«الأب»… البطل الصامت الذي لا نعرف قيمته إلا بعد الرحيل
بقلم: د.أسامة بدير
في كل بيت، يقف رجل غالباً في الظل، لا يطلب شيئًا لنفسه، ولا يشتكي، ولا يتباهى بما يفعل، ولكنه يسند العائلة كلها دون أن يراه أحد. إنه الأب… أكثر من يعمل، وأقل من يُقدَّر.
الأب هو أول من ينهض وآخر من ينام، يخرج كل صباح وفي قلبه همّ الرزق، وعلى كتفيه أثقال الحياة، لكنه لا يظهر شيئاً من تعبه، وكأنه خُلق ليحتمل ويمنح. هو أكثر من يجلب المال، لكنه أقل من يشتري لنفسه، وأكثر من يحرم نفسه من أجل أبنائه. هو من يُضحّي بصحته وراحته، ليُؤمّن دفئًا وكرامة لبيته، وفي الوقت ذاته، لا يُعرف عنه التذمر أو الجفاء، بل يُحب بصمت، ويخاف بصمت، ويحتمل بصمت.
غالبًا ما ننشغل عن رؤية الأب الحقيقي؛ لا ذاك الذي نعرفه فقط بوصفه “رب الأسرة”، بل ذاك الإنسان الذي يُخفي خلف وجهه الصارم قلباً يفيض حناناً وهموماً. لا نراه ونحن صغار، ولا نفهمه ونحن مراهقون، وقد لا نُقدّر قيمته إلا حين يغيب… حين تصبح كرسيه الخالي ذكرى، وصوته في الممرات صدى لا يعود.
كم من أبٍ عاش عمره كله لا يطلب لنفسه إجازة، ولا ينتظر مناسبة ليكافَأ، فقط لأن فرح أولاده هو مكافأته. كم من أبٍ كان يبذل الجهد المُضاعف ليكفي بيته، دون أن يسمع “شكرًا”، ودون أن يُقال له “نحن نراك ونُقدّرك”.
إن الأب لا يُقاس بما يقدمه فقط، بل بعظم حضوره حتى في غيابه. فرغم الفقد، يبقى الأب حاضراً في تفاصيل الحياة، في النصائح، في المبادئ، في صدى خطواته، وفي كل موقف صعب علّمنا كيف نواجهه دون أن ندري.
رحم الله كل أب غاب ولم يعرف أبناؤه كم تعب من أجلهم، وكم كان وجوده دعامة لا تهتز. وبارك الله في كل أب ما زال على قيد الحياة، يكدّ في صمت، ويحبّ دون شروط، ويمنح دون حساب.
فيا من لك أب… قف لحظة، وتأمّل، ثم أخبره كم تحبه، وكم هو عظيم… قبل أن يُصبح كل ما يمكنك قوله: رحمك الله يا أبي.
أختم مقالي بكلمات من ذهب، ورثاءٍ من أعماق القلب، رغم رحيل أبي منذ عقد من الزمن، وها أنا بالفعل أبكي وأنا أكتب هذه السطور… أبكي حنيناً، وشوقاً، وحباً، واعترافاً بقيمة من كان، وما زال، أغلى الرجال.
بكائي على أبي ليس مجرد دموع، بل وجع مقيم في القلب، وحنين لا يُطفئه الزمن. أبكيه كلما ضاقت بي الحياة، وكلما شعرت أنني في حاجة إلى حضن لا ينهار، إلى كلمة طمأنينة لا تتغير، إلى ظله الذي كان يُظلّني من تقلبات الأيام.
أبكيه حين أنجح ولا أراه يبتسم، حين أضعف ولا أجد من يمدّ لي يده دون شروط.
رحل أبي، لكنّه لم يرحل من قلبي، باقٍ في دعائي، في تفاصيل وجهي، في صوتي حين أتشبّه به، في ملامح قوتي التي كانت تشتد حين يُمسك بيدي.
رحمك الله يا أبي… ما حييت وما نسيت.
🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.