«التنوع الزراعي» هو الحل.. دور المحاصيل غير التقليدية في تعزيز الأمن الغذائي
إعداد: د.شكرية المراكشي
الخبير الدولي في الزراعات البديلة ورئيس مجلس إدارة شركة مصر تونس للتنمية الزراعية
في ظل التحديات المتزايدة التي تواجه الأمن الغذائي في العالم، خاصةً في الدول العربية، تصبح قضية الجوع والهدر الغذائي من أكثر القضايا إلحاحا. تمثل المحاصيل التقليدية مثل الأرز والقمح والذرة الركيزة الأساسية لنظمنا الغذائية، ولكنها تواجه ضغوطًا متزايدة نتيجة التغيرات المناخية، التصحر، والتطورات السكانية المتسارعة. بينما تتضاءل فعالية هذه المحاصيل التقليدية، تبرز المحاصيل غير التقليدية كحل مبتكر للتصدي لهذه الأزمات، حيث تمتاز بقدرتها على التكيف مع الظروف المناخية القاسية وتعزيز التنوع الزراعي.
تابعونا على صفحة الفلاح اليوم على فيس بوك
لكن، لم يقتصر التحدي على إنتاج الغذاء فحسب، بل يمتد إلى كيفية تقليل الهدر الغذائي الذي يمثل ثلث الإنتاج العالمي سنويًا. إن معالجة هذه القضايا تتطلب تنسيق الجهود بين الحكومات، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني، لتبني استراتيجيات فعالة تسهم في زيادة الوعي حول أهمية الاستهلاك المستدام، وتعزيز الزراعة المستدامة عبر دعم المحاصيل غير التقليدية.
يتناول هذا المقال دور المحاصيل غير التقليدية في مواجهة الجوع، وتسلط الضوء على الإجراءات اللازمة للحد من الهدر المحصولي والغذائي، مما يسهم في تحقيق الأمن الغذائي المستدام وتحسين معيشة المجتمعات الزراعية في العالم العربي.
في عالمنا العربي اليوم، يبرز تحدٍ جوهري يتعلق بإنتاج الغذاء ووفرة المحاصيل الزراعية. تشتد هذه التحديات بسبب عوامل عديدة، منها التصحر والتغيرات المناخية الحادة التي شهدناها في السنوات الأخيرة، إضافة إلى الفجوة المعرفية المتعلقة باستخدام التكنولوجيا الزراعية الحديثة. ولكن من بين العوامل التي تزيد من حدة هذه الأزمة أيضا هو ضعف الاهتمام بالزراعات غير التقليدية. هذه الزراعات، رغم كونها غير سائدة، قد تكون المفتاح لمواجهة الجوع وتوفير حلول مستدامة لإنتاج الغذاء، لكنها لا تحظى بالاهتمام الكافي.
الجوع، تلك الأزمة المتفاقمة، ليس مجرد مشكلة غذائية؛ بل هو قضية معقدة لها جذور في الفقر، عدم المساواة، وتأثيرات تغير المناخ. وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة، هناك 821 مليون شخص يعانون من الجوع وسوء التغذية سنويا، وغالبيتهم يعيشون في الدول النامية. هذه الأرقام الضخمة تجعلنا ندرك أن الأزمة ليست فقط متعلقة بكمية الغذاء المُنتج، بل بالطريقة التي يتم بها توزيعه، وحجم الفاقد والهدر فيه. فالموارد موجودة، لكن الوصول إليها لا يتم بالتساوي، مما يجعل الجوع نتيجة لعدم توزيع هذه الموارد بشكل عادل، وليس نتيجة نقصها فقط.
الهدر الغذائي يشكل تحديًا كبيرًا. إذا أخذنا في الاعتبار أن نسبة الهدر الغذائي العالمي تصل إلى 30% من إجمالي الإنتاج السنوي، ندرك أن ما يهدر من طعام يمكن أن يكون الحل لمعالجة جائحة الجوع. فزيادة الإنتاج الزراعي بنسبة 20% قد تحد من الجوع، ولكن هذا الحل وحده غير كافٍ إذا استمر الهدر بالمعدلات الحالية.
هذا الهدر يتجلى بوضوح في مشهدين متناقضين؛ ففي الدول المتقدمة يُهدر الطعام على الموائد بعد الحفلات والعزائم الضخمة، في حين أن الفاقد في الدول النامية يحدث في مراحل الإنتاج، حيث تُترك المحاصيل دون استهلاك بسبب ضعف البنية التحتية وسوء التخزين وعدم القدرة على الوصول إلى الأسواق.
المشكلة لا تكمن فقط في الهدر أثناء الإنتاج والتوزيع، بل أيضا في هجرة المزارعين من أراضيهم. هؤلاء المزارعون يواجهون مشكلات كبرى تتعلق بانخفاض الإنتاجية وسوء التسويق، دون تلقي الدعم الكافي من الحكومات أو المجتمع المدني. هذا التراجع في الزراعة يؤدي بدوره إلى انخفاض مساهمة هذا القطاع الحيوي في الناتج القومي لبعض الدول العربية، مما يزيد من حدة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية. أمام هذه التحديات، يجب أن نلتزم بالابتكار والاستثمار في تحسين البنية التحتية للمناطق الريفية، وخاصة في مجالات الطرق وسبل التخزين. بدون هذه الأسس، سيظل الفاقد الغذائي مرتفعًا، وسيواصل المزارعون مواجهة صعوبات في الوصول إلى قاعدة أوسع من المستهلكين.
كما أن سلاسل القيمة المضافة تؤدي دورا مهما في تقليل الفاقد. عندما يُهدر ثلث الإنتاج الزراعي بسبب سوء التخزين أو عدم القدرة على نقله للأسواق، نفقد ليس فقط الغذاء، بل أيضا فرصا اقتصادية ضخمة. الحل لا يكمن فقط في زيادة الإنتاج، بل في إعادة النظر في كيفية إدارة سلسلة الإنتاج الغذائي بأكملها، بدءًا من الحقل وصولا إلى المستهلك.
إن مواجهة الجوع في العالم العربي والعالم بأسره تتطلب حلولا شاملة. هذه الحلول لا يجب أن تقتصر على زيادة إنتاج الغذاء فقط، بل يجب أن تركز أيضا على ترشيد الاستهلاك، الحد من الهدر، وتحسين البنية التحتية. كما يجب أن يكون هناك وعي اجتماعي عميق حول تأثير التوسع الزراعي غير المدروس، حيث أن زيادة الإنتاج دون مراعاة التأثير البيئي تؤدي إلى تدهور البيئة وفقدان التنوع البيولوجي، وهو ما يزيد من تعقيد الأزمة بدلًا من حلها.
في نهاية المطاف، لا يمكن تجاهل أهمية الزراعة غير التقليدية في مواجهة هذه التحديات. هذه الزراعات، التي تعتمد على استخدام أساليب مبتكرة ومستدامة، قد تكون الحل الأمثل لمواجهة الجوع وتقليل الفاقد الغذائي. ولكن لكي تنجح، يجب أن يتم دعمها من خلال السياسات الحكومية، التعاون بين المجتمع المدني والقطاع الخاص، وتوعية المزارعين بأهمية التحول نحو زراعات تتناسب مع التحديات البيئية والاقتصادية الراهنة.
في عالم اليوم، يعتمد النظام الغذائي العالمي بشكل رئيسي على خمسة محاصيل تقليدية: الأرز، القمح، الذرة، الصويا، والبطاطس. رغم أهمية هذه المحاصيل في توفير الغذاء لكثير من سكان الأرض، إلا أنها تواجه تحديات جمة تهدد قدرتها على الاستمرار في تلبية احتياجات السكان المتزايدين. فمع تزايد ظواهر التغير المناخي بشكل متسارع، تبرز التساؤلات حول ما إذا كانت هذه المحاصيل قادرة على الصمود في وجه هذه التغيرات على المدى الطويل.
تأتي هذه التحديات في وقت يتزايد فيه عدد السكان الذين يعتمدون على نظم زراعية هشة وحساسة لتقلبات الطقس. فالكثير من المجتمعات الزراعية تعيش في مناطق تتأثر بشدة بالتغيرات المناخية، حيث تؤدي تقلبات الأمطار وارتفاع درجات الحرارة إلى تأثيرات سلبية على الإنتاجية الزراعية. في ظل هذه الظروف، يصبح من الواضح أن الاعتماد الكلي على المحاصيل التقليدية لم يعد خيارًا مستدامًا.
لذا، تبرز الحاجة الملحة للاعتماد على التنوع الزراعي كوسيلة لتحسين الإنتاجية الزراعية. من خلال زراعة محاصيل غير تقليدية، يمكن تحقيق فوائد عدة، ليس فقط في توفير غذاء آمن وعالي الجودة للجميع، بل أيضًا في تحسين مستويات المعيشة للمجتمعات الزراعية. إن استخدام المحاصيل الجديدة يفتح الأبواب أمام استراتيجيات زراعية مستدامة تساعد في مواجهة التحديات البيئية، خاصة في ظل تنافس المجتمعات على موارد المياه.
تتطلب هذه الخطوة أيضا دعما حكوميا فعّالا وتكافلا اجتماعيا حقيقيا. يمكن أن تبدأ الحكومات من خلال تنفيذ برامج تغذية مدرسية صحية، تعزز من الوعي بأهمية الغذاء المتنوع والمغذي. علاوة على ذلك، يجب أن تشمل الجهود التوعوية جميع فئات المجتمع، حيث أن الفهم العام لدور الغذاء في الصحة العامة يمكن أن يساهم في تقليل الفاقد من الطعام والحد من الاستهلاك المبالغ فيه.
إلى جانب ذلك، يتعين إجراء المزيد من البحوث الزراعية لتطوير تقنيات زراعية جديدة ورفع إنتاجية المحاصيل التقليدية وغير التقليدية. يجب أن تتلاءم السياسات الغذائية مع التغيرات المناخية من خلال إدخال محاصيل صحية غنية بالعناصر الغذائية المفيدة. تعتبر الأبحاث جزءا أساسيا من هذه المعادلة، حيث تؤدي الابتكارات الزراعية إلى زيادة الإنتاجية وتوفير حلول تتكيف مع التحديات التي تطرأ.
في خضم هذه التحديات، يجب أن نتذكر أن التغيرات المناخية ليست مجرد ظاهرة طبيعية، بل هي نتيجة لممارسات غير مستدامة. لذا، فإن الحل يكمن في تبني استراتيجيات زراعية مستدامة تأخذ بعين الاعتبار البيئة وتؤمن مستقبلا غذائيا آمنا. من خلال تعزيز التنوع الزراعي، نحقق توازنًا بين الإنتاج الزراعي والحفاظ على الموارد الطبيعية، مما يساعد في النهاية على توفير غذاء صحي ومغذي للجميع.
في الختام، يُظهر الوضع الراهن أن تبني محاصيل جديدة غير تقليدية والتنوع الزراعي ليس مجرد خيار، بل ضرورة ملحة لمواجهة التحديات التي يواجهها العالم في مجال الغذاء. إن الاستثمار في البحث الزراعي، والتوعية المجتمعية، والدعم الحكومي هما الركائز الأساسية لتحقيق استدامة فعالة وضمان مستقبل غذائي آمن لجميع سكان الأرض.
تعتبر قضية الهدر الغذائي ومكافحة الجوع من أبرز التحديات التي تواجه العالم العربي في الوقت الراهن. فمع تزايد عدد السكان وارتفاع معدلات الفقر، يصبح من الضروري تبني استراتيجيات فعّالة تسهم في تحسين الأمن الغذائي. وفي هذا السياق، أقدم بعض التوصيات التي يمكن أن تُحدث تغييرًا إيجابيًا في مواجهة هذه التحديات:
1ـ تشكيل لجنة من خبراء المناخ
يُعد تشكيل لجنة من خبراء المناخ خطوة حيوية لاستجابة فعّالة للتغيرات المناخية وتأثيرها على الزراعة. ستقوم هذه اللجنة بإعداد تقارير دورية تُرفع إلى المجلس وجامعة الدول العربية، مما يتيح للدول العربية الحصول على معلومات دقيقة حول الوضع المناخي وآثاره على إنتاج المحاصيل. هذه المعلومات تساعد الحكومات على اتخاذ قرارات مستنيرة بشأن مواعيد الزراعة والتكيف مع الظروف المناخية المتغيرة، مما يعزز الإنتاجية ويقلل من المخاطر المرتبطة بالتغيرات المناخية.
2ـ تأسيس مبادرة عربية لجمع الفائض من الغذاء
تُعتبر فكرة إنشاء مبادرة عربية لجمع الفائض من الغذاء من الفنادق ومتاجر الجملة والتجزئة خطوة استراتيجية نحو تقليل الهدر الغذائي. من خلال تنظيم حملات أسبوعية لجمع هذا الفائض وتوزيعه على الشعوب الأكثر جوعًا في المنطقة العربية وأفريقيا، يمكن تحقيق توازن أكبر في توزيع الموارد الغذائية. ينبغي أن تشمل هذه المبادرة التعاون مع الجهات المعنية في حكومات الدول العربية لضمان نجاحها، مما يسهم في تعزيز التضامن الإقليمي في مواجهة الجوع.
3ـ حملة توعوية على وسائل التواصل الاجتماعي
في عصر المعلومات، تلعب وسائل التواصل الاجتماعي دورا محوريا في نشر الوعي. لذا فإن تدشين حملة توعوية تستهدف الحد من سلوكيات الهدر الغذائي ومكافحة الجوع يُعد أمرا ضروريا. ينبغي أن تتضمن الحملة مقاطع فيديو، ومواد تعليمية، وورش عمل تهدف إلى توعية الناس حول أهمية الاستهلاك المسؤول. بزيادة الوعي، يمكن أن يتحول السلوك المجتمعي نحو تقليل الفاقد الغذائي وتعزيز القيم الإنسانية.
4ـ تعريف المزارعين بالمحاصيل غير التقليدية
في ظل التغيرات المناخية المتسارعة، يصبح من الضروري توسيع قاعدة المحاصيل الزراعية. لذلك، يجب تعريف المزارعين بالمحاصيل غير التقليدية مثل الكينوا والدخن والسورجام والكسافا، والحنطة السوداء، والشيا، والتي، والقاطونة، والامرنت وغيرها ….. والتي تُعتبر محاصيل المستقبل. التوسع في زراعة هذه المحاصيل يمكن أن يساهم في تحسين معيشة المجتمعات الزراعية، حيث توفر هذه المحاصيل خيارات غذائية غنية ومغذية. كما أن توطين هذه المحاصيل في البلدان العربية سيعزز من التنوع الزراعي ويزيد من الأمن الغذائي.
5ـ دعوة الإعلاميين للتوعية بخطورة هدر الغذاء
للإعلام دور كبير في تشكيل الرأي العام. لذا، فإن دعوة الإعلاميين في الوطن العربي للتوعية بخطورة مشكلة هدر الغذاء تُعتبر خطوة هامة. ينبغي أن يُركّز الإعلام على محاربة السلوكيات الخاطئة التي تؤدي إلى زيادة الهدر، مثل البرامج التلفزيونية التي تروج لثقافة الإسراف في الطعام. بزيادة الوعي حول هذه المشكلة، يمكن أن تُحسن المجتمعات من سلوكياتها الاستهلاكية، مما يساهم في تقليل الهدر.
تنفيذ هذه التوصيات يتطلب تعاونًا مشتركًا بين الحكومات، والمجتمع المدني، والقطاع الخاص، مما يمكّن من تحقيق نتائج ملموسة تعود بالنفع على المجتمعات وتساهم في تحقيق التنمية المستدامة.
إن مواجهة تحديات الجوع والهدر الغذائي تتطلب منا التفكير خارج الصندوق وتبني استراتيجيات مبتكرة قائمة على التنوع الزراعي، بما في ذلك الاستفادة من المحاصيل غير التقليدية. في ظل الظروف المناخية القاسية والموارد المحدودة، تبرز هذه المحاصيل كحلول فعالة لتعزيز الأمن الغذائي وتحسين جودة الحياة للمزارعين والمستهلكين على حد سواء.
من خلال تعزيز التعاون بين الحكومات، القطاع الخاص، ومنظمات المجتمع المدني، يمكننا تطوير مبادرات شاملة تساهم في تقليل الهدر الغذائي، وتعزيز الوعي بأهمية الاستهلاك المستدام. كما أن توفير التعليم والتدريب للمزارعين حول زراعة المحاصيل غير التقليدية سيسهم في تحسين دخلهم وزيادة إنتاجيتهم، مما يعزز من قدرتهم على مواجهة الأزمات الغذائية.
إن الطريق إلى مستقبل غذائي مستدام يتطلب التزاما جماعيا من جميع الفاعلين في المجتمع، حيث يمكن للجهود المبذولة أن تحقق فوائد واسعة النطاق تتجاوز حدود القضايا الغذائية، لتؤثر بشكل إيجابي على البيئة والاقتصاد والمجتمعات المحلية. بتوحيد الجهود والاستراتيجيات، يمكننا أن نواجه “الغول المفترس” للجوع، ونخطو خطوات جادة نحو عالم خالٍ من الجوع، حيث يتمتع الجميع بحق الوصول إلى غذاء آمن ومغذي.