رأى

الأعاصير والزلازل ليست كوارث طبيعية فقط: كيف صنع الإنسان وحشاً بيئياً؟

بقلم: د.شكرية المراكشي

الخبير الدولي في الزراعات البديلة ورئيس مجلس إدارة شركة مصر تونس للتنمية الزراعية

في ليلة عاصفة، حين تتكسر الأمواج على الشواطئ وتزمجر الرياح كوحشٍ هائج، يهرع البشر إلى الملاجئ متضرعين للنجاة. وفي لحظة اهتزاز الأرض، حين تتمايل المباني وتُفتَح في باطنها شقوق كأنها أبواب إلى الجحيم، يظن الناس أن الطبيعة تثأر. لقرون طويلة، نظر الإنسان إلى الأعاصير والزلازل والفيضانات كقوى طبيعية عمياء، ضربات قدرية لا يد له فيها. لكن، هل كانت الطبيعة دومًا بهذا الغضب؟ أم أننا نحن من أشعل فتيل جنونها؟

لم تعد الكوارث الطبيعية “طبيعية” تمامًا. أصبحت تحمل بصمات بشرية واضحة، كأنها صرخة ألم من كوكب أرهقته طموحاتنا، واستنزفناه حتى الثمالة. لقد صنعنا وحشًا بيئيًا بأيدينا، غذيناه بالوقود الأحفوري، ورويناه بأطنان من الكربون، ثم استغربنا حين انقلب علينا. ليست الكارثة في زلزال يهدم مدينة، ولا في إعصار يبتلع الساحل، بل في أننا أصبحنا نحن السبب الخفي، الضمير الغائب، وراء كل هذا الدمار المتصاعد.

نحن من أخلّ بالتوازن القديم. فتحنا باطن الأرض دون رحمة، حرقنا غابات بأكملها لتوسيع المصانع، نفخنا السموم في الهواء والبحار، وأطلقنا العنان لنظام اقتصادي لا يعترف إلا بلغة الربح. واليوم، تدور العجلة علينا: الكوكب يختنق، والمناخ يتمرد، والضحايا في ازدياد. الأعاصير صارت أعنف، الفيضانات أغزر، والزلازل تتكرر في مناطق كانت نائمة قرونًا، وكأن باطن الأرض نفسه بدأ يفقد صبره.

لكن المأساة الأكبر ليست في جنون الطبيعة، بل في ظلم الإنسان لأخيه الإنسان باسم التقدم. ففي الوقت الذي تتسبب فيه الدول الصناعية الكبرى في معظم الانبعاثات، تدفع الدول الفقيرة الثمن الأكبر. أطفال في أفريقيا وآسيا يُهجرون من قراهم، وسكان الجزر الصغيرة يعيشون كأنهم في سباق مع البحر، بينما المدن الكبرى تبني ناطحات سحابها فوق رماد الغابات المحترقة.

من هنا، تبدأ الأسئلة الحقيقية: هل يمكن فصل الكوارث الطبيعية عن النشاط البشري؟  كيف يتحول الجشع الاقتصادي إلى وقود يغذي “العنف المناخي”؟  ولماذا تصحو البراكين النائمة وكأنها تذكّرنا بأننا لسنا سادة هذا الكوكب كما توهمنا؟

دعونا نناقش أعماق هذه الأسئلة، ونفكك هذا الوحش الذي صنعناه، محورًا تلو الآخر، لنفهم كيف أصبح الإنسان ذاته كارثة على الأرض التي منحته الحياة.

1ـ هل الكوارث لا تزال “طبيعية”؟

هل الكوارث لا تزال “طبيعية”؟ سؤال بسيط في ظاهره، لكنه يحمل في طياته تشكيكًا صريحًا في الصورة التي رسمناها لقرون عن علاقة الإنسان بالطبيعة. في كل مرة يضرب فيها زلزال مدينة بأكملها أو يزأر إعصار في وجه حضارة متقدمة، نرفع أيدينا نحو السماء ونكتفي بأن نقول: إنها الطبيعة… لا يد لنا فيها. لكن هل هذه براءة حقيقية أم تواطؤ ناعم؟ هل نحن حقًا مجرد ضحايا أبرياء لقوى كونية، أم أننا شركاء – بل وربما جناة – في جريمة بيئية مكتملة الأركان؟

الواقع أن نظرتنا إلى الكوارث قديمة، تنتمي لعصر ما قبل المعرفة. حين كنا نعيش في أكواخ من الطين، ونشعل النيران بالحجر، كانت الطبيعة بالفعل تفوقنا فهمًا وقوة، تضربنا وتغفر لنا في الوقت نفسه. أما اليوم، فنحن لم نعد الكائنات الضعيفة التي تلوذ بالكهوف عند أول برق، بل أصبحنا آلهة صغيرة نغوص في أعماق الأرض بحثًا عن كنوزها، ونرسم في السماء خطوط طائراتنا، ونحدد مصير الأنهار بمسار أنابيبنا. وبذلك، تغيرت المعادلة.

لم تعد الزلازل تهزّ الأرض فقط بسبب حركة الصفائح التكتونية؛ هناك زلازل اليوم تُولد تحت المدن لا بفعل الطبيعة، بل بفعل الإنسان – من خلال أنشطة مثل التكسير الهيدروليكي الذي يحطم الصخور لاستخراج الغاز، أو التعدين العشوائي الذي ينهش بطن الأرض كمن يحفر قبره بيده. ولم تعد الأعاصير مجرد دوامات موسمية، بل صارت كائنات ضخمة تتضخم بفعل سخونة المحيطات التي رفعنا حرارتها بأنفاس مصانعنا وحرائق غاباتنا ونفاياتنا السامة التي ألقتها حضارتنا على جسد الكوكب بلا رحمة.

حتى الفيضانات، لم تعد كلها بفعل الأمطار فقط، بل نتيجة تغييرات مناخية خلقناها نحن بأنفسنا: إزالة الغابات التي كانت تمتص المياه، رصف الأرض بالإسمنت بدلًا من أن تبتلعها التربة، وتعطيل دورة المياه الطبيعية التي كانت تنظمها الطبيعة بدقة لا يقدر عليها سوى خالقها. كل هذه الأفعال تجعلنا مشاركين في صناعة الدمار، لا مجرد ضحايا له.

ولأننا نعيش في عالم لا يؤمن إلا بالوثائق والإثباتات، فها هي الإحصاءات تُظهر أن عدد الكوارث المسجلة سنويًا تضاعف أكثر من ثلاث مرات خلال العقود الثلاثة الأخيرة. ليس لأن الأرض صارت أكثر غضبًا فجأة، بل لأننا نحن من أصبحنا أكثر تهورًا، أكثر جشعًا، وأقل احترامًا لكوكب منحنا كل شيء، فرددنا الجميل بالاحتلال والتدمير.

لم تعد الكوارث “طبيعية” لأننا ببساطة لم نعد “طبيعيين”. لقد خرجنا عن فطرتنا، عن بساطتنا، عن تناغمنا القديم مع الأرض. ولم نكتفِ بذلك، بل ظننا أن ذكاءنا التكنولوجي كافٍ لنروض العاصفة ونكبح الزلزال ونتحكم في المطر. لكن ها نحن نكتشف، متأخرين كما العادة، أن الطبيعة وإن صمتت طويلًا، لا تنسى. وأن غضبها حين ينفجر، لا يميز بين مُذنب وبريء، بل يجرف الجميع، كأنها تكتب نهاية مسرحية بدأناها نحن، وغفلنا عن نهايتها.

وفي قلب هذا المشهد، يصبح من الضروري أن نعيد النظر في أصل الأشياء، ونسأل بجرأة غير معتادة: هل الأعاصير والزلازل فعل الطبيعة؟ أم أنها، في الحقيقة، صرخة كوكب يحتضر؟

التقدم العلمي كشف أن الكوارث مثل الزلازل والأعاصير والفيضانات لم تعد “طبيعيًة” تمامًا:

الكوارث مثل الزلازل والأعاصير والفيضانات كانت تُعتبر دومًا قوى طبيعية خارجة عن إرادة الإنسان، عواصف عمياء تضرب دون سابق إنذار، ويدٌ غامضة تعبث بخرائط الأرض والسماء. لقرون طويلة، كانت هذه الظواهر تُقرأ بوصفها رسائل من الطبيعة أو حتى عقابًا سماويًا، وكان الإنسان يكتفي بدور الضحية، يتضرع، يهرب، يُعيد البناء، ثم ينتظر الضربة التالية بصمت. لم يكن هناك مجال للسؤال: “لماذا؟” بل فقط: “متى؟”. غير أن الزمن تغيّر، والعلم كشف النقاب عن حقائق كانت مدفونة في العتمة، وبدأنا نعيد النظر في هذه العلاقة الملتبسة بين الإنسان والكوكب. لم يعد كل ما كنا نظنه طبيعيًا بريئًا كما يبدو، فبعض هذه الكوارث لم تعد “طبيعية” تمامًا، بل صارت في كثير من الأحيان من صنع أيدينا نحن، ضحاياها وصانعوها في آنٍ معًا.

لقد وضع التقدم العلمي بين أيدينا مجهرًا نرى به عمق الأثر البشري على التوازن البيئي. لم نعد نرى الزلازل فقط على أنها نتيجة لتحرك الصفائح القارية، بل اكتشفنا أن الإنسان نفسه قادر على تحريك الأرض، بل على “استفزازها”. عبر عمليات مثل التكسير الهيدروليكي والتعدين المفرط وضخ كميات هائلة من المياه والمواد الكيميائية في باطن الأرض، صار بالإمكان أن نصنع زلزالًا بأيدينا، أن نوقظ صدعًا كان نائمًا منذ آلاف السنين. أما الأعاصير، فقد زادت شراستها واتساع رقعتها، ليس فقط لأنها قررت ذلك، بل لأن حرارة المحيطات ارتفعت بفعل الاحتباس الحراري الذي أشعلناه نحن بحرق الفحم والنفط والغاز لعقود بلا انقطاع، دون أن نحسب حساب العواقب.

الفيضانات التي كانت تضرب كل بضع سنوات، باتت ضيفًا دائمًا على نشرات الأخبار، تغرق مدنًا بأكملها، وتبتلع الشوارع والمنازل والذكريات. لكنها لم تعد تأتي فقط من سحبٍ ممتلئة، بل من أنهار فقدت مجاريها، وسدود انهارت تحت وطأة الإهمال، وسواحل تآكلت بسبب ارتفاع مستوى البحار الناتج عن ذوبان الجليد في القطبين – الجليد الذي أذبناه نحن، ببطء ولكن بثبات، عبر سياسات اقتصادية جشعة، ترى في الغابات عقارات وفي البحار مصادر دخل، وفي الهواء مكبًا مجانيًا للعوادم.

لقد تجاوزنا مرحلة أن نكون مجرد كائنات تتأثر بالطبيعة، وصِرنا كائنات تؤثر فيها، تغيّر ملامحها، وتعيد تشكيل سلوكها. لكننا في هذا التأثير لم نكن حكماء، بل طامعين، لم نحترم قانون الأرض، ولم نستوعب أن الكوكب لا ينسى. واليوم، حين نرى مدنًا تغرق، وجزرًا تختفي، وسكانًا يُهجرون من ديارهم بفعل التصحر أو الفيضانات أو الزلازل المصطنعة، علينا أن نواجه الحقيقة المُرَّة: لسنا فقط ضحايا الكوارث، نحن أيضًا من أطلق سراح الوحش من قمقمه.

الكارثة إذًا لم تعد حدثًا طبيعيًا فحسب، بل أصبحت عرضًا من أعراض مرض بيئي صنعه الإنسان بنفسه. ومن هنا تبدأ الرواية المعقدة لعصر جديد من “العنف المناخي” – عنف لا تُمارسه الطبيعة وحدها، بل يُمارسه نظام اقتصادي عالمي وضع الربح قبل الحياة، والسرعة قبل التوازن، والطموح الأعمى قبل الحكمة.

الزلازل قد تكون ناجمة عن أنشطة بشرية مثل التكسير الهيدروليكي (Fracking) والتعدين العميق.

في أعماق الأرض، حيث تسكن طبقات الصخر القديمة وتحفظ أسرار العصور الجيولوجية، هناك سكون يشبه النوم، توازن هشّ صنعته الطبيعة عبر ملايين السنين، توازن لا يُكسر إلا عندما تتدخل يدٌ غريبة، يدٌ لا تنتمي إلى هذا العالم السفلي. الإنسان، مدفوعًا بجوعه للثروات، قرر أن يدخل هذه العتمة، لا ليتأملها، بل ليقتلع منها ما يُشبع طموح اقتصاده المتوحش. ومع كل عملية تكسير للصخور، مع كل حفرة تُشق في باطن الأرض بحثًا عن الغاز أو المعادن، كانت الأرض تبدأ بالتحرك – لا برغبة منها، بل بوجعٍ لم تعرفه من قبل.

ظاهرة التكسير الهيدروليكي، أو ما يُعرف بـFracking، تبدو للوهلة الأولى مجرد عملية هندسية معقدة تُستخدم لاستخراج الغاز الطبيعي من الصخور العميقة. لكنها في الحقيقة أشبه بعملية جراحية عنيفة تُجرى على جسد الكوكب دون تخدير. يتم فيها ضخ ملايين اللترات من المياه المختلطة بالمواد الكيميائية بضغط هائل في عمق الأرض، ما يؤدي إلى تكسير الصخور الحاملة للغاز، ومن ثم إطلاقه. لكن هذا الضغط المصطنع لا يفتح فقط مسارات للغاز، بل يفتح أبوابًا كانت مغلقة في أعماق الجيولوجيا، ويزعزع توازنات لا يراها الإنسان، لكنه يوقظها عنوة.

الزلازل الناتجة عن هذه العملية تُعرف باسم “الزلازل المستحثة”، وهي ليست كوارث طبيعية، بل ارتدادات لأفعالنا نحن. في الولايات المتحدة، مثلًا، سجلت مناطق لم تكن تعرف الزلازل من قبل – كأوكلاهوما – نشاطًا زلزاليًا متزايدًا في العقود الأخيرة، والسبب لم يكن حركة الصفائح التكتونية، بل حركة آبار النفط والغاز، والحقن العميق للسوائل في الأرض. أصبح من الممكن، ببساطة، أن يصحو الناس على اهتزازات غير مألوفة، لا تأتي من السماء، بل من تحت أقدامهم، من حيث كانت الأرض دومًا الأم الحاضنة، لا المفترسة.

أما التعدين العميق، فله حكاية أخرى من العبث الجيولوجي. هذه العملية، التي تهدف لاستخراج المعادن من أعماق شديدة الغور، تقوم بإفراغ باطن الأرض من محتواه، وتترك فراغات ضخمة كأنها كهوف خفية. تلك الفراغات قد تنهار في أي لحظة، أو تؤدي إلى تغييرات في توزيع الضغط الأرضي، مما يُحدث تشققات، وانهيارات، وقد يصل الأمر إلى زلازل تُحسب على الطبيعة، بينما هي في حقيقتها توقيعات بأسماء شركات التعدين ومقاولي الطاقة.

إننا لا نحفر فقط بحثًا عن الثروة، بل نحفر في قلب التوازن، في هندسة الطبيعة التي لم تُصمم لتُخرّب بهذا الشكل. قد لا نرى العواقب في اللحظة ذاتها، لكن الأرض تحفظ الحساب، وتعيده إلينا متى شاءت، في شكل زلزال يبدو “طبيعيًا” على شاشات الأخبار، لكنه في الحقيقة صرخة من باطن جُرِح مرارًا، دون أن يصرخ.

إن الزلازل التي نصنعها بأنفسنا تُظهر بوضوح أن الكوكب ليس ساحة صامتة، بل كائن حساس يتألم بصمت حين نبالغ في الطمع. وربما آن الأوان أن نتوقف عن الاكتفاء بالدهشة حين تهتز الأرض، وأن نبدأ بالتساؤل الجاد: من هزّها حقًا؟

الأعاصير أصبحت أكثر شراسة بسبب الاحتباس الحراري الناتج عن انبعاثات الكربون من الصناعات والنقل.

في أعماق المحيطات، حيث كانت المياه تحتفظ بحرارتها بانضباط يشبه النبض المنتظم، بدأ الإيقاع يختل. لم يكن الخلل طبيعيًا، بل نتيجة لارتفاع حرارة الأرض بدرجات صامتة ولكن قاتلة، كمن يشعل نارًا صغيرة تحت قدرٍ عملاق وينتظر أن يغلي. هذا الغليان لم يكن مرئيًا بالعين المجردة، لكنه كان يتجمع في الأعماق، ويصعد مع البخار ليشعل سماءً تغضب، وليحوّل الأعاصير من ظواهر موسمية مألوفة إلى وحوش جوية تزداد جموحًا عامًا بعد عام.

الأعاصير لا تولد في الفراغ، بل في مناطق دافئة من المحيط، حيث تدفع الشمس بحرارتها بخار الماء إلى الأعلى، فتتشكل الغيوم، وتبدأ العاصفة في التكون. لكن عندما ترتفع حرارة المحيط بسبب الاحتباس الحراري، تتسارع هذه الدورة، وتضطرب، وتكسب الأعاصير طاقة إضافية تجعلها أكثر قوة، أكثر سرعة، أكثر دمارًا. لقد أصبحت هذه الكائنات الجوية تتغذى على الحرارة الزائدة التي صنعها الإنسان بنفسه، كمن يربي وحشًا في بيته ثم يتظاهر بالدهشة حين يهاجمه.

الاحتباس الحراري، الذي كان مجرد نظرية علمية قبل عقود، صار الآن حقيقة تتجلى في كل عاصفة مدارية تهب بقوة غير مألوفة، تقتلع البيوت من جذورها، وتحمل الأشجار كما لو كانت أعواد ثقاب. ووراء هذه الحقيقة يقف سيل جارف من انبعاثات الكربون، تطلقها مداخن المصانع، ومحركات السيارات، وأبراج الكهرباء، وطائرات تعبر السماء يوميًا بالملايين. إن غازات الدفيئة التي تملأ الغلاف الجوي لا تكتفي بحبس الحرارة، بل تحبس معها مصير الكوكب بأكمله.

الأعاصير التي كانت تضرب سواحل بعينها في فصول محددة، أصبحت اليوم تمتد إلى مناطق لم تعرفها من قبل، وتضرب بقوة مضاعفة، وتترك خلفها كوارث لم تكن محسوبة في سيناريوهات الماضي. كل عاصفة هي مرآة لاقتصاد لم يعرف الكبح، لنموّ بلا حدود، لا يرى في الأرض إلا مصدراً للربح، لا كياناً حياً يتنفس ويغضب ويثور.

ولم تعد الأعاصير مجرد ظواهر مناخية، بل صارت رسائل احتجاج مناخي ضد حضارة تسير عمياء نحو حتفها. حضارة قايضت المناخ المستقر بعالم صناعي لا يرحم، ودفعت في المقابل ثمناً يزداد قسوة مع كل إعصار جديد. لكن السؤال الأكبر يظل معلقًا في الهواء الملبّد بالرماد: إلى متى نظل نغذي هذا الوحش الذي صنعناه بأيدينا؟

ارتفاع حرارة المحيطات يغذي الأعاصير ويحولها إلى “وحوش مناخية“.

في قلب المحيطات، حيث كان الصمت يومًا لغة الحياة، تصاعدت الحرارة في خفاء قاتل، وانقلب الهدوء إلى خدرٍ ما قبل العاصفة. لم تعد مياه البحار تكتفي بمداعبة الشواطئ أو احتضان الكائنات في عمقها، بل بدأت تحتفظ بطاقة حرارية هائلة، كامنة كالغضب، تنتظر اللحظة المناسبة لتنفجر. ومع كل جزء من الدرجة ترتفعه حرارة المحيط، يزداد جنون الأعاصير، وتتحول من عواصف عابرة إلى وحوش مناخية متعطشة للهدم.

المحيط، هذا الكائن الأزرق الشاسع، لم يكن يومًا مجرد كتلة مائية، بل رئة تنظم حرارة الأرض، ووسيط ينقل الطاقة بين السماء والأرض. لكنه اليوم يعاني من الحمى، إذ امتصّ من حرارة الشمس أكثر مما يحتمل، ليس لأنه أراد ذلك، بل لأن الغلاف الجوي اختنق بثاني أكسيد الكربون، فحبس الحرارة، ووجهها نحو البحر. وهكذا صار سطح المحيط وكأنه مقلاة ضخمة على نار خفية، تتصاعد منها أبخرة تخلق غيومًا كثيفة، وتدور، ثم تدور، ثم تنفجر كإعصار جامح لا يعرف الرحمة.

تولد الأعاصير فوق البحار الدافئة، وتشتدّ عندما تجد وقودها الحراري جاهزًا. وكلما ارتفعت حرارة المياه، زادت قوة الأعاصير، لا بشكل تدريجي فحسب، بل أسي، كأن كل ارتفاع بسيط في درجة الحرارة هو أمر بالغ الخطورة، لا يُستهان به. فما كان في الماضي إعصارًا من الدرجة الأولى، صار الآن، في ذات الظروف، إعصارًا من الدرجة الخامسة، أو أكثر، يحمل رياحًا تكفي لاقتلاع مدن، ويدفع أمواجًا تغمر اليابسة كما لو كانت مجرد امتداد مائي قابل للابتلاع.

تلك الوحوش المناخية، لم تعد تكتفي بتدمير البنية التحتية أو تشريد السكان، بل صارت تُعيد رسم الجغرافيا نفسها. بلدان بأكملها، من بنغلاديش إلى الفلبين، ومن الكاريبي إلى الولايات المتحدة، تعيش موسم الرعب كل عام، ليس بسبب قوة الطبيعة وحدها، بل بسبب عبث الإنسان بتوازنات الأرض. الأعاصير لم تعد مفاجآت مناخية، بل نتائج منطقية لمعادلة بسيطة: حرارة أعلى = أعاصير أقسى.

ومع استمرار التلوث وغياب الإرادة السياسية لخفض الانبعاثات، فإن المحيط سيواصل تسخين غضبه، وسيواصل تربية هذه الكائنات الجوية الوحشية التي لا تعترف بالحدود، ولا تفرق بين دول فقيرة وغنية. إنها عدالة مناخية قاسية… لكنها ليست عمياء. إنها عقوبة نُسجت في رحم البحار، بخيوط من لهبٍ بشري، وعجز جماعي عن الإصغاء لصوت الطبيعة قبل أن يتحول إلى صراخ.

  2ـ العنف المناخي – مفهوم جديد لواقع قديم

في الماضي، كان المطر يُعدّ نعمة، والرياح مجرد نسمة غاضبة، والعواصف تنذر الناس وتغادر، أما اليوم فقد بات الطقس نفسه أداة ترهيب. لم يعد المناخ مجرّد خلفية للحياة، بل أصبح لاعبًا رئيسيًا في مشهد العنف العالمي. إنه ليس   سلاحًا جديدًا، بل وجهٌ جديد لسلاح قديم: “العنف المناخي”، ذلك المفهوم الذي انبثق من رحم الكارثة، ليفضح حقيقة أن الطبيعة لم تتمرد وحدها، بل دُفعت دفعًا نحو الجنون.

“العنف المناخي” ليس مجرد عبارة إنشائية تُلقى على مسامع العالم في المؤتمرات البيئية، بل هو تشخيص دقيق لواقع مأساوي يزداد اشتعالًا كل يوم. هو تعبير عن طقس لم يعد بريئًا، بل يحمل نوايا انتقامية، كأنه يثأر من بشرٍ جردوه من توازنه، وأثقلوا كاهله بانبعاثات جشعهم. هو عنف لا يُمارس بالسلاح، بل بالماء حين يغرق المدن، وبالرياح حين تقتلع البيوت، وبالحرارة حين تحرق الأرض ومن عليها، وبالجفاف حين يُجفّف الحقول ويُحطّم الأمن الغذائي.

في قلب هذا المفهوم تتقاطع المناخات المتطرفة مع السياسات الاقتصادية المتوحشة، لتخلق واقعًا يكون فيه الإنسان ضحية لجشعه. فحين يُستنزف النفط بلا هوادة، وتُقطع الغابات باسم التنمية، وتُسمّم الأنهار باسم التصنيع، فإن المناخ لا يصمت. بل يسجل، ويتراكم، ويعود، لا ليعاتب، بل ليُعاقب. وكل عقوبة ليست مجرد كارثة طبيعية، بل فعل عنيف يحمل رسالة، وإن كانت قاسية: لقد تجاوزتم الحد.

لكن “العنف المناخي” لا يوزع ضرباته بعدالة. إنه ككل أشكال العنف في هذا العالم، ينتقي ضحاياه من الأضعف: دول فقيرة لم تساهم في تدمير المناخ لكنها تدفع الثمن مضاعفًا. قرى لا تملك مكيفات هواء تحترق فيها الأجساد تحت موجات الحر، وسكان يعيشون على السواحل يرون المياه تلتهم أراضيهم شبرًا بعد شبر. بينما من أشعلوا الحرائق يراقبون من ناطحات السحاب خلف زجاجٍ لا يخترقه الرماد.

هو عنف يتوارى أحيانًا خلف مصطلحات علمية جافة، كـ”ظاهرة مناخية قصوى” أو “ارتفاع مستويات البحر”، لكنه في حقيقته أكثر فتكًا من الرصاص. لأنك لا تستطيع الهروب من هواء سام، ولا تختبئ من جفافٍ يزحف تحت قدميك، ولا تفاوض على وقت إضافي حين ينقضّ عليك إعصار.

“العنف المناخي” هو إنذار أخير، لكنه أيضًا اعتراف مؤلم. اعتراف بأننا لم نكن يومًا مجرد شهود على غضب الطبيعة، بل كنّا محركيه.

مصطلح “العنف المناخي” يعبر عن أن المناخ بات أداة عنف غير مباشر ضد الفقراء والمستضعفين. .

 لم يعد المناخ في صورته المعاصرة مجرد خلفية هادئة تدور عليها أحداث الحياة اليومية، بل تحوّل إلى فاعل مركزي في مشهد من الألم والعجز، مشهد يشهد على ولادة وجه جديد للعنف، عنف لا تُطلق فيه الرصاصات، ولا تنفجر فيه القنابل، بل تهب فيه الرياح بعنف، ويعلو فيه منسوب البحر كأن الطبيعة قد قررت أخيرًا أن ترد الصفعة لمن صفعها. مصطلح “العنف المناخي” لا يصف مجرد تحوّل في الطقس أو اختلال في التوازن البيئي، بل هو اعتراف قاسٍ بأن المناخ نفسه بات أداة غير مباشرة في مسلسل طويل من الإيذاء الممنهج، ضحيته الأزلية: الفقراء والمستضعفون.

فالعنف المناخي لا يُمارَس على الجميع بنفس السوية، بل يختار ضحاياه كما تفعل الحروب الخبيثة. حين تجتاح الأعاصير مدنًا ساحلية فقيرة، فإنها لا تُسقط المباني فقط، بل تهدم ما تبقى من أمن نفسي واقتصادي لدى من لا يملكون خيار الرحيل أو الحماية. وحين تضرب موجات الجفاف أراضٍ زراعية متهالكة في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، فإنها لا تجفف التراب وحده، بل تحرم الملايين من لقمة العيش والماء النظيف والأمل. إن الفقر هنا ليس مجرد حالة مادية، بل ظرف يجعل من الكارثة المناخية سيفًا مصلتًا على الرقاب، يضرب حين يعجز الضحايا عن التراجع أو الاحتماء.

في عالمٍ لا تزال فيه الثروة هي الدرع الأقوى، يصبح للمناخ سلطة لا ترحم. الأغنياء يحصّنون مدنهم بسدود، وملاجئ، وأنظمة إنذار مبكر، بينما تُترك العشوائيات مكشوفة، تُغرقها الأمطار، وتُذيبها الشمس، وتُغرقها السيول في صمتٍ يشبه القتل المتعمّد. العنف المناخي ليس طبيعيًا بالكامل، إنه صنعة من صنع الإنسان، سلاح صنعه الأغنياء بأنانيتهم الصناعية، ودفع ثمنه من لم يسهموا في إطلاق رصاصة واحدة من هذا السلاح.

إنه عنف لا يمكن تتبعه في محاكم ولا محاسبة مرتكبيه بسهولة، لكنه أشد فتكًا من الرصاص. إنه تهجير قسري خلفه ارتفاع منسوب البحر، وحرائق مهولة تندلع في أراضٍ جافة تركها الإهمال بلا غابات ولا دفاع، وهجرة جماعية من مزارع تحوّلت إلى صحارى. العنف المناخي لا يُحمل على الأكتاف، بل يُحمل على السحب، والرياح، والماء، ويهبّ من كل صوب، ليقول بوضوح: هناك من صنع الوحش، وهناك من سُحق تحت قدميه.

هو عنف لا يترك جثثًا ظاهرة، لكنه يترك مجتمعات تنهار، واقتصادات تنكمش، وأجيالًا تولد على أنقاض الأمل. هو تذكير مستمر بأن جشع الاقتصاد الحديث لا يقتل فقط بالاستغلال، بل بالاحتباس الحراري، بالتصحر، بالعواصف، بالعطش، بالجوع، وبالصمت المطبق أمام معاناة من لم يملكوا في هذا العالم سوى موقعهم الجغرافي السيئ وحظهم العاثر في خريطة المصالح.

الكوارث تضرب الأكثر هشاشة في النظام العالمي: المناطق الأفقر، الأقل بنية تحتية، والأقل مساهمة في التلوث أصلًا.

عندما يثور غضب الطبيعة، لا يكون عادلاً ولا محايدًا، لكنه في ظل النظام العالمي الحالي، يُوجّه ضرباته بشكل يكاد يبدو ممنهجًا نحو الأكثر هشاشة، نحو أولئك الذين لم يسهموا في تلويث الكوكب، ولم يشاركوا في سباق التصنيع الأعمى، ولم يكن لهم نصيب من أرباح الاقتصاد القائم على استنزاف الأرض والهواء والماء. الكوارث، رغم أنها تُولد من رحم الأرض أو المحيط أو السماء، إلا أنها تهبط على رؤوس الفقراء كقدر محتوم، لا يد لهم فيه ولا حيلة لهم أمامه.

فحين يعلو منسوب البحر، لا تغرق الفيلات المشيدة على التلال، بل تختفي تحت المياه القرى الساحلية في بنغلاديش، وجزر المالديف، وبعض شواطئ إفريقيا جنوب الصحراء. وحين تحترق الغابات تحت وطأة موجات الحر، لا يفر منها من يملك تذكرة طيران ومنزلًا ثانيًا، بل تُحاصر النار مزارع الفلاحين الفقراء في جنوب آسيا وأمريكا اللاتينية. وحين تتسلل المجاعات بسبب الجفاف أو الفيضانات المتكررة، لا تقترب من موائد الدول الغنية، بل تُفرغ الصحون في السودان، واليمن، والصومال، وأماكن أخرى كثيرة حيث الغذاء أساسًا لم يكن وفيرًا.

هذه الكوارث لا تطرق أبواب المدن المحصّنة بالبنية التحتية الصلبة، بل تنفذ إلى القرى التي بالكاد تملك كهرباء أو مستشفى أو طريقًا معبّدًا. لا تدمر المصانع العملاقة ولا المراكز المالية، بل تقضي على البيوت الطينية، والمدارس الصغيرة، والحقول التي عاش أصحابها على أمل موسم مطير واحد فقط. الكارثة لا تخلق الفجوة، لكنها تعمّقها، وتكشف بأبشع صورةٍ عن اختلال ميزان العدالة المناخية في عالم يُفترض أن يكون موحَّدًا أمام الخطر.

والمفارقة المؤلمة أن الذين يدفعون الثمن الأعلى هم الأقل تسببًا بالمشكلة أصلًا. فالدول الصناعية الكبرى، التي أطلقت ملايين الأطنان من ثاني أكسيد الكربون لعقود طويلة، تملك ما يكفي من الوسائل لحماية نفسها، أو على الأقل للهرب من تبعات ما صنعت. أما الدول الفقيرة، التي لم تُلوّث، ولا استفادت من العوائد الاقتصادية لتلك الممارسات، فهي الآن مطالبة بالدفع مضاعفًا: مرةً بفقرها المزمن، ومرةً أخرى بعجزها عن صد الكوارث التي لم تخلقها.

إنها ليست مجرد كوارث طبيعية، إنها رسالة موجعة بأن العالم لم يكن يومًا متكافئًا في الفرص، ولا حتى في المآسي.

هناك استغلال اقتصادي ممنهج للطبيعة، مما يجعل الأرض ترد بعنفها. .

منذ أن قرر الإنسان أن يجعل من الطبيعة خادمًا مطيعًا لا شريكًا في الوجود، بدأت الأرض تعدّ ردّها بصمت، وتراكم الغضب في جوفها كما تتراكم الأحقاد في قلوب المقهورين. لقد استُنزف كل شيء، الماء، الهواء، التربة، وحتى صمت الجبال لم يسلم من ثقل الآلات. سادت فلسفة الربح، فصار لا يُنظر إلى الغابات كمصدر حياة، بل كمخزون أخشاب قابل للبيع. لم تعد الأنهار تُقدّر كنبض جغرافي مقدّس، بل كأنابيب مفتوحة تُفرغ فيها مخلفات المصانع دون اكتراث.

هذا الاستغلال لم يكن عشوائيًا ولا ارتجاليًا، بل كان ممنهجًا ومدروسًا ومحمياً بتشريعات وأسواق ومصالح كبرى، يقوده طمع لا يشبع، يقيس كل شيء بالأرباح، ولا يعترف بأي قيمة لا تُقاس بالدولار. حُوّلت التربة إلى مسرح لعمليات زراعية ضخمة تُنهكها، ويُغذّى إنتاجها بمواد كيميائية تسممها وتفسد توازنها البيولوجي. الجبال لم تُترك في هيبتها الطبيعية، بل نُهشت من الداخل بفكيّ التعدين الجشع الذي يسلبها معادنها ويتركها خاوية متصدعة.

المحيطات، تلك المساحات الزرقاء التي طالما بدت وكأنها لا تنفد، أُشبعت بالنفط والبلاستيك والمبيدات، حتى بدأت تحبس أنفاسها. والغلاف الجوي، الذي لطالما كان غلاف الأمان، تغلّف اليوم بالغازات الدفيئة المنبعثة من مداخن الصناعات الضخمة وعوادم المركبات والطائرات، إلى أن تغيّر مزاجه، وارتفعت حرارته، وبدأ يصبّ جمّ غضبه في شكل أعاصير لا تُرحم، وعواصف لا تُوقف، وجفاف قاتل وموجات حرّ مميتة.

ولأن الطبيعة لا تملك محكمة، ولا تسجّل مظالمها في سجلات رسمية، فإنها ترد بطريقتها: عنيفة، حاسمة، عمياء. الزلازل تبتلع ما بُني فوق أوتاد واهية، الأعاصير تقتلع ما امتدّ على حساب الغابات، والفيضانات تُغرق ما أُنشئ فوق السهول المنسية دون اعتبار لقوانين الطبيعة القديمة. الأرض لا تنتقم، لكنها تنفجر حين لا تُحترم، وتثور حين تُستعبد، وتُفقد توازنها حين يُنهب قلبها.

وهكذا، فإن العنف الطبيعي ما عاد بريئًا، بل صار، في كثير من أوجهه، نتاجًا مباشرًا لصفقات الكبار، ونهم الأسواق، وعمى العولمة التي تعاملت مع الطبيعة كما لو كانت منجمًا مفتوحًا بلا نهاية. لكن الحقيقة الأليمة تتجلى اليوم: الطبيعة ليست خادمة، بل شريكة. وإذا استُغلّت على هذا النحو البشع، فإن ردّها لن يكون سوى صيحة مدوية: كفى.

والامثلة كثيرة:

بنغلاديش تعاني سنويًا من فيضانات مدمرة رغم أنها من أقل الدول انبعاثًا للكربون

بنغلاديش، تلك الرقعة الخضراء الممتدة على دلتا الغانج والبراهمابوترا، تكاد تكون مثالًا صريحًا على الظلم المناخي الذي يضرب بوجهه القاسي الفقراء دون أن يلتفت إلى ذنب أو مسؤولية. هذه الدولة الصغيرة من حيث المساحة والغنية بأرواح أكثر من 160 مليون نسمة، لا تسهم إلا بنسبة ضئيلة للغاية في انبعاثات الكربون العالمية، ومع ذلك فإنها تتلقى عامًا بعد عام الصفعات الأعنف من تغيّر المناخ، وكأنها تقف على خط الجبهة الأمامي في حرب لم تشعلها، ولم تخترها، ولم تملك أدواتها.

الفيضانات في بنغلاديش لم تعد أحداثًا موسمية عابرة، بل تحوّلت إلى طوفان متكرر ينهك البلاد، ويُغرق الأراضي الزراعية، ويدمر البيوت الطينية البسيطة، ويقتلع البنية التحتية الهشة أصلًا. تساقط الأمطار الغزيرة في الهيمالايا، وذوبان الثلوج بشكل أسرع بسبب الاحتباس الحراري، وانخفاض مستوى اليابسة مقارنة بسطح البحر، كل ذلك يجعل من بنغلاديش مسرحًا دائمًا للغرق.

لكن ما يزيد المأساة حدة أن بنغلاديش تقف عاجزة، لا لأنها لا تملك الإرادة، بل لأنها لا تملك الموارد. ليست لديها ما يكفي من السدود أو أنظمة الصرف أو الملاجئ أو حتى المساحات الكافية للهروب. وحين يأتي الماء، لا يسأل عن الطبقات ولا عن الأعمار، فيطرد الناس من بيوتهم، ويترك خلفه أطفالًا جائعين، وأمهات منهكات، وشيوخًا لا يملكون إلا الانتظار تحت السماء المفتوحة.

وهكذا، تبدو فيضانات بنغلاديش كتجسيد مرير لمفارقة كونية: أولئك الذين لم يساهموا في تسميم الكوكب هم أنفسهم من يُعاقبون بأشدّ الطرق. إن هذه الدولة، التي تسعى لتوفير لقمة العيش لملايين الفلاحين وصيادي الأسماك، تُجبر على دفع فاتورة فاخرة لصناعات لم تُنشئها، لسيارات لم تُنتجها، لاقتصادات لم تنتمِ إليها.

الفيضان هناك ليس فقط مياهاً متدفقة، بل هو رسالة ساخرة من العالم الحديث: العدالة المناخية لم تكن يومًا جزءًا من معادلة النمو، والمستقبل يبدو كأنه مُهيأ لأن يواصل معاقبة الضحية، بينما الفاعل يواصل الطيران في سماء محروقة بثاني أكسيد الكربون، دون أن يلتفت إلى من يغرق تحت الغيم الأسود.

دول المحيط الهادئ (كجزر فيجي وتوفالو) مهددة بالغرق الكامل بسبب ذوبان الجليد وارتفاع منسوب البحار. . في عمق المحيط الهادئ، حيث تتناثر جزر صغيرة كأنها لآلئ نادرة تزيّن صفحة الماء، تقف دول مثل فيجي وتوفالو على شفا الهاوية، ليس بفعل حرب أو وباء، بل نتيجة كارثة بطيئة تغمرها ببطء وصمت: ارتفاع منسوب البحار. في هذه الرقعة الساحرة من العالم، لم تعد الأسطورة عن “المدن الغارقة” مجرد حكاية تُروى للأطفال، بل باتت احتمالًا واقعيًا يقض مضاجع الحكومات والسكان على حد سواء.

ذوبان الجليد في القطبين الشمالي والجنوبي لم يعد مجرد مسألة علمية تُقاس بالبيانات والنماذج، بل تحوّل إلى قنبلة زمنية تؤثر على كل شبر منخفض من الأرض. والمفارقة أن جزر المحيط الهادئ، التي لم تسهم بأي قدر يُذكر في التصنيع الجائر أو التلوث الكربوني، تُدفع الآن نحو الزوال، بينما تستمر الدول الصناعية في إنتاجها الباذخ وانبعاثاتها الكثيفة، وكأن شيئًا لم يكن.

في توفالو، ترتفع الأرض بالكاد مترًا أو مترين عن سطح البحر، ومع كل عام يمر، يصبح المدّ أعلى، وتصبح الأمواج أكثر جرأة، ويتسلل الملح إلى التربة، ويفسد المياه الجوفية، ويقضي على الزراعة، ويترك خلفه شعبًا لا يملك سوى التمسك ببيته المهدد بالاندثار. المنازل تُهدم، المدارس تُغلق، وحتى المقابر لا تسلم من زحف البحر. والناس هناك، بوجوههم السمراء وأعينهم الملونة بالقلق، لا يسألون عن رفاهية الحياة، بل فقط: هل سنظل هنا العام القادم؟

أما فيجي، تلك الجزيرة التي كانت تُعد جنة للسياح، فقد بدأت تشهد تهجيرًا داخليًا قسريًا بسبب تسونامي متكرر وتآكل الشواطئ. القرى الساحلية تُنقل إلى الداخل، والناس يُجبرون على ترك جذورهم، وأرض أجدادهم، ومقابر أسلافهم، كل ذلك لأن مياه المحيط قررت أن تتمدد بلا استئذان، وأن تقتحم حياتهم الهادئة كغريب غاضب لا يُردّ.

هذه الدول لا تملك جيوشًا قوية ولا اقتصادات جبارة لتفرض صوتها، لكنها تقف اليوم في طليعة نضال بيئي عالمي، تصرخ من أجل العدالة المناخية، وتطلب فقط أن تُترك لها الأرض التي وُلدت عليها، وأن تُحترم حدود البحر، وأن يتحمل الملوثون الكبار مسؤوليتهم التاريخية.

فهل يُعقل أن تُمحى أوطان كاملة من على الخريطة لأن العالم رفض أن يقلل من سرعته في التدمير؟ وهل سيُكتب على أطفال توفالو أن يعيشوا بلا هوية وطنية لأن البحار أصبحت أكثر جشعًا من اليابسة؟ إن جزر المحيط الهادئ لا تغرق فقط في الماء، بل في صمت العالم أيضًا.

3ـ دور الاقتصاد الرأسمالي والجشع الصناعي

في قلب هذا العالم المضطرب، لا يبدو أن الأرض تثور عبثًا، ولا أن المناخ ينقلب على ساكنيه مصادفة. فهناك آلة ضخمة تدور بلا توقف، آلة اسمها “الاقتصاد الرأسمالي”، تُدار بجشع لا يشبع، وتُشحذ بمصالح لا تعرف حدودًا، وتُغذى بأوهام النمو اللانهائي في عالم محدود الموارد. لم تكن الزلازل، ولا الأعاصير، ولا الفيضانات، في الماضي، سوى ظواهر طبيعية خاضعة لدورات كونية، لكن ما جرى هو أن الإنسان، وتحديدًا الإنسان المسكون بهاجس الربح، عبث بميزان الطبيعة، وكسر قوانينها، واستفزّ عناصرها بصناعة لا تهدأ، وتوسع لا يرحم، وشهية مفتوحة لالتهام كل شيء، حتى لو كان ذلك على حساب بقاء الأرض نفسها.

في قلب النظام الرأسمالي، لم يعد العالم يُقاس بجماله أو توازنه أو صلاحه للعيش، بل بالأرقام: الناتج القومي، مؤشرات البورصة، معدلات الإنتاج، وحجم الاستهلاك. وكلما زاد الاستهلاك، زادت الأرباح، وكلما زادت الأرباح، صرخ المستثمرون طلبًا للمزيد. وهنا تمامًا تبدأ الكارثة، حين تتحول الغابات إلى حطب للاقتصاد، والمحيطات إلى مقالب نفايات، والجبال إلى مصادر خام تُقرض، والهواء نفسه إلى وسيلة نقل للكربون.

الجشع الصناعي لا يعرف أخلاقًا. لا تعنيه ملامح الأطفال الذين تقتلعهم الأعاصير، ولا دموع الأمهات في المخيمات بعد أن دمرت الفيضانات بيوتهن، ولا أنين الأرض وهي تختنق تحت طبقات من البلاستيك والدخان. كل ما يهمه هو أن يدور المصنع، وتشتعل المداخن، وتُختصر الحياة كلها في سلعة تُباع، أو خدمة تُشترى. والمثير للسخرية المريرة، أن أكثر من يستهلك هم الأقل تعرضًا للعواقب، وأكثر من يدفع الثمن هم من لم يشاركوا يومًا في الجريمة.

ما زال الاقتصاد الرأسمالي يعدنا بوهم التقدم، لكنه في الحقيقة يقودنا إلى تراجع أخلاقي، وبيئي، ووجودي. مدن كاملة تُبنى فوق الشواطئ، والمطارات تُشقّ في قلب المحميات، والجبال تُفجّر لتوسيع المناجم، وكل ذلك تحت لافتة براقة تُسمى “التنمية”. لكن أي تنمية هذه التي تدفع الأرض إلى الغضب، والمناخ إلى الانتقام، والبحر إلى الغرق، والسماء إلى الهياج؟

لقد صنع الإنسان وحشًا من الجشع، أطلقه في الطبيعة دون قيد، فصار الوحش يلتهم كل شيء، دون تمييز، دون هوادة، حتى باتت الأرض، بكل ما فيها، على حافة الانهيار.

التوسع في استخدام الفحم والغاز والنفط لم يكن مجرد “تقدم”، بل شكل جريمة مناخية مموهة.

لم يكن احتراق الفحم والغاز والنفط مجرد خطوة على طريق الحضارة كما أراد لنا البعض أن نعتقد، بل كان بمثابة توقيع أولي على وثيقة خفية لحرب مفتوحة ضد كوكب الأرض. فالتوسع في استخدام هذه المصادر لم يكن بريئًا، ولم يكن حتميًا، بل كان خيارًا واعيًا لجني الأرباح على حساب الاستدامة. لقد جرى تسويق هذه الثورة الصناعية على أنها علامة على التقدم البشري، بينما كانت، في الحقيقة، تغلّف جريمة بيئية كبرى بورق ذهب لامع، وتخفي في جوفها انهيارًا مناخيًا يتراكم عامًا بعد عام.

كانت البداية ناعمة، فالمصابيح أضاءت، والقطارات انطلقت، والمصانع دارت عجلاتها، وكل شيء بدا مبهرًا في ظاهره. لكن ما خفي خلف تلك الآلات الصاخبة كان أكثر رعبًا مما تخيلت البشرية. لم يكن أحد يعبأ حينها بالدخان الأسود المتصاعد، ولا بأرقام ثاني أكسيد الكربون المتراكمة في الغلاف الجوي، ولا بدرجات الحرارة التي بدأت ترتجف صعودًا عامًا بعد آخر. فالكل كان مشغولًا بالنمو، بالسرعة، بالسباق نحو السيطرة على الأسواق، لا على حماية الأرض.

لقد قُدمت لنا الهيدروكربونات – بكل أشكالها – على أنها “مصدر طاقة رخيص وفعال”، في حين أنها كانت تغذي شراهة اقتصادية متوحشة، وتجعل من الجو والماء والتربة ضحايا صامتة لمعادلات المال والربح. صارت الأرض نفسها تُحرق كلما أدارت آلة الوقود حفّاراتها في أعماقها، وكلما فُتحت آبار جديدة في البحار والبراري، وكلما بُنيت مصافي عملاقة لا تنام.

ولم تقف الجريمة عند حدود البيئة، بل امتدت إلى السياسة، فالحروب شُنت باسم الطاقة، والأنظمة تداعت أو قويت بحسب موقعها من خريطة النفط، والدول التي تجرأت على التفكير بمصادر بديلة صُنفت على أنها خارجة عن الصف، بينما ساد الصمت والتواطؤ حين كانت الانبعاثات تزداد، والمناخ يختنق، والفقراء يموتون غرقًا أو عطشًا أو جوعًا.

وفي كل مرة كانت الأصوات ترتفع محذّرة من الخطر، كانت المصالح الكبرى تطغى، وتُسكت العلم، وتُشوش على الحقائق، وتُغرقها بسيل من التصريحات الزائفة، والعناوين المخدّرة، والوعود المؤجلة بالإصلاح. وما زالت تلك الجريمة مستمرة إلى اليوم، فقط بلغة أكثر دبلوماسية، وبعبارات “خضراء” المظهر، لكنها تحتفظ بنفس الروح الملوثة.

لقد كان التوسع في استخدام الفحم والغاز والنفط ثمنًا باهظًا دفعته الأرض، وسيدفعه البشر لاحقًا… وليس في الأمر تقدم حقيقي، بل فقط اندفاع أعمى نحو هاوية يُحاط بديكور حضاري، لكنه لا يخفي سقوطًا قادمًا، يسيل من أطرافه دخان، ويتردد في صداه صوتٌ مبحوح: “كان يمكن أن نختار طريقًا آخر، لكننا لم نفعل”.

الرأسمالية الحديثة تتجاهل الأثر البيئي إذا كان الربح مضمونًا.

الرأسمالية الحديثة تُشبه قطارًا ضخمًا مندفعًا بأقصى سرعته نحو جدار هش، بينما الركاب يصفقون في الداخل فرحًا بالسرعة، دون أن يلتفت أحد إلى الخراب الذي سيعقب الاصطدام. هذا النظام لا يعرف التوقف، ولا يعترف بالتأني، ولا يقيم وزنًا لأي شيء إن لم يكن رقمًا في خانة الأرباح. الأرض تئن، الغابات تحترق، البحار ترتفع، والطقس ينقلب رأسًا على عقب، لكن كل هذا يبدو مجرد “ضجيج غير مربح” في آذان الشركات العابرة للقارات والبنوك العملاقة.

في منطق الرأسمالية الحديثة، البيئة ليست كيانًا يجب احترامه، بل موردًا يُستنزف، وساحة مفتوحة للتجريب، والتلويث، والاستثمار بلا ضوابط. الأشجار لا تُرى على أنها كائنات حية، بل “أخشاب محتملة”. الأنهار ليست شرايين طبيعية، بل “ممرات طاقة”. والغلاف الجوي ذاته يُعامل كأنه مكبّ نفايات مجاني يُمكن أن يُستغل حتى آخر نفس. الأهم هو الربح، الربح السريع، الربح الفوري، الربح حتى على حساب الحياة ذاتها.

الأنظمة الاقتصادية التي تحكم العالم اليوم لا تُكترث للسؤال الأخلاقي، ولا تبالي بتحذيرات العلماء، بل تتفنن في استخدام المصطلحات لتجميل الجريمة. يطلقون على تدمير الغابات اسم “تطوير عمراني”، وعلى التنقيب العشوائي عن النفط “استثمار في الطاقة”، وعلى تصدير النفايات السامة إلى دول فقيرة “تعاون بيئي”. وما دام السوق يشتري، والمستهلك يستهلك، والمساهم يربح، فكل شيء مباح.

والأخطر من كل ذلك أن الرأسمالية لا تكتفي بتجاهل أثرها البيئي، بل تُعيد تدوير الكارثة لتصنع منها فرصة جديدة للربح. فإذا زادت الفيضانات، صعدت أسهم شركات التأمين. وإذا احترق كوكب ما، صعدت أسهم شركات البناء. حتى “الاقتصاد الأخضر” نفسه بات سوقًا جديدة للاستثمار، لا لتحسين البيئة، بل لاستغلال فكرة إنقاذها بطريقة قابلة للبيع.

هذه الرأسمالية لا تتحرك إلا إذا دُفعت بالمال، ولا تبطئ إلا إذا خُسرت الأموال. إنها آلة تصنع الثروات من رماد الغابات، ومن مدن غارقة، ومن أطفال يموتون في الجفاف. وفي عالم كهذا، يصبح الصمت جريمة، ويصبح الدفاع عن الأرض مقاومة، ويصبح السؤال: إلى متى سنسمح بأن يُحسب مستقبلنا فقط بحسابات الربح والخسارة؟

الزراعة الصناعية، قطع الغابات المطيرة، نقل النفايات إلى دول الجنوب الفقير، كلها جرائم بيئية تحت غطاء “التنمية“.

في عالمٍ تُعلّق فيه لافتة “التنمية” على كل مشروع ضخم، بات من الصعب التفريق بين التقدم الحقيقي والدمار المقنّع. الزراعة الصناعية، ذلك الوحش الصامت، لا تُنتج الغذاء فقط، بل تُفرخ سلسلة من الكوارث البيئية في كل مراحلها. فهي لا تكتفي بالسيطرة على مساحات شاسعة من الأراضي، بل تُفرغها من تنوعها الطبيعي، تُجرد التربة من روحها، وتُغرقها بالأسمدة الكيميائية والمبيدات الحشرية حتى تفقد ذاكرتها البيئية. إنها زراعة لا تستأذن الأرض، بل تُجبرها على الخضوع، وتُنتج طعامًا على حساب الحياة.

لكن الكارثة لا تقف عند الحقول الممتدة على مدّ النظر، بل تمتد إلى قلب الغابات، تلك الرئات الخضراء التي كانت يومًا تُوازن حرارة الكوكب وتُغذي الغيوم. تُقطع اليوم الغابات المطيرة بالمناشير الباردة، لا لضرورة بقاء، بل لجشع مربح. أشجار عملاقة عمرها مئات السنين تُباد في ساعات، لتحل مكانها مزارع زيت النخيل أو مراعي للماشية تخدم سلاسل الوجبات السريعة. كل شجرة تُقطع تُفقدنا جزءًا من الغلاف الأخضر، وتزيد في المقابل من حرارة الغلاف الجوي، في سلسلة جنونية من الربح السريع والموت البطيء.

وحين لا تكفي الأراضي ولا تحتمل السماء، يبدأ الرقص في الظلام. تُحمل النفايات الصناعية، السامة، المميتة، على سفن ضخمة، وتُبحر عبر المحيطات في رحلات “استثمارية” إلى دول الجنوب الفقير. تُفرغ الحاويات القذرة في قرى لا تملك شبكات صرف صحي، ولا مستشفيات متخصصة، ولا حتى سلطة تفاوض. يُدفن الخطر في باطن الأرض أو يُترك في العراء ليتسرب إلى المياه والهواء، في جريمة بيئية صامتة، مموهة ببنود اتفاقيات تجارية ومصطلحات مطاطة من قبيل “نقل التكنولوجيا” أو “إعادة التدوير”.

هذا هو الوجه الآخر للتنمية حين يُنزَع عنها قناع الأخلاق والعدالة. إنها تنمية تصعد فوق جثث الغابات، وتسير على رماد التربة، وتدوس على كرامة الإنسان في سبيل الربح. التنمية الحقيقية تبني ولا تُدمّر، تُنقذ ولا تُلوّث، تُنبت الحياة لا الأمراض. أما ما يحدث اليوم فهو استغلال منهجي للبيئة تُرتكب فيه الجرائم تحت راية براقة لا تحمل في داخلها سوى الفراغ… وفرن جشع لا يهدأ.

4ـ البراكين التي كانت نائمة وتحركت – الطبيعة تنتقم؟

كانت الجبال الساكنة دومًا رمزًا للطمأنينة، لوحات عظيمة من الصمت والهيبة، تطل على قرى ناعسة ومدن مكتظة بالحياة، شاهدةً على مرور العصور دون أن تُحرك ساكنًا. لكن فجأة، تنقلب الصورة. الأرض التي بدت صلبة وآمنة، تبدأ بالاهتزاز، والجبال التي لطالما تغنى بها الشعراء، تُصدر زفيرًا من الغضب. ينشق قلب الجبل، ويتفجر لُبّه نيرانًا وغبارًا ودخانًا كثيفًا يملأ السماء ويُطفئ الشمس. براكين كانت نائمة لقرون، كأنها في سبات مقدس، استيقظت فجأة وكأنها تحمل في جوفها نقمة مكبوتة ضد من عبث بتوازن الأرض.

هل هي مصادفة أن تزداد وتيرة الثورات البركانية في أماكن لم تُسجل فيها حركة منذ زمن؟ أم أن للطبيعة منطقها الذي لا يُفسره العلم فقط، بل يُشعر به من يعيش على حافتها؟ البعض يُسميه انتقامًا، غضبًا جيولوجيًا، تعبيرًا صامتًا عن رفضها لما أُلحق بها من استنزاف وتدمير. فالنشاط البشري المتسارع، والحفر العميق في طبقات الأرض بحثًا عن النفط والمعادن، والتكسير الهيدروليكي الذي يُمزق الصخور من الداخل، كل هذا لا يمر دون أثر، دون ردّ.

البركان ليس مجرد فتحة في الأرض تنفث حممًا، بل هو نظام معقد، حساس لأي تغيير في التوازن الداخلي للكوكب. وكلما زادت الانبعاثات، كلما ارتفعت حرارة الغلاف الجوي، وذابت كتل الجليد الهائلة التي كانت تُخفف الضغط عن باطن الأرض، اختلت التوازنات القديمة، وبدأت الأرض تتنفس بثقل، تتململ، وتثور. ولا تعود تلك الثورات حبيسة القمم العالية فقط، بل تطال المدن والناس والاقتصادات، تُغلق المطارات، وتُدمر المحاصيل، وتُنذر بأن ما كنا نعدّه نادرًا بات أقرب إلى الطبيعي الجديد.

البركان الذي كنا ندرسه في الكتب كظاهرة استثنائية، صار الآن جزءًا من مشهد عالمي متكرر، مشهد يعكس إلى أي حد اقتربنا من حافة التحول الكارثي. فحين تتحرك الجبال، لا يكون ذلك مجرد حدث جيولوجي عابر، بل علامة. علامة تقول إن الطبيعة لم تعد تهمس، بل تصرخ… تصرخ كي نسمع، قبل أن نُدفن تحت صمتها الأخير.

النشاطات البشرية يمكن أن تؤثر على الاستقرار الجيولوجي في بعض المناطق

قد يبدو باطن الأرض، بكل ما يحمله من صخور نارية وكُتل منصهرة، عالماً بعيداً عن متناول الإنسان، لا تحكمه إلا قوانين الطبيعة العظمى، لا يتأثر بما يحدث فوق سطحه من ضجيج الحياة. غير أن الحقيقة الصادمة أن النشاطات البشرية، مهما بدت صغيرة أو محلية، بدأت تترك بصمتها العنيفة حتى في هذا العمق السحيق. الاستقرار الجيولوجي، الذي لطالما اعتبره العلماء من الثوابت الصلبة التي لا تتزعزع، بات اليوم هشاً على نحو مقلق، نتيجة تدخلات بشرية تزداد جموحاً كل يوم.

عمليات الحفر العميق التي تنفذها شركات النفط لا تكتفي باستخراج الثروات من أعماق الأرض، بل تُحدث فجوات واهتزازات تُربك الطبقات الجيولوجية المستقرة. في لحظة طمع بشري، يتم ضخ المياه والسوائل الكيميائية تحت ضغط هائل في الشقوق الصخرية أثناء عمليات التكسير الهيدروليكي لاستخلاص الغاز الطبيعي، مما يؤدي إلى تصدع الصخور وزعزعة توازنها، وكأن الإنسان يقرع أبواب باطن الأرض دون أن يدرك ما الذي قد يخرج منها.

ليس التكسير الهيدروليكي وحده المتهم، فهناك التعدين العميق الذي يبتلع الجبال من الداخل ويُفرغها من معادنها، وهناك السدود العملاقة التي تُغيّر توزيع الأوزان على القشرة الأرضية وتضغط على خطوط الصدع، وهناك استخراج المياه الجوفية بكميات مهولة، مما يؤدي إلى هبوط التربة وسقوط المباني. كل هذه النشاطات تساهم في خلق بيئة جيولوجية متوترة، قابلة للانفجار عند أول خلل.

وما كان يُعد زلزالاً نادراً في منطقة ما، بات الآن ظاهرة شبه موسمية. مدن لم تعرف يومًا معنى الاهتزاز الأرضي باتت تُسجل درجات على مقياس ريختر، وسكانها يهربون من منازلهم مذهولين، لا لشيء سوى لأن صناعات لم تحترم قواعد الطبيعة أفسدت صمت الأرض.

الإنسان، في سعيه المحموم نحو التنمية، تجاهل حقيقة بسيطة: أن الأرض كائن حي، تتنفس، وتتفاعل، وتغضب إذا ما أُسيء التعامل معها. وهذا الغضب لا يأتي على شكل كلمات أو بيانات احتجاج، بل بهزات أرضية، بانفجارات مفاجئة، بانهيارات صخرية تبتلع طرقات بأكملها، برسائل صامتة لكنها دامغة.

وهكذا، لم يعد الاستقرار الجيولوجي مسألة طبيعية فقط، بل صار ضحية إضافية من ضحايا الجشع البشري والتخطيط القصير النظر. الأرض، في كل شقّ وجبل وسهل، تحمل في ذاكرتها أثر ما فعله الإنسان، وتنتظر لحظة الرد.

مثال: في آيسلندا وإندونيسيا، سجلت حالات لثورات بركانية بعد نشاطات تعدين أو حفر عميق ،حتى الذوبان السريع للجليد في القطبين يمكن أن يخفف الضغط على القشرة الأرضية، ما يحرّك صفائحها.

في تلك البقاع التي تبدو للعين المجردة بعيدة ومعزولة – آيسلندا المتجمدة في شمال الأطلسي، وإندونيسيا النابضة بالحياة الاستوائية – بدأت الأرض تنطق بلغة النار والرماد، وكأنها تُعلن نفاد صبرها من عبث الإنسان العميق بمكنوناتها. في آيسلندا، البلد الذي عرفته الجغرافيا على أنه لقاء صامت بين الجليد والنار، رُصدت ثورات بركانية عنيفة ومفاجئة في مناطق شهدت نشاطات حفر عميق، سواء لأغراض الطاقة الحرارية الأرضية أو للاستكشاف الصناعي. لم يعد من الممكن بعد اليوم اعتبار هذه الانفجارات مجرد “حدث طبيعي” فحسب، إذ بدأت تظهر مؤشرات تثير القلق: اهتزازات أرضية غير معتادة، تغيّرات في تراكيب الغازات، سلوكيات بركانية غير مألوفة. وكلها تتزامن مع تدخل الإنسان في الطبقات التي لم يكن ينبغي له الاقتراب منها.

وفي إندونيسيا، حيث الجزر تطفو فوق بحر من البراكين النشطة، لم يكن الوضع أكثر هدوءًا. فقد لوحظت حالات ثوران أعقبت عمليات تعدين عميق لاستخراج الذهب أو النيكل من باطن الأرض، حيث أدى حفر المناجم الضخمة إلى إرباك التوازن الجيولوجي الدقيق في هذه المنطقة التي تجلس أصلاً على “حلقة النار”، الخط الزلزالي الأخطر على وجه الأرض. وقد لوحظ أن أنظمة المراقبة الأرضية تسجل تغيرات في الضغط والحرارة وحتى الميل الطفيف في القشرة الأرضية، مما يرجّح أن الحفر المكثف قد يكون عاملاً مفاقمًا للتوتر البركاني.

لكن الأخطر من ذلك، هو ذاك العامل الصامت، غير المحسوس، الذي يعمل ببطء شديد، ويكاد لا يُرى بالعين المجردة: ذوبان الجليد في القطبين. ففي الوقت الذي ينشغل فيه العالم بمشاهد الدببة القطبية التي تفقد موطنها الجليدي، هناك ما هو أبعد من المأساة البيئية المباشرة. عندما تذوب الكتل الجليدية العملاقة، ينخفض الضغط الهائل الذي كانت تمارسه على سطح الأرض، وكأن حملاً ضخماً رُفع فجأة عن صدر الكوكب. هذا التخفيف في الضغط يؤدي إلى ما يعرف بالارتداد القاري، حيث تبدأ القشرة الأرضية بالارتفاع والانفراج، ما يخلق اضطرابات في توازن الصفائح التكتونية. هذه الاضطرابات قد تكون الشرارة التي تُطلق سلسلة من الزلازل أو تنشط البراكين التي كانت خامدة لمئات السنين.

إنها دورة من التداخلات المعقدة، حيث لا يمكن فصل ما هو طبيعي عما هو صناعي، ولا ما هو بيئي عما هو بشري. الأرض لا تعود إلى ثوراتها إلا عندما يُداس على أعصابها الجيولوجية بحفر غبي أو استنزاف متعجرف. وما كان يُظن أنه من قبيل المصادفة، تبيّن أنه نتيجة هندسة معكوسة للطبيعة، موقعة بتوقيع الإنسان نفسه. فالجبال حين تغضب، لا تفعل ذلك عشوائيًا، بل ترد على من خرق صمتها، وبعنف لا يُنسى.

5ـ الدول الأكثر تضررًا

في خضم سباق التقدم والازدهار، وبينما تتنافس القوى الكبرى على الهيمنة والسيطرة، تقف شعوبٌ بأكملها على هامش هذه المعادلة، تتلقى الضربات دون أن تكون طرفًا في صناعة الخطر. فالعالم لم يعد ينقسم إلى متقدم ومتخلف فقط، بل إلى من يلوّث ومن يدفع الثمن، إلى من يربح ومن يختنق بالغبار والماء والجفاف والرماد. الدول الأكثر تضررًا من الكوارث المناخية ليست تلك التي أشعلت مصانعها وأطلقت غازاتها في السماء، بل هي الدول التي بالكاد تساهم في الانبعاثات، ومع ذلك تُسحق تحت وطأة كوارث لا ترحم.

في قارة آسيا، تتجلى المأساة بوضوح مؤلم. باكستان، بنغلاديش، الفلبين، ثلاث دول تئن كل عام من ضربات الطبيعة العنيفة. فيضانات متكررة تبتلع القرى والمدن، أعاصير تقتلع الأخضر واليابس، وانهيارات أرضية تحول الأحياء إلى مقابر مفتوحة. رغم أن هذه الدول مجتمعة تكاد لا تترك بصمة كربونية تُذكر على خارطة التلوث العالمي، إلا أنها تواجه تداعيات لا تتناسب أبدًا مع مساهمتها. إنها ضحية مناخ لم تلوثه، وأسيرة نظام عالمي لا يُنصف من لم يكن له صوت في مائدة القرار.

أما إفريقيا، فتُعتبر المسرح الأكبر لمأساة مناخية لا تنتهي. السودان، مدغشقر، موزمبيق، كلها دول تعاني من جفاف قاتل يفتك بالمحاصيل ويهجّر السكان، ومن أعاصير عنيفة تقلب الحياة رأسًا على عقب. المفارقة العظمى أن هذه الدول شبه معدومة التأثير في الانبعاثات، بل إنها غالبًا ما تكون مستقبِلة للنفايات الغربية، وليست مُصدِّرة للتلوث. ورغم ذلك، فهي تدفع الثمن مرتين: مرة حين تجف الأرض، ومرة حين ينهار ما تبقى من اقتصاد هش تحت ضغط الكوارث.

في أمريكا اللاتينية، نجد هايتي – أفقر دول نصف الكرة الغربي – تعاني من زلازل وانهيارات أرضية تزيدها فقرًا على فقر. البرازيل، التي تحتضن غابات الأمازون، تُعاقب بحرائق وانهيارات طينية سببها أنشطة بشرية لا تُدار بمسؤولية. هندوراس، بدورها، تُصارع الأعاصير والتصحر، رغم ضعف تأثيرها في نسب الانبعاثات. هذه الدول تحاول أن تنهض، لكنها تعرقلها يد الطبيعة، التي باتت ترد بقسوة على عقود من الاستغلال الصناعي العالمي.

حتى أوروبا، رغم مكانتها الصناعية والتكنولوجية، لم تسلم. اليونان وإيطاليا أصبحتا في مواجهة مباشرة مع حرائق غابات هائلة، وفيضانات مدمرة. ورغم أن مساهمتهما في الانبعاثات تُعد متوسطة مقارنة بدول أوروبا الغربية، إلا أن الطبيعة اختارت أن تُظهر غضبها في أماكن لم تكن معتادة على هذا النوع من الكوارث. وهنا يبدو واضحًا أن التغير المناخي لم يعد مشكلة قارة أو إقليم، بل بات سيفًا مصلتًا فوق الجميع.

وفي أمريكا الشمالية، تقف المكسيك في موقع لا تُحسد عليه. فهي تُعاني من زلازل مدمرة وأعاصير مميتة، ومع ذلك لا تمثل تهديدًا كبيرًا على مستوى الانبعاثات الكربونية، خاصة إذا ما قورنت بجارها الشمالي، الولايات المتحدة، التي تعد من أكثر الدول تلويثًا على الإطلاق. ومع ذلك، فالمكسيك تدفع جزءًا كبيرًا من الثمن، في أرواح ومنازل وأحلام تُدفن تحت الأنقاض.

إنها خريطة عالمية غير عادلة، يُختصر فيها مصير الملايين بمعادلات اقتصادية لا تأخذ بعين الاعتبار من سيتشرد، من سيفقد مياهه، من سيهاجر قسرًا، ومن سيُترك وحيدًا في مواجهة بركان أو إعصار أو جفاف. فالعنف المناخي، في جوهره، ليس عنفًا طبيعيًا فقط، بل هو انعكاس صادم لخلل عميق في ميزان العدالة الكوكبية.

6ـ نحو مسؤولية مناخية عادلة

في عالم تتسارع فيه الكوارث كما لو أن الأرض نفسها تسابق الزمن لتُفرغ غضبها، لم يعد من الممكن أن نُغمض أعيننا أو نختبئ خلف ستائر الأعذار. لم يعد المناخ يكتفي بالتحذير، بل بدأ يُحاسب. الحرائق تلتهم الغابات، والأعاصير تكتسح المدن، والجفاف يقتلع الحياة من جذورها، وكأن الطبيعة تسألنا: إلى متى هذا الصمت؟ إلى متى هذا الإفلات من العقاب؟ وفي قلب هذه العاصفة المتصاعدة، يبرز مطلب لم يعد يقبل التأجيل: مسؤولية مناخية عادلة.

المعادلة مختلة بشكل فجّ. هناك من يلوث ويستهلك بلا حدود، يكدّس الأرباح ويُسرف في إنتاج الخراب، وهناك من يدفع الفاتورة مضاعفة وهو بالكاد يمتلك ما يسدّ به رمقه. دول تسبح في رفاهية مصطنعة على حساب موارد مستنزفة، وأخرى تغرق في الوحل وهي تنزف تحت وطأة أزمات لم تخلقها. إن كان هناك شيء أشد ظلمًا من تغير المناخ، فهو انعدام العدالة المناخية في وجه هذا التغير.

المسؤولية المناخية ليست شعارًا أخلاقيًا أو حملة دعائية تُعلّق في المؤتمرات الدولية، بل هي جوهر المعركة من أجل بقاء الإنسان على كوكب بدأ يضيق بأخطائه. لا يمكن للثراء أن يظل حصنًا منيعًا أمام الزلازل والفيضانات، ولا يمكن للفقر أن يبقى ذريعة لصمت الضحايا. على الدول الغنية، الصناعية، المتخمة بانبعاثاتها وتاريخها الأسود في تدمير الطبيعة، أن تتحمّل مسؤوليتها كاملة، لا بوعود فارغة، بل بخطوات جادة تعيد التوازن إلى هذا النظام المنهك.

المسؤولية المناخية العادلة تعني أن من لوّث عليه أن يدفع، ومن عانى عليه أن يُعان. تعني أن تعويض الدول المتضررة ليس منّة بل واجب. تعني أن التنمية لا تكون على حساب الغابات والأنهار والقرى البسيطة التي تُغمر كل عام وتُنسى كل عام. هي مسؤولية تتطلب إعادة تعريف التقدم، لا كسباق نحو الاستهلاك، بل كتعايش مستدام مع الكوكب، كتوازن بين ما نأخذ وما نترك، بين ما نبني وما نحافظ عليه.

إنه وقت الحقيقة، وقت أن نقف أمام المرايا، لا لنُجمّل صورتنا، بل لنواجهها. لأن الكوكب لا ينتظر، والمستقبل لا يُبنى على رماد الإنكار. فقط عبر عدالة مناخية حقيقية، يمكن أن نحمي ما تبقى ونُعيد الأمل لمن خسر كل شيء تحت سماء لا تُميّز بين مذنب وضحية.

الدول الصناعية الكبرى (أمريكا، الصين، الاتحاد الأوروبي) تتحمل نصيب الأسد من الانبعاثات.

في قلب المشهد المناخي المتأزم، تتربع الدول الصناعية الكبرى كأبطال مأساويين في قصة تُروى بلهيب الأرض وغضب البحار. الولايات المتحدة، الصين، والاتحاد الأوروبي، ثلاثي لا يخفى اسمه حين تُفتح ملفات الانبعاثات الحرارية، وحين تُسأل الأرض: من أثقل صدرك بهذا الدخان؟ من ألهب سماءك بالغازات؟ من أرهق غاباتك ومحيطاتك حتى صارت تئن من فرط ما حُمّلت؟

هذه القوى الاقتصادية الجبارة لم تبنِ حضاراتها الحديثة على أسس العدالة أو التوازن البيئي، بل على محرّكات الفحم، ومصافي النفط، ومداخن المصانع التي لا تنام. في سباقٍ محموم نحو النمو، أشعلت وقود العالم وتركته يحترق خلفها. لم يكن همّها أن تسأل: ما مصير الهواء؟ كيف ستتنفس الشعوب الأخرى؟ هل تحتمل الجبال هذا الحفر وهذا النهب؟ بل كانت منشغلة ببناء ناطحات السحاب، وشحن البضائع عَبْر القارات، واختراع أسواق جديدة للاستهلاك اللامحدود.

الولايات المتحدة وحدها، بتاريخها الطويل في حرق الوقود الأحفوري، تمثل فصلاً كاملاً في كتاب الجريمة المناخية، إذ ساهمت لعقود في تضخيم الأزمة، ثم ترددت في الاعتراف الكامل بحجم دورها الحقيقي. الصين، بقفزتها الاقتصادية العملاقة، لم تسلك طريقًا مختلفًا، بل ارتدت عباءة التلوث نفسها، مفضّلةً إنتاجًا بلا كوابح على حساب البيئة، لتغذي مصانع العالم وتُغرقه بالبضائع. أما الاتحاد الأوروبي، ورغم محاولاته المتأخرة للظهور بمظهر “المُصلح البيئي”، فماضيه الصناعي الأسود لا يُمحى بسهولة، كما أن استهلاكه الباذخ للطاقة لا يزال حاضرًا حتى في أيامه “الخضراء”.

المفارقة القاسية أن هذه الدول الثلاث، مجتمعة، تتحكم بمفاتيح التكنولوجيا النظيفة، وتمتلك القدرة المالية والتقنية للتحول إلى اقتصاد منخفض الكربون، لكنها لم تُظهر الإرادة الكافية لتغيير قواعد اللعبة. ورغم كل المؤتمرات والمبادرات، تبقى مخرجاتها أقل كثيرًا من حجم الكارثة، وأبطأ من سرعة الانهيار.

إن تحمّل نصيب الأسد من الانبعاثات يعني أيضًا تحمّل نصيب الأسد من المسؤولية. ليس فقط من خلال تقليص الانبعاثات داخليًا، بل أيضًا من خلال دعم الدول الفقيرة، التي لم تكن طرفًا في التلوث ولكنها تجد نفسها تُصفع بعنف نتائجه. تلك الدول لا تملك مصانع عملاقة، ولا سيارات تسدّ الأفق، لكنها أول من يغرق إذا ارتفع البحر، وأول من يجفّ إذا غابت السماء.

في ميزان العدالة المناخية، لم تعد الأعذار تنفع، ولم يعد الصمت مسموحًا. على الدول الصناعية الكبرى أن تتوقف عن دفن الحقيقة في التقارير، وعن تغليف الكارثة بورق السياسات. فالتاريخ لا ينسى، والأرض لا تسامح، والمستقبل لن يغفر.

هناك دعوات متزايدة لتعويضات مناخية للدول المتضررة.

تتصاعد في الأفق العالمي دعوات لم تعد خافتة، بل تزداد حدّة وإلحاحًا، تطالب بما بات يُعرف اليوم بـ”التعويضات المناخية”، وهي ليست مِنّة ولا تفضّل، بل صرخة عدالة تُطلقها الدول المتضررة من قلب الجفاف والفيضانات والانهيارات والانبعاثات التي لم تتسبب بها. هذه الدول، التي لم تسهم إلا بنزر يسير من الانبعاثات الكربونية العالمية، تجد نفسها اليوم في الصفوف الأمامية للعواصف، وتحت رحمة مناخ غاضب صنعته أيادٍ أخرى، وتدفع فيه الأضعف الثمن.

إن دول الجنوب، من بنغلاديش إلى السودان، من مدغشقر إلى هايتي، لم تكن يومًا مراكز صناعية عظمى، ولم تكد تمسّ خزّانات الفحم أو تُغرق المدن بالسيارات والطائرات، لكنها تُبتلى بالمآسي التي خلفها غيرها، وتُترك تتخبط وحدها وسط الأطلال. كيف يعقل أن تتحمّل ميزانيات هذه الدول الهشّة تكلفة إعمار ما دمّره التغير المناخي؟ من أين لها أن تزرع من جديد أرضًا ملحتها البحار؟ أو تبني منازل لآلاف شُرّدوا بفعل أعاصير لم تستأذن؟

إن فكرة التعويضات المناخية لا تقوم فقط على الحس الإنساني، بل على مبدأ بسيط وراسخ في العدالة: من أفسد عليه أن يُصلح. من راكم الثروات على حساب استقرار الكوكب عليه أن يُعيد التوازن، ليس فقط عبر الكلمات والوعود، بل بمد اليد فعليًا إلى من ضُرب في صميم حياته. فالأضرار لم تعد نظرية، والخسائر لم تعد مؤقتة، بل هناك شعوب تنهار قدرتها على البقاء، وتُجبر على الهجرة، وتتذوق طعم اللجوء لا بسبب الحروب، بل لأن الأرض نفسها أصبحت ساحة معركة مناخية.

هذه الدعوات ليست مجرد مطالب اقتصادية، بل هي أيضًا نداءات أخلاقية في وجه نظام عالمي لم يعرف بعد كيف يكون منصفًا. وهي اختبارات حقيقية لصدق النوايا التي تتزين بها البيانات الختامية للمؤتمرات المناخية. هل ستكتفي الدول الصناعية الكبرى بتقديم الفتات تحت مسمى “مساعدات تنموية”؟ أم ستعترف بمسؤوليتها التاريخية وتدفع فاتورة ما ارتكبته أجهزتها الصناعية من تخريب للمناخ؟

التعويضات المناخية، إذًا، ليست نهاية الطريق، بل بداية تصحيح لمسار غير عادل. هي أول خطوة نحو إعادة بناء الثقة بين الجنوب والشمال، بين الضحية والجاني، وبين الإنسان والأرض التي تستغيث.

وقف الاستثمارات في الوقود الأحفوري.

وقف الاستثمارات في الوقود الأحفوري لم يعد خيارًا نخبويًا أو مجرد توصية بيئية يتداولها نشطاء المناخ، بل أصبح ضرورة وجودية، صوتها يعلو من تحت البحار التي تبتلع اليابسة، ومن الغابات التي تحترق كأنها تصرخ من شدة الإنهاك. لقد بلغ العالم نقطة اللاعودة، حيث كل دولار يُضَخ في آبار النفط، وكل مشروع يُبنى على ظهر الفحم، وكل ناقلة غاز تُسيّر لتكسب الشركات الملايين، هو في الحقيقة سهم يُطعن به الكوكب، وتأجيل لعلاج أزمة تنمو وتفترس مستقبل الأجيال القادمة.

إن الإصرار على مواصلة ضخ الاستثمارات في الوقود الأحفوري لا يمكن تبريره سوى بالجشع الذي يُلبس ثوب “التنمية”، بينما هو في جوهره إدمان قاتل على نموذج اقتصادي انتهت صلاحيته. كيف يمكن أن يُبرّر ضخ المليارات في استخراج موارد نعلم تمامًا أنها مصدر رئيسي للحرائق والجفاف والعواصف والانبعاثات القاتلة؟ وكيف نقنع أنفسنا أن نُنقذ المناخ بينما نغذي أعداءه بالمال والسوق والسياسات؟

وقف هذه الاستثمارات يعني كسر دوائر الهيمنة التي رسّختها كبرى شركات الطاقة لعقود طويلة، دوائر جعلت القرار السياسي رهينة المصالح النفطية، والتخطيط الحضري أسيرًا لخطوط أنابيب لا تنقل سوى مزيد من التلوث. إنه يعني توجيه البوصلة نحو مصادر الطاقة النظيفة، لا بوصفها بدائل تكميلية، بل كحتمية بقاء، وكسيناريو وحيد للخروج من عنق الزجاجة المناخية.

المسألة لا تتعلق فقط بالبيئة، بل هي أيضًا قضية أخلاقية وإنسانية. لأن كل استثمار في الوقود الأحفوري هو استثمار في التفاوت، في الأضرار التي تقع على كاهل من لم يشارك في اللعبة أصلًا، من أطفال إفريقيا وآسيا واللاتين إلى سكان الجزر الذين يودعون بيوتهم يومًا بعد يوم. هو تمويل للهدم بينما العالم كله في حاجة ماسة إلى البناء.

إن التحول الجذري نحو وقف الاستثمارات الأحفورية ليس ضربًا من الطوباوية، بل هو القرار العاقل الوحيد في جنون سوق يراكم الأرباح من رماد الكوكب. والوقت، كما يشهد العلم والتاريخ، ينفد بسرعة. وكل دقيقة تقضى في الجدل والتسويف، هي دقيقة يُسلب فيها كوكب الأرض من حقه في الشفاء.

تعزيز العدالة البيئية.

تعزيز العدالة البيئية لم يعد شعارًا نخبويًا يردده نشطاء يلوّحون بلافتات في المؤتمرات، بل أصبح صرخة كوكب ينزف ونداء شعوب تدفع ثمنًا لم تكن هي من رسم فاتورته. إن العدالة البيئية ليست مجرد ترف فكري أو مطلب جانبي في معركة التنمية، بل هي جوهر كل محاولة صادقة لإنقاذ الأرض دون أن يُدهس الضعفاء تحت عجلات “التحول الأخضر” التي يقودها الأقوياء.

العدالة البيئية هي أن لا يُترك الجنوب العالمي، الذي لم يشارك إلا بنذر يسير في التلوث، يواجه وحده أعاصير لم يصنعها، وحرائق لم يشعلها، وفيضانات لم يتسبب بها. هي أن لا تُدفع قرى الصيادين في بنغلاديش إلى الغرق بينما تواصل المصانع في الشمال حرق الوقود ببرود أرباحها. هي أن لا تبقى المجتمعات الزراعية في السودان ومالي ومدغشقر ضحية للجفاف، في وقت يُناقش فيه أثرياء العالم تكلفة الطاقة الشمسية في صالوناتهم المكيفة.

العدالة البيئية تعني أن يُعاد النظر في كل معادلة توزيع الموارد، وأن يُكفّ عن تحميل الدول الفقيرة مسؤولية الفوضى المناخية التي تسببت بها الأنظمة الصناعية القديمة. إنها تستدعي إعادة كتابة قواعد اللعبة، بحيث لا تُدار أجندة المناخ بأيدي أصحاب الأسهم فقط، بل بأصوات المجتمعات المتضررة، والمزارعين الذين تتشقق أرضهم، والنساء اللواتي يسقين أسرهن من آبار تزداد جفافًا كل عام.

إن تعزيز العدالة البيئية لا يعني فقط تخصيص بعض “التمويل المناخي”، بل يعني تفكيك البنية غير العادلة للعلاقات الاقتصادية والسياسية التي جعلت الكوارث تتوزع جغرافيًا وفق معايير لا علاقة لها بمسؤولية الفعل. ويعني كذلك أن تتحمل الدول الغنية مسؤوليتها التاريخية كاملة، لا بالاعتراف فقط، بل بالتعويض، والدعم، ونقل التكنولوجيا، وتخفيف الديون، وإفساح المجال أمام أنظمة بديلة لا تستنسخ التبعية البيئية بوجه جديد.

هي دعوة لإعادة تعريف التقدم بحيث لا يُقاس بعدد المصانع بل بعدد الأرواح التي تُنقذ من تحت ركام المناخ. وعدالة لا تكتفي بتغيير مصادر الطاقة، بل تغيّر كذلك منطق السيطرة، وتعيد للبشر — كل البشر — حقهم في بيئة لا تُستباح لأجل رفاهية فئة ولا تُضحى بها من أجل مكسب سريع.

في زمن الخطر المناخي، لا توجد عدالة دون عدالة بيئية. إنها الحصن الأخير الذي إن انهار، فلن تنجو فيه دولة بقوتها، ولا اقتصاد بصخبه، ولا حضارة بعلمها.

وفي نهاية هذا المسار الشائك، نقف عند مفترق طرق لا يحتمل المزيد من التسويف، ولا مزيدًا من الخطابات المعلّبة التي تخدر الضمير ولا توقظه. لقد بات واضحًا أن أزمة المناخ لم تعد مجرد قضية علمية تُناقش في المؤتمرات، أو أرقامًا تُتداول في تقارير الأمم المتحدة، بل تحوّلت إلى مأساة حقيقية تحاصر الإنسان في كل مكان، وتهدد ما تبقى من توازن هش بين الحضارة والطبيعة، بين الطموح والنجاة، بين الربح والبقاء.

العالم اليوم أشبه بسفينة تُبحر وسط عاصفة هوجاء، ولكنّ دفتها ليست في يد الجميع، بل في يد قلة من اللاعبين الكبار الذين راكموا الأرباح على حساب الهواء النقي، والماء العذب، والتربة الخصبة. أما الأغلبية، تلك التي لم تكن جزءًا من الجريمة، فتُترك لتصارع الغرق، وتحفر بأصابعها جدران الأمل في أرض تزداد تشققًا، وسماء تزداد سخونة، ومستقبل مهدد بالتبخر كما يتبخر ندى الصباح في قلب الصحراء.

إن المطلوب اليوم ليس أقل من تحوّل جذري في الوعي والسلوك والنظام نفسه. لا يكفي أن نبدّل الوقود، بل علينا أن نبدّل المنطق الذي يُدير هذا الكوكب. لا نريد حلولًا تجميلية تُسكت الضمير الدولي، بل نريد ثورة بيئية تُحرر الإنسان من هيمنة الاستهلاك الوحشي، وتُعيد للطبيعة كرامتها، وللمجتمعات الهشة قدرتها على الحلم.

المعركة ليست بيئية فحسب، إنها معركة أخلاقية، معركة من أجل العدالة والكرامة وحق الحياة. لن تُنقذنا التكنولوجيا وحدها، ما لم يقم في القلب منها وعي جديد يعترف بأن الإنسان ليس سيّد الأرض، بل جزء منها، وأن إنقاذها هو إنقاذ لأنفسنا أولًا، ولأطفالنا الذين سيكبرون إمّا فوق رماد حضارةٍ لم تعرف حدود أطماعها، أو في ظل نظامٍ بيئيٍّ استعاد توازنه بفضل شجاعة من تجرؤوا على قول الحقيقة في زمن الخداع الجماعي.

إن الزمن لم يعد يرحم، والفرصة تضيق، والطريق إلى الإنقاذ لا يمر عبر المؤتمرات فقط، بل عبر قرار شجاع بأن نغيّر كل ما هو مختل، مهما بدا مستقرًا، وأن نستبدل سباق الاستهلاك ببطولة البقاء، وأن نعيد للعالم قلبه الذي نسي كيف ينبض خارج حسابات السوق. عندها فقط، ربما، يبتسم الغد.

🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى