رأى

الجسيمات الخفية التي تخنق الحياة: البلاستيك الدقيق يهدد الأرض وغذاء الإنسان

بقلم: أ.د.يوسف دوير

أستاذ كيمياء وسمية المبيدات وزميل الجمعية الملكية البريطانية للحشرات والبيولوجي – المعمل المركزي للمبيدات – مركز البحوث الزراعية

في أعماق التربة وعلى صفحات المياه، يتسلل خطر صامت لا يُرى بالعين المجردة، يعبث بخيوط الحياة دون أن يثير ضجيجًا.
إنه البلاستيك الدقيق — تلك الجسيمات المتناهية الصغر التي تحولت من بقايا حضارتنا الحديثة إلى سمٍّ بطيء يتغلغل في قلب الطبيعة ويهدد الوجود.

تشير دراسة حديثة إلى أن هذا التلوث الخفي بات يقطع شريان الحياة عن النباتات، فيعيق عملية التمثيل الضوئي، ويحدّ من قدرة الكائنات الخضراء على إنتاج الغذاء والأكسجين معًا. لقد أصبحت الجسيمات البلاستيكية الدقيقة تحجب ضوء الشمس عن الأوراق، وتخنق جذور النباتات، وتسمّم التربة التي كانت يومًا مهد الخصب والعطاء.

ووفقًا لتحليل علمي نُشر في مارس 2025 بمجلة الأكاديمية الوطنية للعلوم بالولايات المتحدة الأمريكية (PNAS)، فإن ما بين 4٪ و14٪ من محاصيل العالم الأساسية — القمح والأرز والذرة — قد فُقد بالفعل تحت وطأة هذه الجسيمات الغازية، التي تتسلل إلى كل ركن من أركان الكوكب؛ من قمة إيفرست إلى أعماق المحيطات. ويحذر العلماء من أن استمرار هذا النزيف الأخضر قد يرفع عدد الجوعى في العالم بنحو 400 مليون إنسان خلال العقدين القادمين، في مشهد يهدد الأمن الغذائي العالمي ويضع البشرية أمام “سيناريو مقلق”، كما وصفوه. فكيف لنا أن نزرع ونجني، إن كانت التربة نفسها قد تسممت، والهواء الذي يمد الحياة قد امتلأ بذرات الخطر؟

البلاستيك، الذي وُلد يومًا كرمز للتطور، تحوّل الآن إلى رمادٍ يلوث كل شيء؛ إذ يتحلل إلى أجزاء دقيقة حملتها الرياح والمياه لتستقر في كل خلية من خلايا الحياة. لقد وجده العلماء في دم الإنسان ودماغه وحليب الأمهات ومشيمة الأجنة وحتى نخاع العظام — وكأن الكوكب بأسره قد ابتلع جرعة من داءٍ لا شفاء له.

أما النباتات، فهي أول الضحايا وآخر المدافعين؛ فحين تُصاب بالضرر، تتعثر دورة الحياة بأكملها. تشير الأبحاث إلى أن البلاستيك الدقيق يقلل من عملية التمثيل الضوئي بنسبة 12٪ في النباتات الأرضية، وبنحو 7٪ في الطحالب البحرية التي تشكّل قاعدة السلسلة الغذائية في البحار. إنه لا يسلب النبات نوره فحسب، بل يسلب الأرض قدرتها على التنفس، ويقوّض جهود الطبيعة في امتصاص ثاني أكسيد الكربون، فيزيد النار اشتعالًا في أزمة المناخ.

يقول الأستاذ هوان تشونغ Huan Zhong من جامعة نانجينغ Nanjing University في الصين: “لقد سعت البشرية لزيادة إنتاج الغذاء لإطعام سكان الأرض المتزايدين، لكن هذه الجهود مهددة اليوم بتلوث البلاستيك، الذي يزحف خلسة نحو جذور الحياة نفسها.”

وتشير التقديرات إلى أن الخسائر في المحاصيل الزراعية بفعل البلاستيك الدقيق تضاهي خسائر التغير المناخي في العقود الماضية، بينما لا يزال العالم عاجزًا عن السيطرة على هذا العدو الصامت. في آسيا وحدها، تتراوح خسائر القمح والأرز والذرة بين 54 و177 مليون طن سنويًا، أي ما يعادل نصف خسائر الكوكب كله، في حين تُقدّر خسائر المأكولات البحرية بنحو 24 مليون طن سنويًا — كميات تكفي لإطعام عشرات الملايين من الجياع. ومع ذلك، ما زال البعض يشكك أو يتريث، مطالبًا بمزيد من البيانات لتأكيد النتائج. لكن الحقيقة الأعمق لا تحتاج إلى دليل رقمي، فالمشهد الكوني يتحدث بصمتٍ موجع: الأرض تختنق، والنظام الطبيعي يختلّ، والبشرية تُواجه مرآة صنع يديها.

إنها مفارقة العصر الحديث؛ ما صنعناه بأيدينا ليخدمنا، بدأ يلتهمنا رويدًا رويدًا. فإذا كان البلاستيك قد تسلل إلى جسد الإنسان والنبات والبحر والهواء، فما الذي تبقّى نقيًّا؟

لقد تأخرت البشرية كثيرًا في إدراك حجم الكارثة، لكن الفرصة لم تُفقد بعد. فكما تملك الطبيعة القدرة على الشفاء إذا أُعطيت فرصة، تملك الإنسانية — بعلمها ووعيها — أن تُعيد التوازن إن تحركت بإخلاص ومسؤولية. يبقى الأمل في أن تدرك الحكومات والمؤسسات الدولية — مثل منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأغذية والزراعة (الفاو) — أن مستقبل الأمن الغذائي العالمي مرهون بمعركة ضد البلاستيك لا تقل خطورة عن معارك الجوع والمناخ.

ومن هذا المنطلق، تأتي الدعوة إلى الهيئات البحثية والجهات المموِّلة للمشروعات العلمية، الدولية منها والمحلية، لتوحيد الجهود وتمويل الأبحاث والمبادرات التي تستهدف الحد من التلوث البلاستيكي والتخلّص من بقاياه في البيئة، بما يحقق التكامل بين المؤسسات في حماية البيئة وتعزيز الأمن الصحي والغذائي على المستويين الوطني والعالمي.

🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى