رأى

إشكالية تضخم الذات وبحوثنا الاجتماعية والإرشادية والسلوكية

د.معمر جابر جاد

د.معمر جابر جاد

أستاذ الإرشاد الزراعي المساعد ـ مركز البحوث الزراعية

 في تراثنا الأدبي يحضرني شعر المتنبى: عَلى قَدْرِ أهْلِ العَزْم تأتي العَزائِمُ, وَتأتي علَى قَدْرِ الكِرامِ المَكارمُ. وَتَعْظُمُ في عَينِ الصّغيرِ صغارُه وَتَصْغُرُ في عَين العَظيمِ العَظائِمُ. ومن مأثورات ابو حامد الغزالى انه قال: اشد الناس حماقة اقواهم اعتقادا في فضل نفسه، واثبتت الناس عقلا اشدهم اتهاما لنفسه.

لعل من يتأمل هذه المعانى يصل الى ثمة خطأ كبير لا زلنا نصرعلى الوقوع فيه في بحوثنا الارشادية والاجتماعية والسلوكية .. وخاصة في البحوث التى تتعلق بالمستويات او الاحتياجات المعرفية او التعليمية عندما نضع عدد من البنود المعرفية او الممارسات الموصى بها متبوعة باستجابات يعرف ولايعرف تاركين طلاقة الحكم والتقييم للمبحوثين انفسهم لتقييم ذواتهم.

يميل المبحوثون الاقل مهارة وفهما ومعرفة الى المبالغة في تقدير ذواتهم، عكس الاكثر معرفة وخبرة وفهما والاكثر ثقة في ذواتهم لا يبالغون في تقديرانفسهم فتكون النتائج غير صحيحة وغير منطقية فالاقل معرفة تكون درجاته المعرفية اعلى والاكثر معرفة تكون درجاته المعرفية اقل وفقا لتقديرهم .. وتزيد المشكلة تعقيدا اذا تناول البحث دراسة علاقات ارتباطية أو انحدارية بين درجات المعرفة ومتغيرات مستقلة اخرى، تجد النتائج غير مقبولة ولا يمكن تفسيرها الا في ضوء خطأ القياس، فعلى سبيل المثال ربما تجد ارتباطا عكسيا بين المستوى التعليمي والمستوى المعرفي!!

وتعاملت مع هذه الاشكالية سلسلة الدراسات التي أجراها عالم النفس من جامعة كورنيل الأميركية الدكتور ديفيس دانينج حول موضوع تضخيم الذات، تبين للدكتور دانينج أن الأشخاص الأقل كفاءة وخبرة هم أكثر الناس ميلاً لتضخيم قدراتهم والمبالغة في تقييمها، في حين أن معظم المتميزين يميلون إلى التقليل من شأن إنجازاتهم، لأنها تبدو في أعينهم أشياء بسيطة لم تكلفهم إلا جهداً قليلاً، ووجد العالم النفساني في جامعة كوينزلاند بأستراليا مارك هورسويل أن السائقين يميلون دوماً إلى المبالغة في تقييم أنفسهم، فتجد كل واحد منهم يرى أنه أفضل شخص في قيادة مركبته، حتى عندما يمر بتجربة تكشف له أن نوعية سياقته تعرضه لـمخاطر لا يواجهها إلا الأقل مهارة.

ناهيك عن كون الناس لا يتلقون عادة وللأسف تغذيات راجعة صادقة من الآخرين، بل إن غالبيتها تكون أقرب إلى المجاملات الزائفة منها إلى الشهادات النابعة من القلب، ما يجعل ذلك الوهم الذي ينسجونه حول تفوقهم في مهارة ما يتضخم أكثر فأكثر. وفي هذا الصدد، يقول ديفيس دانينج “عندما يلتقيك الناس وجهاً لوجه، فإنهم يقولون لك روايات عن نفسك مختلفة عما يقولونه عنك في غيابك”.

والناس عموما يعتقدون أنهم أفضل من الآخرين في ميادين عديدة، بدءاً من السلوك الخيري والإحسان، ووصولاً إلى جودة الأداء في العمل. ويُصطلح على هذه الظاهرة في علم النفس “التفوق المتوهَم” ومن هنا فان اشكالية تضخيم الذات تقف حائلا دون جودة البحوث الاجتماعية والارشادية والسلوكية التى تعتمد على التقييم الذاتي.

ويكون من الافضل البحث عن طرق اخرى للتقييم والتى تزخر بها المراجع التربوية في كيفية اجراء الاختبارات التقييمية كما ان ثمة مفاهيم اخرى تعتبر هامة في مثل هذه البحوث مثل: الحاجات المحسوسة، وغير المحسوسة، وادراك النقص المعرفي، ودرجة الاستعداد للتغير. وهذه المصطلحات تناولتها بالفعل في دراسة الماجستير عن الاحتياجات التعليمية للشباب الريفي في (المجالات السياسية والمهنية والصحية) واضافت بعدا هاما عن مدى الاحساس بالاحتياج ومدى ادراك النقص، ودرجة الاستعداد للتغير واهمية مراعاة هذه الابعاد في برامج توعية وتنمية الشباب.

واعكف حاليا على دراسة تحليل مضمون لبحوث المستويات المعرفية ومنهجيتها ومتغيراتها، بالاضافة لبحث يشمل الفوارق بين التقييم بالاختبارت المعرفية والتقييم الذاتي لنفس العينة من المبحوثين لمحاولة تصويب كثير من بحوث المستويات المعرفية التى تمتلئ بها المكتبة الارشادية .. اتمنى في القريب العاجل ان نجد كثير من الاسهامات البحثية من علمائنا الافاضل والاساتذة الاجلاء .. التى تثرى مكتبة العلوم الاجتماعية والسلوكية والارشادية ببحوث معرفية تتضمن تجديدا وابداعا في الاساليب التقييمية، حيث اجد تهميشا لقدراتنا العقلية والابداعية في حصر التقييمات المعرفية.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى