ المصانع المدنية على الاقتراب منه. في أوكرانيا مثلًا، ومنذ بدء الحرب، تضاعفت الانبعاثات في بعض المناطق بشكل غير مسبوق، جرّاء تدمير البنية التحتية للطاقة، وحرق مستودعات الوقود، والانفجارات المتكررة.

وفي غزّة، وفي كل مرة تتكرر الهجمات، يُدمَّر قطاع الكهرباء، وتُحرق المحاصيل، وتُنسف أنظمة الصرف والمياه، فيُجبر الناس على استخدام بدائل خطرة، مثل المولدات التي تعمل بالديزل، فتعود الغازات السامة لتحاصر الأحياء من جديد. أما السودان، الذي يعاني أصلًا من تصحر مستمر وجفاف متزايد، فإن استمرار الصراع فيه يعني تراجع أي فرصة لبناء منظومة زراعية مستدامة، أو بنية تحتية قادرة على التكيف مع المناخ.

الخلل الأكبر أن هذه الحروب تُمارس في ظل صمت دولي مخجل، فالدول التي تشعلها هي نفسها التي تتصدر المؤتمرات البيئية، وتتحدث عن “الانتقال الأخضر” بينما تصدّر الأسلحة وتستثمر في صناعات الموت. لا أحد يحاسبها على تدمير البيئة في مناطق النزاع، ولا على تلويث المحيطات بالبارود، أو تلويث الهواء بدخان القنابل، أو إفقار الأرض من كل ما يجعلها قابلة للحياة.

في النهاية، الحرب لا تُسقط فقط أنظمة سياسية، بل تُسقط التوازن البيئي الهش، تُرجّ كفّة المناخ، وتدفع بالكوكب نحو فوضى أكبر مما يمكن إصلاحه. في وقت يُفترض فيه أن تتجه البشرية نحو الطاقة النظيفة والاقتصاد المستدام، تمضي الحروب في الاتجاه المعاكس، تسرّع من الانهيار، وتُسكت صوت العقل، لصالح الدخان، والخراب، والموت الطويل البطيء.

الأرض… الشاهد الذي لا ينسى

الحرب لا تنتهي بتوقيع اتفاقية. بل تبقى محفورة في ذاكرة الأرض، في تلوث لا يُرى، في نباتات لم تنمُ بعد، في أطفال وُلدوا يحملون أمراضًا من تربة ملوثة وهواء مسموم.وما نعتبره “انتصارًا” في الحرب، قد يكون بداية لهزيمة الكوكب نفسه.

الأرض لا تسامح، لكنها تُذكّرنا في كل جفاف، في كل فيضان، في كل عاصفة، بأننا تجاوزنا الخط الأحمر.
وبأن السلاح لا يقتل الإنسان فقط… بل يقتل ما يبقي الإنسان حيًا.

الحرب لا تنتهي حين يسكت الرصاص. لا تنتهي حين تُسحب الجيوش، أو حين تُرفع أعلام بيضاء. الحرب، في حقيقتها العميقة، تزرع نفسها في جسد الأرض كما تُزرع الشظايا في الجسد البشري؛ قد يتوقف النزف، لكن الألم يبقى، مزمنًا، صامتًا، ومتجددًا مع كل فجر جديد.

الأرض لا تُنسى. فهي لا تحتاج إلى صور تذكارية، ولا إلى أرشيفات، ولا إلى شهادات الناجين. كل بقعة ملوثة، كل شجرة محترقة، كل نبع جفّ، هو شهادة حيّة تُقدَّم بصمت، بلا محامٍ ولا قاضٍ، أمام وجدان البشرية. في أوكرانيا، حيث استحالت الحقول إلى ساحة معارك، لم تعد التربة صالحة لاحتضان البذور. آلاف الألغام والذخائر غير المنفجرة تختبئ بين المحاصيل السابقة، تُحوّل الزراعة إلى مقامرة بالحياة. أما في المناطق الملوثة بالنفط والمعادن، فقد لوحظ تراجع حاد في التنوع الحيوي، وهجرة جماعية للطيور والحشرات، كأن الطبيعة ترفض أن تشهد مزيدًا من الانتهاك.

في غزّة، حيث تتابُع القصف يحرم الأرض من فرصة الشفاء، تُقصف مزارع الزيتون التي بقيت تقاوم لعقود، ويُخلَط الغبار بالفسفور، وتُحرَق التربة حتى النخاع. لم تعد البيئة هناك ضحية جانبية، بل باتت هدفًا مباشرًا. المياه الجوفية تُستنزف، مياه الصرف الصحي تُصبّ في البحر، وشبكات الكهرباء المُدمّرة تجبر السكان على استخدام بدائل ملوثة، فيُضاف تلوث الهواء إلى لائحة طويلة من الكوارث.

أما السودان، فقصته أكثر مأسوية. الصراع المستمر يُشعل النار في ما تبقّى من غابات السافانا، ويُجبر آلاف العائلات على قطع الأشجار للبقاء، لتتحول الأراضي الخصبة إلى مناطق قاحلة. التغير المناخي، الذي كان بالفعل يتقدم ببطء، بات يركض هنا، بتسارع مخيف، تسبقه المجاعات وتتبعه موجات النزوح البيئي. وما خسرته الأرض السودانية لا يُقاس فقط بالمتر والطن، بل بما فقده السكان من أمل في غدٍ يمكن فيه للزرع أن يخرج دون خوف من رصاصة، أو حريق، أو جفاف مُتعمَّد.

وهكذا، يبقى الكوكب، كما لو كان كائنًا حيًا ذا ذاكرة مريرة، يسجل كل خرق وكل جريمة في مفكرته الطينية. لا يثور، لا يحتج، لكنه يرد. يرد بجفاف طويل، بفصول بلا مطر، بمحاصيل لا تنضج، بأوبئة لا تنام. الأرض لا تُعلن انتقامها، بل تُترجمه إلى كوارث “طبيعية” لا يفهمها إلا من أنصت جيدًا لصوتها وهي تئنّ من الأعماق.

وما نعدّه نصرًا في ساحات القتال، قد يكون خسارة فادحة في ميزان الحياة. لأن السلاح، حين ينتهي من البشر، يبدأ في اغتيال كل ما يُبقيهم أحياء: الهواء، والماء، والتربة، والشجرة، والظل. وهنا، يصبح النصر المزعوم، بذورًا لهزيمة كوكبية، ندفع ثمنها نحن، ومن بعدنا أجيال لم تختر الحروب، لكنها ستولد على أرضها المحترقة.

لا بد أن نتذكّر، أن الحرب لا تُمحى من الخرائط، بل تنطبع في قلب الأرض، كوشم لا يزول. وكلما توهمنا النسيان، أرسلت لنا الطبيعة رسائلها المؤلمة: فيضانات تغمر المدن، أعاصير تقتلع الجذور، حرائق تبتلع القارات. وكأنها تقول: كفى. لقد تجاوزتم الخطّ الأحمر.

وفي النهاية، لا نملك رفاهية الإنكار. وحدها الحقيقة تبقى: السلاح لا يقتل الإنسان فقط، بل يقتل أيضًا ما يُبقي الإنسان إنسانًا.

الغلاف الجوي… الساحة الخفية للدمار… لا ينسى

الهواء الذي نتنفسه يختنق مع كل قذيفة تُطلَق وكل طائرة تُحلّق.في أوكرانيا، تشير تقديرات مركز الطاقة والهواء النظيف (CREA) إلى أن الانبعاثات الناتجة عن الحرب في عامها الأول تجاوزت 120 مليون طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون.

في غزة، خلال العدوان الإسرائيلي المتواصل، استُهدفت البنية التحتية المدنية، وتسربت كميات كبيرة من المواد الكيماوية والبترولية إلى الهواء والتربة، نتيجة تفجير محطات توليد الكهرباء ومخازن الوقود.

الهواء، هذا العنصر الذي لا يُرى ولا يُمسك، لطالما اعتبرناه رمز الحياة، ومصدر الصفاء، ومساحة الحرية الوحيدة التي لا تخضع للجدران أو الحدود. لكنه لم يسلم من الحرب. بل أصبح، على نحو خفي ومأساوي، أحد ميادينها الأكثر خطورة ودموية. الهواء الذي يُفترض أن يكون نقياً، يُشوَّه كل ثانية بطلقات الرصاص، بانفجار القنابل، بصوت الطائرات المحلّقة والمقذوفات المنهمرة، كما لو أن كل ذرة أكسجين تُخنق تحت وطأة البارود.

في أوكرانيا، تحوّل الغلاف الجوي إلى مستودع كربون هائل، بفعل انفجارات لا تتوقف، وحرائق لا تُطفأ. في عامٍ واحد فقط، أطلق الصراع هناك أكثر من 120 مليون طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون، بحسب مركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف (CREA). هذا الرقم ليس مجرّد إحصائية، بل صرخة مكتومة من السماء نفسها؛ إذ يعادل ما تُطلقه دولة صناعية متقدمة مثل بلجيكا خلال عام كامل، دون أن نحتسب بعد الانبعاثات المستمرة من حرائق الغابات التي اندلعت جرّاء القصف، ومن تفجير آبار الغاز، وخزانات الوقود، ومحطات الطاقة التي تحوّلت إلى نيران لا تهدأ.

لكن الكارثة لا تقف عند الانبعاثات. فكل قنبلة تسقط على مصنع، وكل صاروخ يصيب منشأة كيميائية، يُفرج عن مركبات سامة ومعادن ثقيلة وعناصر مسرطنة، لا تنتهي بتفجّر اللهب، بل تبدأ رحلتها مع الرياح، تطوف فوق المدن، وتتوغل في الرئة البشرية، وتستقر في خلايا الأطفال والشيوخ على حد سواء. في المناطق الشرقية من أوكرانيا، حيث كان القصف الأعنف، تم تسجيل ارتفاع غير مسبوق في مستويات ثاني أكسيد النيتروجين والفورمالديهايد، وهي مركبات ترتبط بأمراض تنفسية مزمنة، بعضها لا يظهر إلا بعد سنوات، حين يصبح تفادي الكارثة مستحيلاً.

وفي غزة، المشهد أشد قسوة. ليست الطائرات وحدها ما يصنع الدمار، بل ما تخلّفه في الجو من غازات سامة وأبخرة خانقة. حين تُستهدف محطات الكهرباء ومخازن الوقود، لا تحترق فقط، بل تملأ السماء بدخان أسود كثيف يحمل في طياته مركبات عضوية متطايرة، ومواد كيماوية تُخلِف في الجو لعنة طويلة الأمد. رائحة الحرب هناك ليست فقط رائحة بارود، بل رائحة نفط محترق، وأسلاك متفحمة، ومركّبات ملوثة تُغلف كل نسمة هواء.

منظمات الصحة والبيئة حذّرت، وتصرخ في صمت، أن التعرض الطويل لهذه الملوثات لن يمرّ دون ثمن. فالهواء الذي يُستنشق في الليل والنهار ملوّث بدرجات لا تُحتمل، يملأ صدور الأطفال قبل أن يملأ رئات الجنود، يزرع البذور الخفية لأمراض قاتلة: سرطان الدم، أمراض الغدة الدرقية، تشوهات خلقية لا تُكتشف إلا عند الولادة، وربما بعدها بسنوات. إنها قنابل موقوتة، لكنها لا تُصدر صوتًا، بل تعمل بصمت قاتل، بطيء، وحتمي.

الغلاف الجوي، الذي لطالما اعتُبر ملكًا مشتركًا للإنسانية، لم يعد كذلك. أصبح ملكًا للخراب. لا تعترف الرياح بالحدود، ولا تنحاز في اتجاه. ما تلوّث في غزة يُمكن أن يعبر البحر، وما انفجر في أوكرانيا قد يُغيّر مناخات كاملة. وحتى من يظن نفسه بعيدًا عن ميادين المعارك، لا يعلم أنه يتنفس من نفس الغلاف المسموم.

الحرب، حين تخنق الهواء، لا تقتل اليوم فقط، بل تمهد لمستقبل مريض، هشّ، ومتداعٍ. وكأنها لا تكتفي بقتل الإنسان، بل تحرص على أن تُبقي العالم حيًّا بما يكفي ليتألم طويلًا.

المياه… ضحية مسمومة لا تملك صوتًا ولا درعًا …لا تنسى

حين تسقط القنابل، لا تتشقق فقط الجدران، بل تتلوث الأنهار، وتجف الآبار، وتتعفن الحياة. حين تُقصف المدن وتُنسف المباني، لا تصرخ الجدران وحدها، بل تصرخ الأنهار بصمت، ويئن البحر من داخله، وتتحول المياه من نعمة إلى لعنة، من شريان حياة إلى مجرى سموم. الحرب لا تُلوّث الدم وحده، بل تلوّث كل ما يسري في العروق — حتى الماء، ذاك العنصر الأول في خلق الحياة، يصبح أول من يُسحق حين تهطل القنابل بلا رحمة.

في أوكرانيا، عام 2023، لم يكن تدمير محطة كاخوفكا الهيدروكهربائية مجرد ضربة عسكرية، بل إعلانًا صريحًا عن دخول المياه في ساحة المعركة. آلاف الأطنان من المياه الملوثة اندفعت على امتداد الأنهار، تحمل معها بقايا الوقود، والزيوت الصناعية، والمواد الكيماوية. ملايين الأسماك نفقت فجأة، كما لو أن الحياة نفسها لفظت أنفاسها الأخيرة تحت الماء. الأراضي الزراعية التي اعتمدت لسنوات على تدفق النهر، جفّت، وتحوّلت إلى بقع رمادية بلا حياة، كأنها شهدت موتًا بطيئًا لا يرويه الإعلام. أما من عاشوا قرب مجرى النهر، فقد رأوا بأعينهم كيف تتحول المياه من مصدر رزق إلى تهديد بالسرطان والتسمم والموت.

وفي غزة، حيث لا وقت لمداواة الجراح القديمة قبل أن تُفتح جراح جديدة، الحرب لا تكتفي بقتل الإنسان، بل تُسكت حتى صرخته في البحر. القصف لا يُفرق بين شبكة مياه أو هدف عسكري. شبكات الصرف الصحي انهارت، والمواد الملوثة تسربت إلى البحر الأبيض المتوسط، لترحل بعيدًا عن غزة، حاملة معها تهديدًا بيئيًا عابرًا للحدود، لا يعترف بالسياسة ولا بالجغرافيا. البحر الذي كان ملاذًا للصيادين بات اليوم مصيدة للأمراض، والماء الذي يُفترض أن يروي العطش، بات سمًا يُباع في زجاجات.

وقد أعلنت الأونروا أن أكثر من 90% من مياه غزة غير صالحة للشرب. هذه ليست مجرد نسبة صادمة، بل إنذار عالٍ يُقرع في آذان الجميع، بأن ما يُرتكب ليس فقط إبادة بشرية، بل إبادة مائية، تجفف الحياة من أصلها. أطفال غزة لا يعرفون طعم الماء النقي، بل ينشأون وهم يظنون أن الماء الطبيعي يجب أن يكون معكّرًا، وممزوجًا بالمرارة.

أما السودان، فيكاد يكون المثال الحيّ على ما يحدث حين تترك الحرب شعبًا دون ماء ولا دواء. الاشتباكات في المدن الكبرى والقرى المترامية أدّت إلى تدمير متكرر لمحطات ضخ المياه، وانقطاع الإمدادات النقية، وغياب أي خطة طوارئ. نتيجة ذلك، تفشّت الكوليرا والتيفوئيد بسرعة مرعبة، كما لو أن المياه نفسها تحوّلت إلى ناقل رسمي للموت. لا مستشفيات تستقبل، ولا مياه تُنقّي، ولا دولة تملك أن تُداوي ما فتحت الحرب من جراح بيئية سامة.

الحرب تغيّر طعم الماء، ورائحته، ولونه. تزرع في كل قطرة احتمالًا للمرض، وتنزع من كل نبع بركته. وإذا كان الإنسان قادرًا على تحمل الجوع ليوم، فإن العطش لا يرحم. والكارثة الكبرى أن التلوث لا يزول بتوقف القتال. بل يبقى في جوف الأرض، وفي أعماق الأنهار، وفي خلايا من يشربون منه… يقتص ببطء، بصمت، وعلى المدى الطويل، من كل من شارك، وسكت، وتواطأ.  الماء… لم يعد رمزًا للنقاء، بل بات الشاهد الملوّث على قذارة الحروب.

 الغابات والتربة… الذاكرة المحروقة….لا تنسى بل  ايضا لا تنمو من جديد

الحرب تُزيل الغابات قبل أن تزيل الأعداء. الحرب لا تكتفي بقتل من يسير على الأرض، بل تمتد لقتل الأرض نفسها. الأشجار تُجتث، لا لشيء سوى لأنها وقفت على خط النار. الحقول تُحرَق، لا لأنها اختارت طرفًا في النزاع، بل لأنها كانت هناك. ما تُخلّفه الحرب ليس فقط خرابًا في البنى، بل تمزقًا في الذاكرة البيئية، في كل جذر كان يضرب عميقًا في التربة، في كل ورقة نبتت يومًا على أمل الغد، في كل حبة تراب كانت تستعد لاحتضان بذرة حياة.

في أوكرانيا، حيث كانت الغابات تشكّل غطاءً أخضر يلفّ الشرق في هدوء موسمي، جاء الدمار بصوت الصواريخ وأزيز الطائرات. تقارير وزارة البيئة الأوكرانية لا تُبالغ حين تؤكد أن أكثر من 30% من الغابات قد تعرضت للتلف أو الإزالة، فهي ليست مجرد إحصائيات، بل مرثية صامتة لأشجار كانت تُنبت الثمار وتصدّ الرياح وتحفظ التوازن. الحرائق الناتجة عن الغارات الجوية لا تُفرّق بين شجرة صنوبر وأُخرى بلوط. كلها تُحرق، وتتحوّل إلى رماد يُذَرّ فوق التلال. والأنكى من ذلك أن الأرض التي تئن تحت الألغام وبقايا الذخائر غير المنفجرة، أصبحت محرمة على الحياة. إعادة التشجير فيها لم تعد حلمًا مؤجَّلًا، بل خطرًا داهمًا، لأن كل خطوة على هذه الأرض قد تكون الأخيرة.

أما في غزة، فالحرب هناك لا تدمر فقط الحجر والشجر، بل تحرق ما هو أعمق: الجذور، الهوية، والكرامة. مزارع الزيتون التي كانت تمتد في الأفق كمفارش ذهبية، تحولت إلى رماد. حقول البرتقال التي كانت تفيض بعطر الطفولة، ذبلت تحت النيران. نخيل غزة، الذي قاوم الحصار والجفاف، سقط أخيرًا بصواريخ لا ترحم. ما دُمّر ليس فقط الغذاء، بل الذاكرة، والتاريخ، والمقاومة التي كُتبت على جذوع الأشجار بأيدي الأجداد. كل شجرة كانت تحمل اسمًا، حكاية، ذكرى — واليوم لم يتبقَ منها سوى أخاديد سوداء في التراب.

أما التربة، فقد خُدِشت بجراح لا تلتئم. السموم التي تسقط مع القذائف — من رصاص ونحاس وزئبق — لا تقتل على الفور، بل تعمل كسمٍّ بطيء، يتسرّب في جذور الأرض، ثم إلى جذور المحاصيل، ثم إلى دم الإنسان. سنوات ستمضي قبل أن تستعيد التربة خصوبتها، إن استعادت. ومع كل شتاء، تغسل الأمطار تلك المعادن الثقيلة إلى البحر، فتكمل دورة التسميم، لا تنتهي على اليابسة، بل تبدأ من جديد في مياه الشرب، في الأسماك، في رئة البيئة كلها.

الحرب تحرق الأشجار، وتسمم الأرض، وتقتلع الجذور. لكنها تفعل ما هو أدهى: تُطفئ روح المكان. تجعل من الغابة ساحة مهجورة، ومن الحقل مقبرة للنبات، ومن التربة صندوقًا أسود يروي قصة الخراب. ولا شيء يُبكى عليه أكثر من أرض لم تُمنح فرصة أن تُزهر.

الحروب الكيميائية والنووية المصغّرة  …… الموت الذي لا يُرى ولا يُنسى

الأسوأ ليس ما نراه، بل ما لا نراه.  ربما يكون الأسوأ في الحروب هو ذاك القاتل الخفي، الذي لا يُطلق صرخة، ولا يُحدث ضجيجًا، لكنه يتسلّل كالشبح، ويستوطن الجسد في صمت قاتل. إنه الدمار الذي لا نلمسه بأيدينا، بل تشعر به الرئتان، ويشخصه الأطباء بعد فوات الأوان.

في بعض مناطق السودان وأوكرانيا، لا تقتصر الحرب على صواريخ ومدافع، بل تستخدم ذخائر تحتوي على اليورانيوم المنضب، وهي ليست مجرد سلاح عسكري بل لعنة إشعاعية طويلة الأجل. هذه المادة، التي تبدو للعين مجرد رماد حربي، تبقى نشطة في التربة والهواء والمياه لعشرات القرون. تتحول الحقول التي سقطت عليها هذه الذخائر إلى أراضٍ مشعة، لا تُنبت إلا المرض. الأرض تفقد براءتها، والنبات يفقد نقاءه، والإنسان يدفع الثمن — جيلًا بعد جيل.

هذه ليست حربًا تنتهي بتوقيع اتفاق أو صمت المدافع، بل حرب تبدأ حين يظن الناس أن كل شيء قد انتهى. تبدأ في رحم الأمهات، في الطفرات الجينية، في الأطفال الذين يُولدون بعيوب خلقية لا تفسير لها سوى الغبار السام. تبدأ في الخلايا السرطانية التي تنمو في أجساد لم تكن تعلم أنها تعيش قرب ساحة حرب نووية مصغّرة.

ولا يقف الأمر عند اليورانيوم. فكل قذيفة تسقط، وكل مبنى يُقصف، يطلق سحبًا كثيفة من الغبار المجهري المحمّل بالجسيمات الدقيقة، المعروفة علميًا بـ PM2.5. هذه الجسيمات المتناهية الصغر لا تُرى بالعين المجردة، لكنها تدخل الرئتين دون استئذان، وتتسلل إلى الدم، وتهاجم القلب، وتغذي الأمراض المزمنة كالربو والسرطان والسكتات القلبية. الأطفال وكبار السن، والمرضى، والنساء الحوامل، كلهم ضحايا محتملون لهذا الهواء المسموم.

الحرب، إذن، لا تنتهي بانتهاء الاشتباك، بل تواصل زحفها في الهواء، في التربة، في الأجساد، في الأجيال القادمة. إنها جريمة ضد المستقبل، لأن ما يُزرَع من إشعاع وسموم اليوم، يُحصَد من موتٍ بطيء بعد عشرات السنين. إنها ليست فقط حربًا على الأعداء، بل على الحياة ذاتها.

الأرض التي تنتقم بصبر

الحرب، وإن خمدت أصوات مدافعها، لا تُطوى بانتهاء القتال، بل تظلّ كامنة في باطن الأرض، تتنفس من خلال الشقوق، وتنتظر لحظة الانتقام. الأرض، بطبيعتها الصبورة، لا تصرخ لحظة الجرح، لكنها لا تنسى. كل قذيفة تخترق تربتها، كل خندق يُحفر في جسدها، كل غاز سام يُطلق في سمائها، يُدوَّن بصمت في ذاكرتها الطويلة، التي لا تغفر بسهولة.

وحين يُعلن البشر “السلام”، تكون الأرض قد بدأت بالفعل في إعداد ردّها البطيء، المعقّد، الذي لا يُواجه بالسلاح، بل يُعاش كقدر محتوم. تبدأ القصة من التربة التي كانت يومًا خصبة، مفعمة بالحياة الدقيقة، فإذا بها تتحوّل إلى جلد محروق، ترفض البذور، وتكفّ عن العطاء. السموم التي خلّفتها الأسلحة، والمعادن الثقيلة التي تراكمت في طبقاتها، تتسلل إلى الجذور، وتفسد دورة الحياة من الأصل، حتى إن زُرع فيها شيء، خرج عليلًا، هشًّا، مسمومًا.

ثم يتحوّل هذا الخلل الصامت إلى تصحر، إلى أرض لم تعد تمسك الماء ولا تنبت الزرع. مساحات واسعة كانت تُروى بالسحب وتثمر الغذاء، تصبح جرداء كأنها لم تعرف الحياة من قبل. والسماء، التي نُهبت بنقائها خلال المعارك، تُخلّ بتوازنها المناخي، فتمطر حيث لا ينبغي، وتصمت حيث الحاجة ماسة. الأمطار إما طوفانية مدمّرة، أو غائبة تمامًا، كأنها عقاب موزون على التلاعب بالمنظومة البيئية.

الحرارة ترتفع على نحوٍ متسارع، لا بفعل الشمس فقط، بل بفعل الغازات الحابسة للحرارة، التي ضختها الحرب بسخاء في الغلاف الجوي. ومع كل ارتفاع، تتبدّل دورة المياه، وتتقلص المساحات الصالحة للزراعة، وتتسارع ذوبان الثلوج، ويرتفع منسوب البحار. الفيضانات لم تعد ظواهر استثنائية، بل باتت مشاهد متكررة، تُغرق المدن، وتجرف التربة، وتزيد في انهيار الأمن الغذائي الذي بدأت الحرب نفسها في تقويضه.

ولا تنتهي الحكاية هنا، فحين تنهار البيئة، تنهار معها الحصانة الصحية. في بيئات ما بعد الحرب، حيث المياه ملوّثة، والمجاري معطّلة، والمخلفات الكيماوية مبعثرة، تنبت الأوبئة كما تنبت الأعشاب الطفيلية في الحقول المهملة. الأمراض لا تفرّق بين جندي ومدني، بين مذنب وبريء، بل تعيد التذكير بأن للدمار أثمانًا مؤجلة، قد تفوق في قسوتها صوت الرصاص الأول.

الأرض إذًا لا تصرخ، لكنها تحصي. لا تثور، لكنها تخطط بصبر. وحين تقرّر أن تنتقم، تفعل ذلك عبر منظوماتها البيئية، بطريقة لا يمكن وقفها بقوة، ولا مواجهتها بجيش. تنقلب موارد الرزق إلى مصادر خطر، وتتحوّل الطبيعة من حليفة إلى خصم. والإنسان، الذي ظنّ أنه انتصر، يجد نفسه أمام ندٍّ لا يُقهر، يطالبه بثمن لم يحسب له حسابًا. في النهاية، الأرض لا تنسى، ولا تُسامح.

البيئة ليست طرفًا في الحرب، لكنها دومًا الخاسر الأكبر.

وفي عالمٍ يشهد حروبًا في كل الاتجاهات، من أوكرانيا إلى غزة إلى السودان، تصبح الحاجة إلى السلام البيئي ضرورة وجود، لا رفاهية فكر.

البيئة ليست طرفًا على طاولة المفاوضات، ولا تحمل سلاحًا ولا ترفع راية، لكنها تدفع الثمن الأكبر في كل حرب. إنها الضحية التي لا تُذكر في بيانات الأمم، ولا تُؤبَّن في نشرات الأخبار، لكنها تنزف ببطء، في صمت مطبق، حتى تنهار مقومات الحياة ذاتها. فكل طلقة تُطلق، وكل قذيفة تنفجر، لا تقتل فقط جسدًا بشريًا، بل تُصيب في مقتل غابة، أو نهرًا، أو طبقة من الهواء، أو حيوانًا بريئًا يُهجر موطنه. وفي عالمٍ تتوالى فيه الصراعات بلا توقف، من أوكرانيا المشتعلة إلى غزة المحاصَرة إلى السودان الممزق، أصبحت البيئة كأنها تُحاصر من كل الجهات، بلا ملجأ ولا هدنة.

ليست البيئة ترفًا فكريًا نتحدث عنه حين ننتهي من “القضايا الكبرى”، بل هي أصل الوجود ذاته، وهي التي تحتفظ بقدرتنا على الشرب والتنفس والزراعة والتداوي. ومع ذلك، حين تنشب الحرب، تُعتبر الأشجار مجرد “عقبة لوجستية”، والمياه “وسيلة للضغط”، والتربة “أرضًا محتلة”، ويُنسى أن هذه العناصر ليست حيادية، بل هي ضرورية لبقاء الإنسان، بعد أن تنتهي الحرب وتُطوى البنادق.

في أوكرانيا، الأراضي الزراعية الشاسعة التي كانت تطعم الملايين أصبحت ساحات معارك ومقابر للآليات، تلوّثت تربتها بالمعادن الثقيلة، وتبعثرت فيها ألغام لم تُرَ بعد، لكنها ستنفجر لاحقًا في وجه المزارع بدل الجندي. في غزة، كل قصف يهدم أكثر من مبنى، فهو يدمر شبكات الصرف والمياه، يلوّث البحر، ويحوّل كل شجرة زيتون إلى ركام، ويجعل الهواء خانقًا بالغبار والسموم. في السودان، صراعات لا تترك للغابات مجالًا للنمو، ولا للأنهار فرصة للتنفس، فكل ما يُقتلع من أجل السيطرة لا يعود، وكل ما يُهمل من أجل الحرب لا يُرمم لاحقًا.

السلام البيئي إذًا ليس شعارًا أخضر في مؤتمرات النخبة، بل هو حجر الأساس لأي إعادة بناء حقيقية. فكيف يمكن لمجتمع أن يتعافى من الحرب بينما مياهه مسمومة وهواؤه ملوّث وأرضه ترفض الإنبات؟ كيف تعود الحياة إن كانت البيئة قد تحوّلت إلى مقبرة طبيعية؟ إعادة الإعمار لا تبدأ من الإسمنت، بل من التربة. لا من رفع الأنقاض، بل من إعادة التوازن بين الإنسان ومحيطه.

إن تجاهل البيئة في زمن الحرب هو كمن يقتلع قلب المريض ليعالج جرحًا في يده. لذلك، لم يعد السلام البيئي ترفًا أكاديميًا، بل أصبح شرطًا للبقاء. وعلينا أن ندرك، في زمن يتداخل فيه صوت المدفع مع صوت انهيار الغلاف الجوي، أن من لا يحمي بيئته اليوم، لن يجد غدًا ما يقاتل لأجله.

تبدو الأرض ككائنٍ حيٍّ جريح، لا يصرخ من الألم، لكنه يسجّله في ذاكرة صخره وترابه ومياهه، يراكمه بصبرٍ لا يُضاهى، وينتظر لحظة الرد. الحرب، كما نعرفها، لا تنتهي بانسحاب الجيوش، ولا تتوقف بانهيار الأنظمة أو صمت البنادق. هي تنزلق بهدوء إلى طبقاتٍ أعمق، إلى أعماق الأرض حيث تُفسد التربة، وتلوّث المياه، وتُسمّم الهواء، وتُترك الطبيعة لتئن وحدها في صمتٍ رهيب لا يسمعه أحد.

بعد أن تهدأ الضربات وتغادر الكاميرات، تبقى الأرض شاهدة على الخراب. تتحول السهول الخصبة إلى أراضٍ قاحلة، ترفض أن تنبت، كأنها في حداد. تتسرب المعادن الثقيلة إلى جذور الأشجار، وتنتقل إلى طعام الإنسان، كأن كل لقمة تحمل أثر الحرب، وكل شربة ماء تروي قصة عن غارةٍ لم تُنسَ. الغابات التي احترقت، والمياه التي تسمّمت، والحيوانات التي هربت أو ماتت، كلّها تصرخ بصوتٍ مكتوم، بأن البيئة لم تكن يومًا “طرفًا محايدًا” كما يتوهم البعض، بل كانت دائمًا قلب المسرح وعمق الجرح.

وإذا كان الإنسان يعتقد أنه يستطيع قهر الأرض بالقوة، فإن الأرض تردُّ بصبر. لا تنتقم بغضب لحظي، بل بكوارث مؤجلة، متقنة، صبورة. موجات الجفاف التي تقضي على المحاصيل، والعواصف التي تقتلع المدن من جذورها، والأوبئة التي تُعيد التذكير بأننا لسنا بمنأى عن قانون الطبيعة. تغير المناخ ليس “خطأ في التوازن”، بل هو صدى كلّ قنبلة سقطت، وكل بئر نُسف، وكل غابة احترقت، وكل تربة سُمّمت باسم السيادة أو الهيمنة أو الغلبة.

في عالمٍ باتت فيه النار مشتعلة من شرق أوكرانيا إلى قلب غزة، ومن مدن السودان إلى بقاع أخرى لا تزال تنتظر دورها، لم يعد الحديث عن “السلام البيئي” ترفًا أو حلمًا نخبويًا. لقد صار ضرورة بقاء. لأن البيئة، ببساطة، هي شرط استمرار الحياة، وحين تسقط، لا يسقط العدو وحده، بل يسقط الجميع، بلا استثناء. وإذا لم نُحسن الإنصات إلى صمت الأرض الآن، سنُجبر على السماع لصراخها لاحقًا… ولكن بعد فوات الأوان.

حين تُقصف السماء

في كل انفجار قذيفة، وفي كل غارة جوية، يُطلق في السماء لهيبٌ من المعادن الثقيلة، وثاني أكسيد الكربون، وأكاسيد النيتروجين. الهواء يتحول إلى مسرح للجريمة، لكن لا شاهِد ولا محاكمة. الطائرات الحربية وحدها تُطلق آلاف الأطنان من ثاني أكسيد الكربون في ساعات معدودة. فكل ساعة تحليق لطائرة F-15 مثلًا تساوي ما يقرب من استهلاك سيارة عادية لشهر كامل من البنزين. فكيف إذا أضفنا الدبابات، والصواريخ، والسفن الحربية؟!

هنا، لا نحكي عن الضحايا المباشرين للحرب، بل عن ضحايا غير مرئيين سيموتون بعد عقود: أطفال يولدون في مناخ مختل، غابات تحترق من الجفاف، مجاعات تنمو من رماد التلوث.

السماء، التي كانت يومًا رمزًا للاتساع والنقاء والطمأنينة، لم تعد كما كانت. لم تعد زرقاء كما في كتب الأطفال، ولا ساكنة كما في القصائد القديمة. لقد صارت تُقصف. لم تسلم من شهوة الحرب، ولم ينجُ هواؤها من أن يكون مسرحًا مفتوحًا لجرائم لا يُسجّلها التاريخ ولا تُدوّن في تقارير العدالة.

في كل انفجار قذيفة، تتصاعد إلى السماء ألسنة من المعادن الثقيلة: الرصاص، الزئبق، الكادميوم، كلها تطفو كأشباح سامة، تنتشر بصمت، وتلوّث طبقات الجو العليا والدنيا على السواء. تختلط بثاني أكسيد الكربون وأكاسيد النيتروجين، فيتحول الهواء إلى خليط قاتل لا يُرى بالعين المجردة، لكنه يندسّ في الرئتين، ويستقر في دم الإنسان ونبات الأرض وكل ما يتنفس الحياة.

السماء تُقصف، لا بالصواريخ فقط، بل بالغازات، والأبخرة، والضجيج. طائرات F-15 وغيرها من الطيور الحديدية، وهي تنقضّ على المدن والقرى، لا تقتل البشر فقط، بل تخنق الغلاف الجوي. كل ساعة طيران لها تطلق كميات هائلة من ثاني أكسيد الكربون، تُعادل استهلاك سيارة عادية للبنزين طوال شهر. تلك المعادلة المخيفة لا تُقرأ في نشرات الأخبار، لكنها تكتب نفسها على جبين المناخ، على طقس الغد، على خرائط التصحر، وعلى ملامح الفصول التي بدأت تفقد تمييزها.

ومع كل دبابة تزحف، وكل صاروخ ينطلق، وكل بارجة تتحرك، يتضاعف هذا العبء الكربوني الذي لا يرى، لكنه يُحسّ مع كل موجة حرّ غير معتادة، ومع كل إعصار مباغت، ومع كل موسم جفاف يضرب أراضي كانت خضراء بالأمس.

الضحايا هنا لا يُدفنون في مقابر، بل يُولَدون في مشافي مكتظة بالأمراض التنفسية، يُولدون في زمنٍ تغيرت فيه خريطة الفصول، حيث الخريف يُشبه الصيف، والشتاء بلا أمطار، والربيع يأتي محمّلًا بحبوب لقاح لا تُطيقها رئات الأطفال. هؤلاء الأطفال هم ضحايا الغد، الذين لم يروا الحرب، لكنهم يتنفسون نتائجها، ويأكلون من تربة مسمّمة بها، ويشربون من مياه تلوثت في سماء لا تنسى.

الغابات التي تحترق ليست دائمًا بفعل قنبلة مباشرة، بل أحيانًا تحترق لأن السماء فقدت اتزانها، لأن الحرارة ارتفعت بما يكفي لتشعل الشجر دون نار. والمجاعات لا تبدأ دائمًا من فقرٍ أو حصار، بل من مناخٍ مريض، لم يعد يُنبت ما كان يُنبت، لأن غيومه مُسمّمة، ومطره أصبح شحيحًا أو مشبعًا بأحماض لا تطفئ الظمأ، بل تزيد من جفاف الحياة.

الحرب إذًا ليست فقط نزف دماء، بل نزف هواء. هي ليست مجرد مشاهد عنف على الأرض، بل أيضًا تدمير للبنية التحتية للمناخ. فحين تُقصف السماء، لا تتساقط نجوم، بل تتناثر أمراض، وتهاجر الطيور، ويتوارى المطر، ويخسر الكوكب شيئًا من قدرته على التنفس.

ولعلّ ما هو أشد ألمًا، أن هذه السماء – التي لا حدود لها، والتي تظلنا جميعًا – لا تعترف بالجغرافيا. فما يُقصف في غزة، يُستنشَق أثره في مصر. وما يتبخر فوق أوكرانيا، يختلط بسحاب أوروبا. السماء لا تعرف الحدود، ولا تنتمي لدولة. ولهذا، فإن كل حرب تُشعلها دولة، هي في حقيقتها جريمة ضد الجميع. جريمة ضد الأرض كلها.

الأرض التي تحترق تحت الأقدام

الحرب ليست فقط قتالًا، بل اقتلاعٌ للغابات، ونسفٌ للجبال، وجرفٌ للتربة. القنابل لا تنفجر فقط فوق رؤوس الجنود، بل في قلب النظام البيئي. كم من غابة دمّرتها الحروب في فيتنام؟ كم من نهر لوّثته المواد الكيميائية في العراق؟ وكم من تربة أصبحت غير صالحة للزراعة بعد أن نُثرت فيها سموم الموت؟

كل طلقة رصاص هي بذرة لعقمٍ طويل الأمد. كل خندق يُحفَر هو ندبة على جسد الأرض. وكأن الحرب لا تكتفي بسفك الدم، بل تسفك الحياة ذاتها.

الأرض التي نحيا فوقها، التي نزرعها ونمشي عليها ونحلم فيها، لم تكن يومًا كيانًا صامتًا. هي كائن حيّ له ذاكرة، له جلد، له قلب. وعندما تحترق الأرض تحت الأقدام، لا تفعل ذلك صراخًا، بل بصمتٍ موحش، فيه من الألم ما يعجز عنه الكلام.

الحرب لا تبدأ فقط بانفجار، بل تبدأ عندما تُقتلع الأشجار، وتُجتث الجذور، وتتحول الغابات إلى ساحات جرداء. الغابة التي كانت تزقزق فيها العصافير، وتزدهر في ظلّها الحياة، تتحول إلى كومة رماد، لا ظلّ فيها إلا لخيالات الموت. في فيتنام، لم تكن القنابل وحدها ما فعل فعل الحرب، بل «العامل البرتقالي» – تلك المادة الكيميائية التي رُشّت على ملايين الهكتارات – لتمحو كل ما هو أخضر، وتُدخل الغابة في غيبوبة لا تستفيق منها لعقود.

وفي العراق، انهارت الأنهار تحت وطأة المواد الكيميائية التي اختلطت بالماء، فصارت الأنهار تحمل موتًا ذائبًا لا يُرى، لكنه يقتل ببطء. مجاري كانت تنقل الحياة، صارت تنقل السرطان والتشوهات والخراب. الأسماك تموت صامتة، والزراعة تنهار، والفلاح يمشي على ضفاف ماءٍ لم يعد ماء، بل شبح من الماضي.

أما التربة – تلك التي تحتضن البذور وتمنحنا الخبز والثمر – فهي الأخرى تنزف. عندما تُلقى القذائف، تُخلط التربة بالمعادن الثقيلة، وتُرَوّى بسموم الحرب. الرصاص، واليورانيوم المنضب، والمواد المتفجرة، كلها تتسرب إلى باطن الأرض، تحرق خصوبتها، وتحوّلها من حضنٍ للحياة إلى سرير للتيبّس. المزارع الذي يعود بعد المعركة، يحمل بذوره بيد مرتجفة، لكنه حين يغرسها، لا تنبت. الأرض لفظت الحياة، وأصبحت غريبة عن العطاء.

كل طلقة رصاص ليست مجرد صوت، بل خيانة جديدة للأرض. هي لحظة يُزرع فيها الموت، ويُستأصل الأمل. الخنادق التي تُحفَر لا تكون فقط للتحصّن، بل كأنها قبور محفورة في لحم الأرض، ندوب لا تشفى، تحكي للأجيال القادمة قصة حرب لم يعيشوها، لكنهم سيشربون مرارتها من ماء مسموم، وسيأكلونها في خبزٍ فقد نكهة الأرض.

هكذا تتحول الحرب من مشهد دموي في نشرات الأخبار، إلى واقعٍ يترسّخ في جذور الأشجار، في مسامات التراب، في أنفاس الريح. وكأن الأرض تُؤرّخ للحرب بطريقتها الخاصة: لا عبر التواريخ، بل عبر الجروح المفتوحة، التي لا يراها الجنرالات، ولا يشعر بها الساسة، لكنها تنزف في صمت كل يوم. فالحرب لا تكتفي بسفك الدماء… إنها تسفك الحياة ذاتها.

الماء، كنز الحياة يتحول إلى مستنقع للموت

الحروب تلوّث الأنهار قبل أن تروِّي الظمأ. الصواريخ التي تدك المدن تترك خلفها معادن سامة تتسلل إلى الجداول، والمياه الجوفية.  في غزة مثلًا، ومع كل قصف، تزداد ملوحة المياه، وتتراجع فرص الشرب النقي. وفي أوكرانيا، لوثت الذخائر غير المتفجرة الأنهار التي تمر بالقرى.

وهكذا، تتحوّل المياه من حياة إلى تهديد، ومن نعمة إلى سمّ بطيء. من يحيا بعد الحرب، يعيش مريضًا بما خلفته من تلوث، دون أن يعرف أن الحرب لم تنتهِ، بل انتقلت إلى داخله.

الماء… هذا السائل الأزرق الذي يحمل في كل قطرة منه وعدًا بالحياة، يتحوّل في زمن الحرب إلى مستنقعٍ للخوف، ووعاءٍ خفي للموت البطيء. لم تعد الأنهار تجري لتمنحنا الارتواء، بل لتنقل جراحًا لا تُرى بالعين، لكنها تسكن الجسد وتفتك به بهدوء لا يشبه القصف، بل يشبه الخيانة.

الحروب لا تكتفي بتحطيم الجدران والأجساد، بل تمتد إلى ما هو أعمق وأكثر خفاءً. الصواريخ، حين تسقط على المدن، لا تحترق وتنتهي. إنها تذوب في التربة، وتذرف سمومها الثقيلة في عروق الأرض، فتنفذ إلى طبقات المياه الجوفية، وإلى الجداول التي طالما حملت النقاء. القنابل تنفجر في السماء، لكن رمادها ينزل ليستقر في عيون الماء، فيجعلها تدمع بملوحة وسمّ.

في غزة، الأرض لا تعرف الهدنة. ومع كل موجة قصف، ومع كل أنقاض تنهار، تزداد نسبة الملوحة في المياه، لأن البنية التحتية المتهالكة لا تصمد أمام شراسة الحرب. البحر يتسلل إلى الآبار، ومياه الشرب تصبح أقرب إلى ماءٍ مرّ لا يُروى به عطش، بل يُحمل فيه المرض في صمت. طفل يشرب، ثم يسعل. امرأة تملأ دلوا، ثم تفقد شهية الحياة تدريجيًا. الحرب هناك لا تقتل فقط بالقنابل، بل بالكوب الذي لا مفر من شربه.

أما في أوكرانيا، حيث تتقاطع المزارع مع الأنهار، فإن الذخائر غير المنفجرة تحوّلت إلى قنابل مؤجلة انفجرت كيميائيًا في المياه. جداول كانت تمر بين القرى كخيوط حرير، صارت تنقل المعادن الثقيلة والنترات والملوثات التي لا تُرى إلا في نتائج التحاليل، بعد فوات الأوان. المياه نفسها التي كانت تُستخدم لريّ الزرع، أصبحت تزرع الأمراض في أجساد من لم يفرّوا من ديارهم.

والمأساة الأشد فتكًا أن هذا التلوث لا يُعلن نفسه. لا يدوي كالصواريخ، ولا يصرخ كالضحايا. هو سمّ بطيء يتسرّب إلى الأجساد، فيفتك بالكلى، ويقضي على المناعة، ويحوّل الأطفال إلى ضحايا لحرب لم يعودوا يسمعون دويها، لكنهم يحملونها في دمائهم. كأن الحرب انسحبت من السماء، لتقيم في عروق البشر.

الماء، الذي كان أول ما وُجد على الأرض، يتحوّل في الحروب إلى آخر ما يرحل. لا لأنه باقٍ، بل لأنه يختزن كل الأذى، ويعيد توزيعه على من تبقّوا أحياء. إن الحرب، في الحقيقة، لا تنتهي عند وقف إطلاق النار، بل تواصل زحفها في الخفاء، عبر الماء الذي يُفترض أن ينقذ، فإذا به يحمل تحت سطحه هديرًا آخر للموت.

الاحتباس الحراري: نار الحرب تُشعل الكوكب

المفارقة العجيبة أن العالم يخصص ميزانيات ضخمة لوقف تغيّر المناخ، ثم يُنفق أضعافها على الحروب التي تعجّل به.
الحرب ترفع درجات الحرارة ليس فقط حرفيًا، بل رمزيًا أيضًا. كأنها تعلن: لا حاجة لانتظار الكارثة المناخية، نحن نُعجّل بها طوعًا!

الأسلحة الحديثة ليست مجرد أدوات قتل، بل هي مصانع انبعاثات متنقلة. وعندما تصبح الدول الكبرى مسرحًا لإنتاج الموت، يصبح الكوكب كله مسرحًا لانهيار بطيء.

في زمنٍ تتصدّر فيه عناوين العالم كلمات مثل “الاستدامة” و”خفض الانبعاثات” و”الحياد الكربوني”، تُخاض في الخلفية معارك مشتعلة تنسف كل هذه الجهود بنيرانها. والمفارقة تثير الغثيان أكثر من العجب: العالم يضخ المليارات في مؤتمرات المناخ، ويعقد الاتفاقيات تلو الأخرى لإنقاذ الأرض من ارتفاع الحرارة، ثم يفتح صمامات تمويله ليغذي آلة الحرب التي تزيد الكوكب اشتعالًا.

الحرب ليست فقط فعلًا عنيفًا تجاه الإنسان، بل هي إعلان عدواني ضد الطبيعة. كل انفجار هو زفيرٌ حارّ في وجه المناخ. كل طلقة صاروخ تحمل في داخلها كربونًا يختنق به الغلاف الجوي. الطائرات الحربية، والدبابات، والغواصات، والأساطيل البحرية، كلها ليست مجرد أدوات قتال، بل معامل متنقلة تحرق الوقود وتبث الغازات الدفيئة بلا حساب. الحرب لا تحتاج إلى عقود حتى تغيّر المناخ، إنها تفعل ذلك في أسابيع، وربما في ساعات.

إنها نارٌ مزدوجة. نار تلتهم المدن والناس، ونار تذيب الجليد وتزيد منسوب البحار. فحين تُحرق الغابات في النزاعات المسلحة، لا تخسر الأرض فقط رئتيها، بل تطلق في الهواء آلاف الأطنان من ثاني أكسيد الكربون المخزون في أجساد الأشجار. كأن الطبيعة تبكي بصمتٍ دخانيّ، وتتنفس الموت الذي لم تكن طرفًا فيه. وما يحدث في الأفق الأخضر لا ينفصل عما يحدث في الغلاف الأزرق.

الحرب ترفع درجات الحرارة أكثر مما تفعل المصانع والسيارات مجتمعة في بعض الدول. فالمصانع على الأقل تخضع – ولو شكليًا – لقوانين بيئية، أما الحرب فلا تخضع إلا لشهوة التدمير. لا رقابة على ما ينبعث، ولا حساب لما يُضرب، ولا ندم على ما يُخلّف. قصف واحد يكفي ليمحو أثر أعوام من مبادرات الحفاظ على المناخ.

وحين تكون الدول الكبرى هي نفسها أكبر مصدّري السلاح، وأكبر محاضري المناخ في المؤتمرات، يصبح المشهد أكثر سوداوية. فالعالم الذي يوقّع على اتفاقيات باريس ويذرف دموعًا على ذوبان الجليد، هو ذاته الذي يرسل الطائرات لقصف مدنٍ لا تعرف غير الرماد.

والمفارقة الرمزية، التي لا تقل ألمًا عن الواقع الفيزيائي، هي أن الحرب تختصر الطريق إلى الكارثة المناخية. لا نحتاج إلى عقود من الانبعاثات البطيئة لنشهد الأعاصير والجفاف والتصحر. الحرب تسرّع العد التنازلي، وتقول للعالم: لا تنتظروا الاحتباس الحراري، نحن نُشعل الكوكب بأيدينا… طوعًا، وبكل فخر.

ووسط هذا الجنون، تبدو الأرض كمن يستغيث دون صوت، تختنق تحت عبء لا تسببت فيه. الكوكب لا يُقصف بالقنابل فقط، بل يُقصف بالقرارات، بالازدواجية، بالنفاق المناخي. كل ما يحدث ليس فقط نتيجة للحرب… بل لعالمٍ قرر أن يراوغ الحقيقة، ويُشعل النار بيد، ويُطفئها بالمؤتمرات في اليد الأخرى.

هل نحن في حرب مع الأرض نفسها؟

هل الحروب مجرد صراع بين بشر؟ أم أنها تمرد على قوانين الطبيعة؟ في عمق كل حرب، يبدو أن الإنسان قد قرر أن يقاتل الأرض، لا خصمه فقط. نحن نُطلق النار على الهواء، ونفجر الجبال، ونسكب السموم في الأنهار، ثم نصرخ من تغير المناخ.

هل نحن في حرب مع الأرض ذاتها؟ سؤال يبدو في ظاهره ساذجًا، لكنه يحمل في أعماقه مرآةً لكل ما نفعله دون وعي… أو بأسوأ أنواع الوعي: الوعي الجشع. فحين يطلق الجنود النار على خصومهم، هناك رصاصة أخرى تُطلق دون قصد، لكنها تصيب التربة، والماء، والهواء. كأن الإنسان، في كل مرة يختار فيها الحرب، يفتح جبهة جديدة ضد الأرض التي تحتضنه. لا يدرك أنه يزرع موتًا في التربة التي تطعمه، وينفث سمًا في الهواء الذي يتنفسه، ويذيب الحياة من بين ضلوع المناخ.

لقد تجاوزنا منذ زمن بعيد فكرة أن الحرب صراعٌ على الأرض، فهي اليوم صراع ضدها. ضد قوانينها، ضد إيقاعها المتزن، ضد هشاشتها التي طالما ظنناها غير قابلة للكسر. نحن لا نحارب من أجل البقاء كما كنا نبرر دائمًا، بل نحارب بما يهدد بقاءنا ذاته. نصنع أسلحة بدعوى الأمن، ونستخدمها بدعوى العدالة، لكننا بذلك نخسر المعركة الأهم: معركة الانتماء لهذا الكوكب.

الحرب لم تعد تدمّر فقط البشر، بل تمزّق العلاقة العاطفية والروحية التي جمعت الإنسان بالأرض منذ فجر التاريخ. كل جبل يُنسف، كل غابة تُحرق، كل نهر يُلوّث، هو بمثابة جريمة قتل على مهل. نحن لا نعيش في معركة بين حضارات، بل في صراع صامت بين العقل والغريزة، بين ما نعرف أنه صواب، وما نفعله تحت ضغط الطمع، والخوف، والهيمنة.

وكم يبدو مؤلمًا أن نرى الكوكب يختنق لا من قنبلة نووية، بل من إصرارنا المستمر على الحرب. لا حاجة لانفجار كبير كي تنتهي الحياة، فكل انفجار صغير يخصم من عمر الأرض ثانية، وكل غارة تُطفئ نجمًا في سماء الأمل. نحن لا نحتاج إلى نهاية مروعة، فنحن نصنع النهاية بأيدينا، قطعة قطعة، حربًا بعد أخرى، حتى تصبح النهايات مجرد تفصيل في كتابٍ لم يعد يُقرأ.

في لحظة صدق نادرة، علينا أن نتوقف. لا لنُراجع أرقام الخسائر، أو نحصي عدد القتلى، بل لنسأل أنفسنا: من نكون إن خسرنا الأرض؟ ما جدوى النصر على عدوٍ خارجي إذا كانت الأرض نفسها قد أعلنت هزيمتنا؟ من سنحكم، وأين سنعيش، وكيف سننتمي، إن صارت الأرض خصمًا وليست وطنًا؟

الحقيقة القاسية أننا قد نربح معركة، أو نحتفل بانتصار، لكننا في حرب طويلة مع الكوكب نخسر كل يوم. الأرض لا تصرخ، لكنها تئن. لا ترد الضربة، لكنها تنهار ببطء. وربما، في نهاية هذا الطريق، لن يكون هناك طرف منتصر، بل فقط كوكب متعب، وسلالة بشرية تائهة، تتساءل بدهشة: كيف وصلنا إلى هنا؟ الحرب ليست معركة بين جيوش فقط، بل صراع وجودي بين الإنسان وكوكبه. بين العقل والسلاح. بين البقاء والفناء. وربما، في لحظة تأملٍ صادقة، علينا أن نعترف:أن الكوكب لا يحتاج إلى قنابل نووية كي يفنى، بل يكفيه استمرار حرب واحدة، طويلة، عنيدة، لكي يختنق.

🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى