أثر ميزانيات البحث العلمي في الدول المتقدمة والنامية والعربية على جودة الإنتاج
بقلم: د.شكرية المراكشي
الخبير الدولي في الزراعات البديلة ورئيس مجلس إدارة شركة مصر تونس للتنمية الزراعية
عندما نبحر في عالم البحث العلمي ونغوص في تفاصيله الدقيقة، سرعان ما نكتشف أن حجم الميزانيات المخصصة له لا يعكس مجرد أرقام تُدرج في تقارير رسمية أو بنود في خطط سنوية، بل هو في جوهره انعكاس حقيقي لنظرة الدولة إلى المستقبل، ومرآة صادقة لأولوياتها الحضارية والتنموية. فالفارق في الإنفاق على البحث العلمي بين الدول المتقدمة من جهة، والدول النامية والعربية من جهة أخرى، ليس مجرد تفاوت في الموارد المالية، بل هو في الحقيقة تجسيد عميق للفارق في الوعي الاستراتيجي، والفهم للدور المحوري للعلم في بناء الأمم وتحصين استقلالها الاقتصادي والتقني.
في الدول المتقدمة، يبدو البحث العلمي كأنه النبض السري الذي يغذي شرايين الدولة من أقصاها إلى أقصاها. هنا، تُرصد الميزانيات بسخاء وتُدار بعقلانية، وتُعتبر مراكز البحث مختبرات لصناعة الغد، وليست مجرد مؤسسات تعليمية. تتجاوز نسب الإنفاق هناك في كثير من الأحيان 2% إلى 4% من الناتج المحلي الإجمالي، وتخضع هذه الميزانيات لمراقبة دقيقة، وتُوجه في الغالب لخدمة قطاعات حيوية كالصناعة المتقدمة، الزراعة الذكية، الطاقة النظيفة، والذكاء الاصطناعي. ما يميز هذه الدول ليس فقط حجم الإنفاق، بل أيضًا الرؤية الواضحة، والتكامل بين السياسات الحكومية واحتياجات السوق، والشراكة الفعالة بين الجامعات، الشركات، ومؤسسات الدولة.
أما في الدول النامية، فالصورة تبدو أكثر ضبابية. هناك، يُنظر إلى البحث العلمي أحيانًا كترف لا تستطيع الدولة تحمله، لا كرافعة للتنمية. الميزانيات المخصصة له لا تتجاوز في أفضل الحالات 0.5% من الناتج المحلي، وغالبًا ما يتم اختزال دوره في البحوث الأكاديمية النظرية، بعيدًا عن الواقع الاقتصادي والاجتماعي. وتبقى المعاناة الأكبر متمثلة في ضعف البنية التحتية البحثية، ونقص التدريب، والبيروقراطية المعقدة، التي تقف عائقًا أمام تحويل الأفكار إلى إنجازات ملموسة.
أما في المشهد العربي، فالوضع أكثر تعقيدًا وتفاوتًا. فبينما هناك محاولات مشجعة في بعض الدول الخليجية التي بدأت تدرك أهمية البحث العلمي وتسعى لتخصيص نسب معتبرة من ميزانياتها، فإن الأغلبية لا تزال تحبو في هذا الطريق. الميزانيات في معظم الدول العربية بالكاد تلامس 0.2% إلى 0.3% من الناتج المحلي، وغالبًا ما يتم التعامل مع البحث العلمي كعبء إضافي وليس كفرصة استراتيجية. تتوزع الجهود على مبادرات فردية، دون استراتيجية موحدة، ودون ربط عضوي بين البحث العلمي والقطاعات الإنتاجية. كما أن ضعف الإرادة السياسية، وتضارب السياسات التعليمية، ونقص التنسيق الإقليمي، يحول دون بناء منظومة بحثية عربية قادرة على المنافسة أو حتى على تلبية الحد الأدنى من متطلبات التنمية المستدامة.
إن المقارنة بين هذه العوالم الثلاثة تكشف بوضوح أننا لا نعيش فقط فجوة مالية، بل فجوة فلسفية في كيفية النظر إلى دور العلم والمعرفة. إنها دعوة مفتوحة لإعادة النظر، لإشعال الضوء في نهاية النفق، والانطلاق نحو بناء بيئة تحترم العقول، وتستثمر في الفكرة قبل أن تستورد النتائج. فالبحث العلمي ليس رفاهية، بل هو أداة بقاء وتفوق، وسلاح أمم لا ترغب فقط في مواكبة العالم، بل في صناعته.
. 1ميزانيات البحث العلمي في الدول المتقدمة
في الدول المتقدمة، لا يُنظر إلى البحث العلمي باعتباره مجالًا ثانويًا أو ترفًا فكريًا، بل يُعد ركيزة أساسية في هندسة المستقبل وضمان الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والتكنولوجي. في هذه البلدان، تُعامل المعرفة باعتبارها ثروة قومية، وتُرصد لها ميزانيات ضخمة تعكس قناعة راسخة بأن الابتكار والبحث العلمي هما القوة الدافعة للتنمية المستدامة، لا سيما في قطاعات حيوية كالإنتاج الزراعي والحيواني والسمكي.
في الولايات المتحدة الأمريكية، التي تُعتبر نموذجًا عالميًا في دعم البحث العلمي، تبلغ نسبة الإنفاق على البحث والتطوير حوالي 3.1% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2023، وهو ما يعادل 700 مليار دولار أمريكي كميزانية إجمالية للبحث العلمي. من هذا المبلغ الضخم، يُخصص نحو 3 مليارات دولار لوزارة الزراعة الأمريكية (USDA)، وهو رقم يوضح مدى جدية الدولة في دعم القطاع الزراعي. هنا، تتقدم الولايات المتحدة بخطى واسعة في مجالات الهندسة الوراثية، الزراعة الدقيقة، وتكنولوجيا الإنتاج الحيواني والسمكي، حيث تُستخدم الأقمار الصناعية، والاستشعار عن بُعد، وتحليلات البيانات الضخمة لتطوير أنظمة الزراعة والإنتاج الحيواني وفق أعلى درجات الكفاءة.
أما ألمانيا، العملاق الأوروبي الصناعي والعلمي، فقد رفعت نسبة إنفاقها على البحث العلمي إلى 3.2% من الناتج المحلي الإجمالي، بميزانية إجمالية تقارب 130 مليار دولار. تميزت ألمانيا في السنوات الأخيرة بتركيزها على الزراعة المستدامة والطاقة الحيوية، إذ أصبحت مختبراتها منصة عالمية لتطوير تقنيات تحسين سلالات الحيوانات الزراعية، وتغذيتها بطريقة صحية وصديقة للبيئة، ما جعلها من أبرز الدول في تصدير المعرفة والتكنولوجيا الزراعية.
في اليابان، بلد الابتكار الدائم، ارتفعت نسبة الإنفاق إلى 3.3% من الناتج المحلي الإجمالي، ما يُترجم إلى نحو 160 مليار دولار تُخصص للبحث العلمي بمختلف فروعه. اليابان لا تكتفي بتطوير أدوات وتقنيات الزراعة الحديثة، بل تمضي بعيدًا في أنظمة تربية الأسماك والدواجن الحديثة، مستفيدة من تقنيات الروبوتات والذكاء الاصطناعي لمراقبة صحة الإنتاج وتحسين جودته وتقليل الفاقد.
وتقف كوريا الجنوبية على رأس الدول التي قفزت قفزات مذهلة في البحث العلمي، حيث تصل نسبة الإنفاق إلى 4.5% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو رقم يتجاوز حتى النسبة الأمريكية، ويُترجم إلى ميزانية تبلغ نحو 100 مليار دولار. وقد أولت كوريا اهتمامًا بالغًا لتكنولوجيا الزراعة الذكية، والأتمتة في الإنتاج الحيواني والسمكي، فأنشأت مزارع رقمية متكاملة تدار بأنظمة الذكاء الاصطناعي، ما سمح لها بتحقيق كفاءة إنتاجية استثنائية وبأقل قدر ممكن من الموارد.
وفي قلب أوروبا، تُسطّر هولندا قصة نجاحها الخاصة، رغم صغر حجمها الجغرافي. فبنسبة إنفاق على البحث العلمي تُقدر بـ 2.2% من الناتج المحلي الإجمالي، وبميزانية تبلغ حوالي 35 مليار دولار، استطاعت هولندا أن تُصبح من بين أكبر الدول المصدرة للمنتجات الزراعية في العالم. كيف؟ الجواب يكمن في الاستثمار في الزراعة المائية، الزراعة الذكية، والزراعة البيئية. فقد اعتمدت على أنظمة دقيقة للتحكم في المناخ داخل البيوت الزراعية، وطورت تقنيات لتربية الأسماك تعتمد على أقل قدر من المياه وأعلى درجات الكفاءة الغذائية.
إن ما يجمع هذه الدول ليس فقط ارتفاع الميزانيات المخصصة للبحث العلمي، بل أيضًا الوضوح في الرؤية، والتناغم بين سياسات الدولة والاحتياجات المجتمعية، وتكامل الأدوار بين مراكز البحث، الجامعات، والمزارعين أنفسهم. وهذه النماذج تقدم للعالم النامي والعربي دروسًا لا تُقدر بثمن، مفادها أن التنمية لا تُشترى، بل تُصنع في المختبرات، وتُغذى بالإرادة السياسية والعلمية، وتُثمر في الحقول والمزارع والأسواق.
مقارنة مفصلة لميزانيات البحث العلمي في الدول المتقدمة، النامية، والعربية
عندما نبحر في عالم البحث العلمي ونغوص في تفاصيله الدقيقة، سرعان ما نكتشف أن حجم الميزانيات المخصصة له لا يعكس مجرد أرقام تُدرج في تقارير رسمية أو بنود في خطط سنوية، بل هو في جوهره انعكاس حقيقي لنظرة الدولة إلى المستقبل، ومرآة صادقة لأولوياتها الحضارية والتنموية. فالفارق في الإنفاق على البحث العلمي بين الدول المتقدمة من جهة، والدول النامية والعربية من جهة أخرى، ليس مجرد تفاوت في الموارد المالية، بل هو في الحقيقة تجسيد عميق للفارق في الوعي الاستراتيجي، والفهم للدور المحوري للعلم في بناء الأمم وتحصين استقلالها الاقتصادي والتقني.
في الدول المتقدمة، يبدو البحث العلمي كأنه النبض السري الذي يغذي شرايين الدولة من أقصاها إلى أقصاها. هنا، تُرصد الميزانيات بسخاء وتُدار بعقلانية، وتُعتبر مراكز البحث مختبرات لصناعة الغد، وليست مجرد مؤسسات تعليمية. تتجاوز نسب الإنفاق هناك في كثير من الأحيان 2% إلى 4% من الناتج المحلي الإجمالي، وتخضع هذه الميزانيات لمراقبة دقيقة، وتُوجه في الغالب لخدمة قطاعات حيوية كالصناعة المتقدمة، الزراعة الذكية، الطاقة النظيفة، والذكاء الاصطناعي. ما يميز هذه الدول ليس فقط حجم الإنفاق، بل أيضًا الرؤية الواضحة، والتكامل بين السياسات الحكومية واحتياجات السوق، والشراكة الفعالة بين الجامعات، الشركات، ومؤسسات الدولة.
أما في الدول النامية، فالصورة تبدو أكثر ضبابية. هناك، يُنظر إلى البحث العلمي أحيانًا كترف لا تستطيع الدولة تحمله، لا كرافعة للتنمية. الميزانيات المخصصة له لا تتجاوز في أفضل الحالات 0.5% من الناتج المحلي، وغالبًا ما يتم اختزال دوره في البحوث الأكاديمية النظرية، بعيدًا عن الواقع الاقتصادي والاجتماعي. وتبقى المعاناة الأكبر متمثلة في ضعف البنية التحتية البحثية، ونقص التدريب، والبيروقراطية المعقدة، التي تقف عائقًا أمام تحويل الأفكار إلى إنجازات ملموسة.
أما في المشهد العربي، فالوضع أكثر تعقيدًا وتفاوتًا. فبينما هناك محاولات مشجعة في بعض الدول الخليجية التي بدأت تدرك أهمية البحث العلمي وتسعى لتخصيص نسب معتبرة من ميزانياتها، فإن الأغلبية لا تزال تحبو في هذا الطريق. الميزانيات في معظم الدول العربية بالكاد تلامس 0.2% إلى 0.3% من الناتج المحلي، وغالبًا ما يتم التعامل مع البحث العلمي كعبء إضافي وليس كفرصة استراتيجية. تتوزع الجهود على مبادرات فردية، دون استراتيجية موحدة، ودون ربط عضوي بين البحث العلمي والقطاعات الإنتاجية. كما أن ضعف الإرادة السياسية، وتضارب السياسات التعليمية، ونقص التنسيق الإقليمي، يحول دون بناء منظومة بحثية عربية قادرة على المنافسة أو حتى على تلبية الحد الأدنى من متطلبات التنمية المستدامة.
إن المقارنة بين هذه العوالم الثلاثة تكشف بوضوح أننا لا نعيش فقط فجوة مالية، بل فجوة فلسفية في كيفية النظر إلى دور العلم والمعرفة. إنها دعوة مفتوحة لإعادة النظر، لإشعال الضوء في نهاية النفق، والانطلاق نحو بناء بيئة تحترم العقول، وتستثمر في الفكرة قبل أن تستورد النتائج. فالبحث العلمي ليس رفاهية، بل هو أداة بقاء وتفوق، وسلاح أمم لا ترغب فقط في مواكبة العالم، بل في صناعته.
1ـ ميزانيات البحث العلمي في الدول المتقدمة
في الدول المتقدمة، لا يُنظر إلى البحث العلمي باعتباره مجالًا ثانويًا أو ترفًا فكريًا، بل يُعد ركيزة أساسية في هندسة المستقبل وضمان الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والتكنولوجي. في هذه البلدان، تُعامل المعرفة باعتبارها ثروة قومية، وتُرصد لها ميزانيات ضخمة تعكس قناعة راسخة بأن الابتكار والبحث العلمي هما القوة الدافعة للتنمية المستدامة، لا سيما في قطاعات حيوية كالإنتاج الزراعي والحيواني والسمكي.
في الولايات المتحدة الأمريكية، التي تُعتبر نموذجًا عالميًا في دعم البحث العلمي، تبلغ نسبة الإنفاق على البحث والتطوير حوالي 3.1% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2023، وهو ما يعادل 700 مليار دولار أمريكي كميزانية إجمالية للبحث العلمي. من هذا المبلغ الضخم، يُخصص نحو 3 مليارات دولار لوزارة الزراعة الأمريكية (USDA)، وهو رقم يوضح مدى جدية الدولة في دعم القطاع الزراعي. هنا، تتقدم الولايات المتحدة بخطى واسعة في مجالات الهندسة الوراثية، الزراعة الدقيقة، وتكنولوجيا الإنتاج الحيواني والسمكي، حيث تُستخدم الأقمار الصناعية، والاستشعار عن بُعد، وتحليلات البيانات الضخمة لتطوير أنظمة الزراعة والإنتاج الحيواني وفق أعلى درجات الكفاءة.
أما ألمانيا، العملاق الأوروبي الصناعي والعلمي، فقد رفعت نسبة إنفاقها على البحث العلمي إلى 3.2% من الناتج المحلي الإجمالي، بميزانية إجمالية تقارب 130 مليار دولار. تميزت ألمانيا في السنوات الأخيرة بتركيزها على الزراعة المستدامة والطاقة الحيوية، إذ أصبحت مختبراتها منصة عالمية لتطوير تقنيات تحسين سلالات الحيوانات الزراعية، وتغذيتها بطريقة صحية وصديقة للبيئة، ما جعلها من أبرز الدول في تصدير المعرفة والتكنولوجيا الزراعية.
في اليابان، بلد الابتكار الدائم، ارتفعت نسبة الإنفاق إلى 3.3% من الناتج المحلي الإجمالي، ما يُترجم إلى نحو 160 مليار دولار تُخصص للبحث العلمي بمختلف فروعه. اليابان لا تكتفي بتطوير أدوات وتقنيات الزراعة الحديثة، بل تمضي بعيدًا في أنظمة تربية الأسماك والدواجن الحديثة، مستفيدة من تقنيات الروبوتات والذكاء الاصطناعي لمراقبة صحة الإنتاج وتحسين جودته وتقليل الفاقد.
وتقف كوريا الجنوبية على رأس الدول التي قفزت قفزات مذهلة في البحث العلمي، حيث تصل نسبة الإنفاق إلى 4.5% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو رقم يتجاوز حتى النسبة الأمريكية، ويُترجم إلى ميزانية تبلغ نحو 100 مليار دولار. وقد أولت كوريا اهتمامًا بالغًا لتكنولوجيا الزراعة الذكية، والأتمتة في الإنتاج الحيواني والسمكي، فأنشأت مزارع رقمية متكاملة تدار بأنظمة الذكاء الاصطناعي، ما سمح لها بتحقيق كفاءة إنتاجية استثنائية وبأقل قدر ممكن من الموارد.
وفي قلب أوروبا، تُسطّر هولندا قصة نجاحها الخاصة، رغم صغر حجمها الجغرافي. فبنسبة إنفاق على البحث العلمي تُقدر بـ 2.2% من الناتج المحلي الإجمالي، وبميزانية تبلغ حوالي 35 مليار دولار، استطاعت هولندا أن تُصبح من بين أكبر الدول المصدرة للمنتجات الزراعية في العالم. كيف؟ الجواب يكمن في الاستثمار في الزراعة المائية، الزراعة الذكية، والزراعة البيئية. فقد اعتمدت على أنظمة دقيقة للتحكم في المناخ داخل البيوت الزراعية، وطورت تقنيات لتربية الأسماك تعتمد على أقل قدر من المياه وأعلى درجات الكفاءة الغذائية.
إن ما يجمع هذه الدول ليس فقط ارتفاع الميزانيات المخصصة للبحث العلمي، بل أيضًا الوضوح في الرؤية، والتناغم بين سياسات الدولة والاحتياجات المجتمعية، وتكامل الأدوار بين مراكز البحث، الجامعات، والمزارعين أنفسهم. وهذه النماذج تقدم للعالم النامي والعربي دروسًا لا تُقدر بثمن، مفادها أن التنمية لا تُشترى، بل تُصنع في المختبرات، وتُغذى بالإرادة السياسية والعلمية، وتُثمر في الحقول والمزارع والأسواق.
2ـ ميزانيات البحث العلمي في الدول النامية
في الدول النامية، يقف البحث العلمي عند مفترق طرق بين الطموح والإمكانات، بين الحاجة الملحّة للابتكار ودفع عجلة التنمية، وبين التحديات التي تعيق انطلاقة حقيقية في هذا المسار. فمع أن هذه الدول تمتلك ثروات طبيعية وبشرية هائلة، إلا أن محدودية التمويل وعدم الاستقرار السياسي أو الإداري في بعض الحالات يفرضان واقعًا غير عادل على الباحثين والعقول الطموحة. ورغم ذلك، تُظهر بعض الدول النامية إشارات تقدم ملحوظة، خاصة في القطاعات الزراعية والإنتاج الحيواني والسمكي، إدراكًا منها بأن الأمن الغذائي هو البوابة الأولى للسيادة الاقتصادية والاستقرار المجتمعي.
في الهند، التي تُعد من أكبر الاقتصادات الصاعدة عالميًا، تبلغ نسبة الإنفاق على البحث العلمي حوالي 0.7% من الناتج المحلي الإجمالي، بما يعادل نحو 40 مليار دولار أمريكي بحسب تقديرات البنك الدولي ومنظمة اليونسكو للعلوم. هذه النسبة، وإن بدت منخفضة مقارنة بالدول المتقدمة، إلا أنها تمثل طفرة مهمة مقارنة بالعقود الماضية. وقد وضعت الحكومة الهندية قطاع الزراعة في قلب أجندتها البحثية، حيث يُخصص جزء معتبر من التمويل لتحسين سلالات المحاصيل الزراعية، تعزيز مقاومة الأمراض، وتطوير سلاسل الإنتاج الحيواني. كما تقوم المؤسسة الهندية للبحوث الزراعية (ICAR) بدور محوري في ربط البحث بالواقع الزراعي، عبر مشروعات ترتكز على الأمن الغذائي وتكنولوجيا الإنتاج.
أما في البرازيل، رئة الزراعة في أمريكا اللاتينية، فإن الدولة تنفق ما يعادل 1.3% من ناتجها المحلي الإجمالي على البحث العلمي، وهو ما يُقدر بنحو 50 مليار دولار أمريكي وفق تقارير المعهد البرازيلي للإحصاء والابتكار الزراعي (Embrapa). وتتميز البرازيل بتوجيه جزء كبير من هذا التمويل إلى الأبحاث الزراعية، لا سيما في المناطق الاستوائية، حيث تسعى لتطوير محاصيل تتحمل الحرارة والرطوبة العالية، وتحسين الإنتاج الحيواني بطريقة تلائم البيئات المتقلبة. كما أولت اهتمامًا خاصًا بتعزيز الاستزراع السمكي، وتحديث نظم تربية المواشي والدواجن عبر دعم برامج التلقيح الاصطناعي، العلف المتوازن، وتقنيات الري الحديثة.
أما جنوب أفريقيا، الدولة التي تقف على حدود التقدم والعقبات، فإن إنفاقها على البحث العلمي لا يتجاوز 0.8% من الناتج المحلي الإجمالي، أي ما يقارب 10 مليارات دولار أمريكي، حسب تقديرات المعهد الوطني للابتكار في جنوب أفريقيا (NACI). ورغم هذه الميزانية المحدودة، إلا أن البلاد تُظهر حرصًا واضحًا على دعم أبحاث مقاومة الجفاف، والزراعة في التربة الفقيرة، بالإضافة إلى تطوير المحاصيل المحلية التي تمثل العمود الفقري للأمن الغذائي في المناطق الريفية. لكن تبقى التحديات ماثلة، خاصة في ما يتعلق بنقل المعرفة إلى المجتمعات الزراعية الفقيرة وغياب ربط البحث العلمي باحتياجات المزارعين بشكل مباشر.
في المجمل، تؤكد هذه النماذج أن الدول النامية، رغم القيود، قد بدأت تقتنع بأن الاستثمار في العقل البشري، وفي البحث العلمي، هو المسار الوحيد الممكن لتحقيق نهضة زراعية واقتصادية مستدامة. وتظل الحاجة قائمة لتوسيع الشراكات الدولية، وزيادة الانفتاح على مصادر التمويل، وتفعيل الابتكار المحلي، كشرط لازم للتقدم الحقيقي.
3ـ ميزانيات البحث العلمي في الدول العربية
في العالم العربي، يقف البحث العلمي كما لو أنه في معركة غير متكافئة؛ معركة بين طموحات كبيرة وموارد متواضعة، بين الحاجة الماسة للتطوير ومحدودية الدعم المؤسسي والمالي. ومع أن بعض الدول بدأت تستوعب أهمية البحث العلمي، خاصة في مجالات الزراعة والإنتاج الحيواني والسمكي التي تمس الأمن الغذائي مباشرة، إلا أن الصورة العامة لا تزال تعكس واقعًا يعاني من التفاوت والفجوة بين الإمكانيات والاحتياجات. وتُظهر الأرقام الصادرة عن اليونسكو، والمنظمة العربية للتنمية الزراعية، وتقارير المنتدى العربي للبحث العلمي والتنمية المستدامة أن ميزانيات البحث العلمي في الدول العربية ما تزال في الغالب متواضعة، بل ومتدنية مقارنة بحجم التحديات المناخية والاقتصادية التي تواجه المنطقة.
في مصر، التي تمتلك قاعدة بشرية علمية كبيرة وبنية أكاديمية ممتدة، لا تتجاوز نسبة الإنفاق على البحث العلمي 0.3% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يعادل أقل من مليار دولار أمريكي سنويًا. وتُعد هذه النسبة من الأدنى إقليميًا، ما ينعكس بشكل مباشر على محدودية التمويل المخصص للبحوث الزراعية. ومع أن المؤسسات مثل مركز البحوث الزراعية المصري تبذل جهودًا كبيرة في تطوير الأصناف المحلية من المحاصيل وتحسين مقاومة الأمراض، فإن ضعف التمويل يقف عقبة أمام إجراء أبحاث نوعية ومستدامة. كما أن الابتكار في الإنتاج الحيواني والسمكي لا يزال محدودًا ومشتتًا.
أما المغرب، فقد شهد تطورًا نسبيًا في هذا السياق، حيث ارتفعت نسبة الإنفاق على البحث العلمي إلى 0.8% من الناتج المحلي الإجمالي، بميزانية تقارب 1.2 مليار دولار أمريكي. وتركز الدولة، بدعم من الوكالة الوطنية للبحث العلمي والابتكار، على مكافحة التصحر، تحسين جودة التربة، وتطوير الإنتاج الزراعي المستدام. كما تستثمر المغرب بشكل متزايد في التقنيات الحديثة لمواجهة التغيرات المناخية وشح المياه، مما يفتح آفاقًا جديدة لزراعة أكثر قدرة على التكيف.
وفي السعودية، التي بدأت مؤخرًا تسريع استراتيجياتها الوطنية نحو اقتصاد معرفي، وصلت نسبة الإنفاق على البحث العلمي إلى 0.9% من الناتج المحلي الإجمالي، أي ما يعادل حوالي 2 مليار دولار أمريكي. وقد شهد قطاع الزراعة اهتمامًا متزايدًا ضمن رؤية المملكة 2030، خاصة في تطوير تقنيات تحلية المياه لأغراض الزراعة، الإنتاج السمكي في المزارع البحرية، والدواجن المعتمدة على النظم المغلقة. وتعمل مؤسسات مثل مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية على دعم مشاريع واعدة في هذا القطاع الحيوي، رغم التحديات المناخية القاسية.
أما الإمارات العربية المتحدة، فتُعد من الدول الأكثر تقدمًا عربيًا في نسبة الإنفاق، حيث تبلغ 1.1% من الناتج المحلي الإجمالي، بميزانية تقدر بـ 1.5 مليار دولار أمريكي. وتتبنى الإمارات رؤية استباقية ترتكز على الزراعة الذكية، الزراعة المائية، واستخدام الذكاء الاصطناعي في إدارة المحاصيل والإنتاج الحيواني. ومن خلال مؤسسات مثل جامعة خليفة ومعهد مصدر، تمضي الدولة في تطوير نظم إنتاج غذائي مغلقة وفعالة، تسعى لتحقيق أمن غذائي داخلي رغم محدودية الأراضي والمياه.
وأخيرًا، في الأردن، التي تعاني من محدودية الموارد الطبيعية والمالية، تبلغ نسبة الإنفاق على البحث العلمي 0.2% فقط من الناتج المحلي الإجمالي، أي ما يقارب 200 مليون دولار أمريكي سنويًا. وعلى الرغم من هذا التمويل الضعيف، تبذل الدولة جهودًا حثيثة لتحسين الأمن الغذائي عبر مشاريع تعتمد على إدارة الموارد المائية بحكمة، وتطوير المحاصيل المقاومة للجفاف. كما تنشط بعض الجامعات ومراكز الأبحاث مثل المركز الوطني للبحث والإرشاد الزراعي في مجالات البحث المرتبط بالتربة والمناخ.
ورغم تفاوت الأرقام والمستويات بين الدول العربية، يبقى التحدي المشترك هو كيفية تحويل البحث العلمي إلى رافعة حقيقية للتنمية الزراعية المستدامة، من خلال سياسات واضحة، شراكات استراتيجية، وتمويل فعّال لا يكتفي بالشعارات بل يترجم إلى نتائج ملموسة.
ملخص ونتائج
الدول المتقدمة تخصص نسباً أعلى بكثير من الناتج المحلي الإجمالي، وتتحكم في ميزانيات ضخمة تساعد على دعم البحث في كل مجالات الزراعة والإنتاج الحيواني والسمكي. .
يتضح من خلال استقراء الفوارق الصارخة بين الدول المتقدمة وغيرها، أن البحث العلمي هناك ليس ترفاً فكرياً ولا بنداً هامشياً في الخطط الاقتصادية، بل هو حجر الزاوية في بناء قوة هذه الدول وازدهارها واستقرار أمنها الغذائي والاقتصادي. إن النسب المرتفعة التي تخصصها هذه الدول من ناتجها المحلي الإجمالي للبحث العلمي، والتي تتجاوز في بعض الحالات حاجز 3 أو حتى 4%، تشكل مؤشراً واضحاً على إيمانها الراسخ بأن العلم هو الاستثمار الأذكى والأبقى. فهذه النسب لا تترجم فقط إلى أرقام مالية ضخمة، بل إلى شبكات من المعاهد والمختبرات والباحثين والمشاريع التكنولوجية الدقيقة التي تُدار برؤية استراتيجية ووعي استباقي.
في الولايات المتحدة، ألمانيا، اليابان، وكوريا الجنوبية، لا يتم دعم البحث العلمي بوصفه نشاطاً أكاديمياً معزولاً، بل يُنظر إليه كمحرّك مركزي لتطوير الإنتاج الزراعي وتحقيق الأمن الغذائي المستدام. لقد أسهمت الميزانيات الهائلة – التي تصل إلى مئات المليارات من الدولارات سنويًا – في إحداث ثورة هادئة في كل ما يتعلق بالزراعة والإنتاج الحيواني والسمكي. نشهد اليوم في هذه الدول تحولاً تكنولوجياً جذرياً في الحقول والمزارع، وممارسات دقيقة تستند إلى الذكاء الاصطناعي، ونظم رصد وتحليل بيانات تعيد رسم مشهد الإنتاج من جذوره.
الزراعة هناك لم تعد مجرد زراعة، بل أصبحت علماً مركباً يشمل الهندسة الوراثية، والطاقة الحيوية، والزراعة الدقيقة، والزراعة المائية، والأتمتة الذكية، وتحليل البيانات الكبيرة. في هذه البيئات العلمية المتقدمة، يتم تمويل الأبحاث المتعلقة بتحسين سلالات المحاصيل والحيوانات، وتطوير مقاومة الآفات، وتحديث أنظمة الري، بل وتطبيق النماذج الحاسوبية للتنبؤ بمتغيرات الإنتاج الموسمي في ظل التغيرات المناخية.
ولأن هذه الميزانيات الضخمة لا تأتي من فراغ، فإنها مدعومة بسياسات وطنية صارمة، وتشريعات مرنة، وشراكات واسعة بين القطاعين العام والخاص. الجامعات ليست وحدها في ميدان البحث، بل تقف جنبًا إلى جنب مع الشركات العملاقة ومراكز الابتكار التكنولوجي. هذا التكامل أنتج منظومة متماسكة تحوّل الاكتشافات العلمية إلى حلول عملية، وتربط المعمل بالحقل، والبحث بالإنتاج، والفكرة بالربح.
إن الدول المتقدمة، بهذه المقاربات المتقدمة، لا تسعى فقط إلى الاكتفاء الذاتي، بل تنافس على ريادة السوق العالمية في تقنيات الغذاء، وتصدر منتجاتها وأفكارها ومعارفها إلى دول أخرى ما زالت تلهث خلف سد فجواتها الغذائية بأساليب تقليدية. الفارق الحقيقي هنا لا يصنعه فقط التمويل، بل الرؤية والجرأة والالتزام بتحويل المعرفة إلى قيمة اقتصادية ومعيشية ملموسة.
إن هذا الواقع يشكل دعوة مفتوحة لبقية العالم، وخاصة الدول النامية والعربية، كي تراجع أولوياتها، وتدرك أن السباق نحو المستقبل لا يُكسب بالخطابات والشعارات، بل بالاستثمار في العقول، وإطلاق البحث العلمي من قيوده، وتمويله لا كمجرد بند مالي، بل كخطة وطنية للبقاء والازدهار.
الدول النامية تزيد تدريجياً من الإنفاق، لكنها لا تزال تواجه تحديات كبيرة بسبب قلة التمويل والموارد. .
في الدول النامية، يلوح الأمل خافتاً وسط التحديات، إذ تحاول هذه الدول أن تخطو خطوات تدريجية نحو تعزيز البحث العلمي، مدفوعة بإدراك متزايد بأن مستقبلها التنموي لا يمكن فصله عن رصيدها المعرفي وقدرتها على توليد حلول محلية لمشكلاتها المزمنة. ومع أن هناك تحركات ملموسة لزيادة الإنفاق على البحث العلمي، إلا أن هذه الخطوات كثيراً ما تصطدم بجدار من التحديات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تعيق قدرتها على تحقيق قفزات نوعية في هذا المجال.
النسب المخصصة من الناتج المحلي الإجمالي للبحث العلمي في كثير من الدول النامية لا تزال متواضعة، وغالبًا لا تتجاوز حاجز 1%، وهو ما يعكس فجوة تمويلية عميقة تُلقي بظلالها على نوعية الأبحاث ومستوى التجهيزات والإمكانات المتوفرة للمراكز العلمية. فعلى سبيل المثال، الهند – رغم مكانتها العلمية المتقدمة نسبيًا في بعض المجالات – تخصص نحو 0.7% فقط من ناتجها المحلي للبحث العلمي، أي ما يعادل حوالي 40 مليار دولار. وهي ميزانية تبدو ضخمة عند النظر إليها رقميًا، لكنها تصبح محدودة عندما نأخذ بعين الاعتبار حجم السكان والتحديات الزراعية والتنموية التي تواجهها البلاد. ورغم ذلك، لا يمكن تجاهل الجهود الجبارة التي تبذلها الهند في تطوير محاصيل مقاومة للظروف البيئية القاسية، وتحسين أنظمة الإنتاج الحيواني، وهي خطوات تُعدّ استثنائية في ظل محدودية الموارد.
في البرازيل، التي تُعد نموذجًا آخر للدول النامية ذات التوجه الزراعي، بلغ الإنفاق على البحث العلمي حوالي 1.3% من الناتج المحلي، بما يقارب 50 مليار دولار سنويًا. وهو رقم يعكس اهتمامًا ملحوظًا بمجالات مثل الزراعة الاستوائية، وتحسين سلالات المواشي، والاستفادة من التنوع البيئي الغني للبلاد. ومع ذلك، لا تزال البلاد تعاني من التفاوت في توزيع هذا التمويل، حيث تتركز الأبحاث في مناطق محددة دون أن تمتد نتائجها إلى كافة أرجاء الدولة.
أما جنوب إفريقيا، فتُعدّ مثالًا صريحًا على التحدي الصعب الذي يواجه الدول النامية في مجال البحث العلمي الزراعي. إذ بالرغم من أنها تخصص 0.8% من ناتجها المحلي للبحث، إلا أن الميزانية الكلية للبحث العلمي لا تتعدى 10 مليارات دولار، وغالباً ما تذهب النسبة الأكبر منها إلى مجالات أخرى كالصحة والتكنولوجيا، ما يترك الزراعة في موقع هامشي نسبياً. ومع ذلك، فإن هناك جهودًا مثمرة تُبذل في أبحاث مقاومة الجفاف وتحسين إنتاج المحاصيل المحلية، خاصة في ظل التغيرات المناخية التي تضرب بقوة النظم البيئية في البلاد.
لكن التحديات التي تواجهها هذه الدول لا تقتصر على المال فقط. بل تتشابك معها قضايا أخرى مثل ضعف البنية التحتية البحثية، وهجرة العقول، وعدم الاستقرار السياسي في بعض المناطق، وضعف الربط بين الجامعات والمجتمعات الإنتاجية، وغياب السياسات الوطنية طويلة الأمد التي تدفع بعجلة البحث إلى الأمام. وغالباً ما تظل نتائج البحوث حبيسة الأدراج أو منشورة في مجلات لا تصل للمنتج الحقيقي الذي يحتاجها، بسبب غياب آليات نقل المعرفة والتطبيق.
رغم كل هذه التحديات، فإن الدول النامية تُظهر ملامح نهوض حذر. هناك وعي متزايد، وهناك تجارب بدأت تنضج، وهناك شباب علماء يحملون طموحًا لا يُستهان به رغم ندرة التمويل. والمستقبل وإن بدا معقدًا، إلا أن بوادر التغيير قائمة، ما إن وجدت إرادة سياسية داعمة، وتم إطلاق العنان للإبداع العلمي تحت مظلة استثمار مدروس وشراكات فاعلة.
الدول العربية تعاني من ضعف التمويل، مع تباين كبير بين دول مثل الإمارات والسعودية من جهة، ومصر والأردن من جهة أخرى. .
تعاني الدول العربية بشكل عام من ضعف هيكلي في تمويل البحث العلمي، وهو ضعفٌ لا يقتصر على قلة المخصصات المالية فحسب، بل يمتد ليشمل غياب الرؤية الاستراتيجية، وعدم تكامل السياسات البحثية مع خطط التنمية الشاملة، وافتقار البنية التحتية البحثية في كثير من البلدان إلى الحد الأدنى من الكفاءة المطلوبة. ورغم هذا الواقع الصعب، فإن الصورة ليست موحدة تمامًا؛ إذ يبرز تباينٌ حاد بين دول عربية استطاعت إلى حد ما أن ترصد ميزانيات معتبرة للبحث، ودول أخرى ما تزال عالقة في دوامة الموارد المحدودة والتحديات المتراكمة.
في الطرف الأول من هذا الطيف نجد الإمارات والسعودية، حيث بدأت تظهر ملامح واضحة لتحول نوعي في التعاطي مع قضية البحث العلمي، سواء من حيث نسبة الإنفاق إلى الناتج المحلي أو من حيث توجهات الاستثمار في المجالات الزراعية والإنتاج الحيواني والسمكي. فالإمارات، على سبيل المثال، تنفق ما يقارب 1.1% من ناتجها المحلي على البحث العلمي، أي ما يعادل حوالي 1.5 مليار دولار سنويًا. وهذه النسبة، وإن لم تصل بعد إلى مثيلاتها في الدول المتقدمة، إلا أنها تعكس طموحًا واضحًا نحو توظيف التكنولوجيا في مواجهة التحديات البيئية والزراعية، خاصة من خلال مشاريع الزراعة الذكية، والزراعة المائية، والاعتماد على الذكاء الاصطناعي في تحسين الإنتاجية الزراعية.
السعودية بدورها تخصص حوالي 0.9% من ناتجها المحلي الإجمالي للبحث العلمي، أي ما يقارب 2 مليار دولار، مع تركيز متصاعد على المجالات المرتبطة بالأمن الغذائي، وتطوير الإنتاج الداجني والسمكي، والابتكار في أنظمة تحلية المياه واستخدامها في الزراعة. ومن خلال مبادرات مثل “برنامج التحول الوطني” و”رؤية 2030″، يظهر جليًا أن هناك إرادة سياسية نحو تغيير هذا الواقع تدريجيًا، رغم أن الطريق لا يزال طويلاً لتأسيس منظومة بحثية مستدامة ومتكاملة.
أما على الجانب الآخر، فتقف دول مثل مصر والأردن في وضع أكثر هشاشة، حيث يظهر أثر الضعف المالي والضغط الاقتصادي بشكل واضح. فمصر، التي تُعدّ من أقدم الدول العربية في تاريخها الزراعي، لا تنفق سوى 0.3% من ناتجها المحلي على البحث العلمي، أي أقل من 1 مليار دولار سنويًا. وتكاد هذه الميزانية تكفي بالكاد لتغطية أبحاث أساسية تركز على تحسين الأصناف المحلية، ومكافحة الآفات، وتطوير وسائل ري تقليدية. وحتى هذه المشاريع تواجه الكثير من العقبات، مثل تعقيد الإجراءات الإدارية، وضعف التنسيق بين الجهات الأكاديمية والوزارات المختصة، وضعف الحوافز المقدمة للباحثين.
الأردن كذلك يواجه ظروفًا شبيهة، حيث لا يتجاوز الإنفاق على البحث العلمي 0.2% من الناتج المحلي، أي ما يقارب 200 مليون دولار فقط. ويُترجم هذا الرقم المتواضع إلى واقع باهت في مجال الأبحاث الزراعية، حيث تظل الجهود محدودة ومشتتة، وتغيب الاستثمارات في التكنولوجيا الحديثة. وعلى الرغم من وجود كوادر بشرية مؤهلة، إلا أن ندرة التمويل، وغياب الدعم المؤسسي، يحول دون ترجمة الإمكانات النظرية إلى حلول تطبيقية تخدم الأمن الغذائي في بلد يواجه تحديات مائية ومناخية حادة.
هذا التباين الصارخ بين الدول العربية ليس مجرد فرق في الأرقام، بل هو انعكاس لعمق الفجوة بين من قرر أن يسلك طريق الابتكار، ومن لا يزال يقف عند حدود الإنفاق المتواضع تحت وطأة أولويات أخرى. ولعل ما يزيد الصورة قتامة هو غياب التعاون العربي الفاعل في هذا المجال، في وقت تحتاج فيه المنطقة أكثر من أي وقت مضى إلى تكتل علمي قادر على تحويل التحديات المشتركة إلى فرص واعدة للنمو والبقاء.
تحليل أثر ميزانيات البحث العلمي على الإنتاج في قطاعات الزراعة، الإنتاج السمكي، الحيواني، والداجني مع أمثلة واقعية.
1ـ القطاع الزراعي
أثر ميزانيات البحث العلمي
في عالم يواجه تحديات غير مسبوقة من تغيّر مناخي، وتضاؤل في الموارد الطبيعية، وتزايد سكاني يفرض ضغوطاً هائلة على نظم الغذاء، يبرز القطاع الزراعي كأحد الأعمدة الحيوية التي لا يمكن تجاهلها في أي خطة تنموية جادة. ومع تصاعد هذه التحديات، لم يعد من الممكن الاعتماد على الأساليب التقليدية في الزراعة، ولا على نمط الإنتاج المعتمد على الحظ أو التجربة والخطأ. هنا تتجلى أهمية ميزانيات البحث العلمي بوصفها المحرك الأساسي لكل تقدم نوعي في هذا القطاع، فهي الوقود الذي يُشعل شرارة الابتكار، ويعيد تشكيل ملامح الزراعة من مجرد نشاط تقليدي إلى منظومة علمية متطورة قائمة على البيانات الدقيقة، والهندسة الوراثية، والتقنيات الذكية.
إن حجم الميزانية المخصصة للبحث الزراعي لا يعكس فقط مقدار ما يمكن إنفاقه على المختبرات أو المعدات، بل يُعد مؤشراً دقيقاً على مدى وعي الدولة بارتباط أمنها الغذائي، واستقرارها الاقتصادي، بصحة هذا القطاع الحيوي. فعندما تخصص الدول المتقدمة نسبًا تتجاوز 3% من ناتجها المحلي الإجمالي للبحث العلمي، يكون جزء معتبر من ذلك موجهًا لتطوير سلالات نباتية مقاومة للجفاف والآفات، ولتصميم أنظمة ري ذكية تستهلك كميات أقل من المياه وتُنتج أكثر، ولابتكار حلول حيوية تجعل الزراعة أكثر استدامة وربحًا في آنٍ واحد.
أما الدول التي تتجاهل أهمية تمويل البحث العلمي الزراعي، فإنها تحكم على مزارعيها بالبقاء في دائرة الإنتاج المتدني، والمردود غير المستقر، والتبعية للخارج في استيراد الغذاء والتكنولوجيا على السواء. وهذا لا ينعكس فقط على ضعف الإنتاجية، بل يمتد إلى تهديد مباشر للأمن الغذائي الوطني، وتآكل في السيادة الزراعية، وتراجع في فرص التنمية القروية وخلق الوظائف في الريف.
ولذلك، فإن ميزانيات البحث العلمي ليست مجرد أرقام تُدرج في تقارير الحكومات، بل هي الفارق الحاسم بين حقول تنبض بالحياة والخضرة، وأخرى تجف وتذبل في صمت. هي ما يفصل بين دول تُطوّع التكنولوجيا لخدمة المزارع، وأخرى تستمر في اجترار الأزمات وانتظار المطر. وفي هذه المعركة الصامتة بين التقدم والركود، لا يمكن أن تكون الزراعة خارج معادلة البحث، ولا يمكن للبحث أن يثمر بدون تمويل واهتمام واستراتيجية طويلة النفس.
في الدول المتقدمة، أصبح البحث العلمي العمود الفقري لنهضة الزراعة وتحوّلها من قطاع تقليدي هش إلى منظومة ذكية متكاملة، تتغذى على المعرفة الدقيقة وتستند إلى أحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا الحيوية والهندسة الزراعية. هذا الاستثمار العالي في البحث لم يكن ترفاً أكاديمياً أو مجرد استعراض لرفاهية علمية، بل هو خيار استراتيجي فرضته الحاجة إلى تأمين الغذاء بكفاءة عالية في ظل ظروف بيئية متغيرة وتحديات مناخية متزايدة. فحين أدركت هذه الدول أن مستقبل الأمن الغذائي مرهون بالعلم، فتحت خزائنها بسخاء، ووجهت المليارات نحو المختبرات الزراعية، ومعاهد البحوث، ومراكز تطوير التقنيات الزراعية.
نتيجة هذا التوجه، شهد العالم ولادة أصناف جديدة من المحاصيل لم تكن ممكنة لولا هذا التقدم العلمي، محاصيل مقاومة للأمراض التي كانت فيما مضى تقضي على مواسم كاملة، ومحاصيل تتحمل الجفاف وتزدهر في ظروف مناخية قاسية لم تكن صالحة للزراعة في السابق. لم يعد المزارع ينتظر الأمطار أو يخشى من تفشي الآفات، بل بات يزرع وهو مسلح بمعرفة مسبقة دقيقة حول سلوك النبات، وتركيبة التربة، ونمط الطقس المتوقع، بفضل أدوات الزراعة الدقيقة التي تقدم له بيانات آنية تساعده على اتخاذ قرارات ذكية في كل خطوة.
تحسين تقنيات الري كان من أبرز الإنجازات، حيث تحوّلت أنظمة الري من الهدر العشوائي إلى تقنيات متقدمة مثل الري بالتنقيط والمراقبة الحسية التي تُدار عبر الأقمار الصناعية وأجهزة استشعار ميدانية. هذا التحول لم يرفع فقط إنتاجية الهكتار بشكل ملحوظ، بل ساهم في تقليص كميات المياه المستخدمة، وهو ما يعتبر ثورة حقيقية في إدارة الموارد الطبيعية.
ومن خلال هذا التقدم، باتت الدول المتقدمة تُنتج أكثر باستخدام موارد أقل، وتحمي بيئتها دون التضحية بالعائد الاقتصادي. وهذا هو المعنى الحقيقي للاستدامة، التي لم تأتِ من شعارات فارغة، بل من استثمار طويل الأمد في البحث العلمي، وهو الاستثمار الذي يُؤتي ثماره اليوم على شكل اكتفاء غذائي، وجودة عالية، ومكانة عالمية في سوق الزراعة والتصدير.
أما في الدول النامية والعربية، فإن الصورة تبدو مغايرة ومثقلة بالتحديات، حيث يقف البحث العلمي على هامش الاهتمام الوطني، وتُترك المختبرات الزراعية تعاني من شُحّ التمويل وندرة الموارد، وكأنها تُكافح في عزلة ضدّ طوفان من التحديات المناخية والاقتصادية. في هذه البلدان، لا تزال الزراعة تمضي في دربها القديم، متكئة على الأساليب التقليدية المتوارثة جيلاً بعد جيل، من دون أن تمتد إليها يد العلم بقوة كافية لتُحدث التحول المنشود. فبينما تسير الدول المتقدمة بخطى سريعة نحو الزراعة الذكية، تبقى نظيراتها النامية والعربية تسير بخطى متثاقلة، مقيدة بواقع لا يمنح البحث العلمي إلا الفتات.
ضعف تمويل البحث في هذه الدول لا يعني فقط غياب المختبرات المتقدمة أو نقص الأجهزة، بل يمتد أثره العميق إلى جوهر الإنتاج الزراعي نفسه. فلا توجد برامج قوية لتطوير أصناف محلية مقاومة للآفات أو قادرة على الصمود في وجه الجفاف ودرجات الحرارة المتطرفة. فالمزارع، الذي يُعدّ في الخط الأول من معركة الغذاء، لا يجد بين يديه سوى بذور قديمة وأساليب ري بدائية، في مواجهة مناخ بات أكثر تقلباً وعنفاً. وفي غياب البحوث التطبيقية والتجارب الحقلية، تصبح التوصيات الزراعية غير ملائمة، وتعجز عن تقديم الحلول الملائمة للسياقات البيئية الفريدة لكل دولة.
هذا القصور البحثي لا يهدد فقط قدرة هذه الدول على تحقيق الأمن الغذائي، بل يجعلها رهينة للتقلبات العالمية، ومرتبطة بشكل خطير بالاستيراد من الخارج، حتى في المنتجات التي كان يمكن إنتاجها محلياً لو توفر الحد الأدنى من الدعم العلمي. وتُفاقم هذه التبعية من العجز في الميزان التجاري وتُضعف من قدرة المزارع المحلي على المنافسة في السوق.
الأدهى من ذلك، أن التغيرات المناخية المتسارعة لا تنتظر الدول التي تتلكأ في دعم بحوثها، بل تضرب بقسوة، جالبة معها مواسم جفاف أطول، وأمطاراً غير منتظمة، وانتشاراً واسعاً للآفات الجديدة. وهنا، يظهر بشكل صارخ غياب الدراسات العلمية القادرة على التنبؤ والتخطيط وتقديم البدائل. وهكذا، يُحرم القطاع الزراعي من عنصره الأهم: المعلومة الدقيقة والمعالجة العلمية.
إن ضعف الاستثمار في البحث العلمي في القطاع الزراعي بالدول النامية والعربية لم يعد مجرد تقصير مالي، بل أصبح أزمة تنموية تهدد قدرة هذه الدول على تأمين غذائها، وتحقيق الاستقرار الاقتصادي، وحماية بيئتها. فالعلم اليوم ليس رفاهية، بل ضرورة وجودية لا يمكن تجاهلها.
أمثلة واقعية
الولايات المتحدة: برامج البحث الزراعي في وزارة الزراعة أدت إلى تطوير أصناف الذرة والقمح المقاومة للجفاف والآفات، ما ساهم في زيادة الإنتاج الزراعي بنسبة تتجاوز 20% خلال العقد الأخير. .
في الولايات المتحدة الأمريكية، التي تعتبر من أكبر القوى الزراعية في العالم، لم يكن الاستثمار في البحث العلمي مجرد خيار بل استراتيجية وطنية محكمة، ترتكز على فهم عميق لأهمية الزراعة كركيزة أساسية للاقتصاد والأمن الغذائي. وزارة الزراعة الأمريكية، من خلال برامجها البحثية المتقدمة، أطلقت مشاريع طموحة لتحسين أصناف الذرة والقمح التي تُزرع في آلاف الهكتارات عبر الولايات المختلفة، مستهدفة تحديات الجفاف والآفات التي لطالما شكلت تهديداً مستمراً للمزارعين.
هذه البرامج لم تكن مجرد تجارب مخبرية بعيدة عن الواقع، بل كانت نتاج تعاون وثيق بين الباحثين والمزارعين، حيث جرى تطبيق أحدث التقنيات في الهندسة الوراثية والتعديل الجيني، إلى جانب استخدام تقنيات الزراعة الدقيقة التي تعتمد على البيانات الحية لمراقبة الظروف المناخية والتربة، ما مكن من إنتاج بذور متطورة تتحمل الجفاف وتقاوم أنواعاً متعددة من الآفات الزراعية. فهذه الأصناف الجديدة، التي ولدت من رحم العلم والابتكار، لم تزد فقط من كفاءة الإنتاج، بل حولت الأراضي الزراعية إلى مناجم إنتاج خصبة حتى في أصعب الظروف البيئية.
وعندما ننظر إلى النتائج على الأرض، نجد أن الإنتاج الزراعي للذرة والقمح في الولايات المتحدة شهد قفزة نوعية، حيث تجاوزت نسبة الزيادة في المحاصيل 20% خلال العقد الأخير فقط، وهو رقم يعكس مدى نجاح هذه الاستراتيجيات العلمية والتقنية. لم يعد المزارع الأمريكي مضطراً للقلق من نكبات الجفاف أو هجمات الحشرات، لأن لديه أسلحة قوية مدعومة بأبحاث معمقة توفر له أصنافاً متطورة وأساليب زراعية ذكية تزيد من فرص النجاح وتقلل من المخاطر.
هذا النجاح الذي حققته الولايات المتحدة لم يكن صدفة، بل كان نتيجة تخطيط طويل المدى واستثمار مستدام في البحث والتطوير، ما جعل القطاع الزراعي أكثر مرونة واستدامة، ومكنها من الحفاظ على مكانتها كأحد أكبر مصدري الغذاء في العالم. وبينما تتغير الظروف المناخية وتزداد التحديات، يظل البحث العلمي هو الدرع الواقي الذي يحمي المحاصيل ويؤمن مستقبل الغذاء للأجيال القادمة.
مصر: على الرغم من وجود مراكز بحوث، إلا أن تمويلها الضعيف وعدم نقل التكنولوجيا أدى إلى إنتاجية أقل مقارنة بالدول المتقدمة، ويظهر ذلك في اعتماد جزء كبير من المزارعين على البذور التقليدية. .
في مصر، بلد الحضارة العريقة والتاريخ الزراعي العميق، تظل الزراعة أحد أهم الأعمدة التي يقوم عليها الاقتصاد والمجتمع، لكن الواقع الحالي يعكس حالة من التحدي المستمر الذي يصعب تجاوزه بسهولة. على الرغم من وجود عدد لا يستهان به من مراكز البحوث الزراعية التي تنتشر في مختلف المحافظات، والتي يضم بعضها باحثين متميزين يسعون بكل جهد لتطوير القطاع، إلا أن الواقع المؤلم يكمن في ضعف التمويل المخصص لهذه المراكز، الأمر الذي يقيد نشاطها ويحد من قدرتها على الابتكار والتميز.
إن قلة الموارد المالية تجعل من الصعب تنفيذ المشاريع البحثية التي تتطلب معدات حديثة وتجارب موسعة، فضلاً عن تأخر تحديث البنية التحتية البحثية التي تعتبر من أسس أي تطور علمي حقيقي. يتبع ذلك ضعف في عمليات نقل التكنولوجيا من مراكز البحث إلى المزارعين الذين هم الفاعلون الحقيقيون على الأرض. فالمعرفة العلمية والتقنيات المتطورة تبقى حبيسة المختبرات وأوراق الدراسات، بينما المزارعون يتعاملون يومياً مع تحديات متزايدة كالأمراض الزراعية، نقص المياه، وتقلبات الطقس، دون أن تصل إليهم أدوات فعالة للتعامل معها.
هذا الانفصال بين البحث العلمي والتطبيق العملي يترجم بوضوح في الإنتاجية الزراعية التي تعاني من بطء في النمو مقارنة بدول متقدمة كثيرة. فمن بين ملايين الفلاحين، لا يزال جزء كبير منهم يعتمد على البذور التقليدية التي كانت تستخدم منذ عقود، والتي تفتقر إلى المقاومة الكافية للأمراض والجفاف. هذه البذور القديمة، رغم بساطتها، تصبح عبئاً ثقيلاً على الإنتاج الزراعي، فهي لا تستطيع المنافسة في بيئة تتغير فيها الظروف المناخية بسرعة، ولا تسمح بتحقيق أفضل إنتاجية ممكنة من الأرض.
نتيجة لذلك، يظل إنتاج المحاصيل في مصر محدوداً ومهدداً بالمخاطر التي كان يمكن للبحث العلمي أن يخففها أو يحول دون وقوعها. هذا الأمر لا يضر فقط بالقطاع الزراعي، بل يمتد تأثيره ليشمل الأمن الغذائي ومستوى المعيشة للفلاحين والمجتمع ككل. ولعل الحاجة اليوم ماسة إلى إعادة النظر في سياسات التمويل والدعم البحثي، لخلق جسر تواصل فعال بين العلم والتطبيق، يتيح للمزارع المصري أن يستفيد من كل ما توصل إليه العلم الحديث، فتتحول الأرض من مجرد حقل تقليدي إلى مصنع إنتاجي متطور قادر على منافسة الأسواق المحلية والعالمية، ويعيد لمصر مكانتها الزراعية التي تستحقها في خريطة العالم.
2ـ الإنتاج السمكي
أثر ميزانيات البحث العلمي
في عالم اليوم الذي يتغير بسرعة ويزداد فيه الطلب على مصادر الغذاء المتنوعة، يبرز الإنتاج السمكي كأحد الركائز الحيوية التي لا غنى عنها في تحقيق الأمن الغذائي العالمي. تتجلى أهمية البحث العلمي هنا بصورة جلية، إذ لا يقتصر دوره على زيادة كميات الإنتاج فحسب، بل يمتد إلى تحسين جودة الأسماك وتقليل الخسائر الناجمة عن الأمراض والمخاطر البيئية التي تهدد هذا القطاع الحيوي. في الدول التي تخصص ميزانيات ضخمة للبحث العلمي، نجد أن هذا الاستثمار يتحول إلى قاطرة قوية تقود التطور المستدام في مجال تربية الأسماك، من خلال ابتكار تقنيات حديثة وأسلوب إدارة ذكي يضمن الإنتاج المثمر والمستقر.
إن تخصيص الأموال للبحوث يفتح أبواباً واسعة لفهم أعمق للبيئات المائية، ويتيح دراسة الأنواع السمكية المناسبة للظروف المناخية المختلفة، فضلاً عن تطوير نظم تربية متقدمة تحاكي الطبيعة ولكن بشكل أكثر كفاءة وتحكمًا. هذه الأبحاث لا تقتصر فقط على الجانب التقني، بل تشمل أيضاً دراسة الأمراض المعدية التي يمكن أن تدمر مزارع الأسماك، مما يسمح بابتكار لقاحات وعلاجات فعالة تقلل من الخسائر الاقتصادية وتضمن صحة الأسماك وجودتها.
على النقيض، في البلدان التي تعاني من نقص في التمويل، يبقى القطاع السمكي عالقاً في دوامة التحديات، حيث تظل الأساليب التقليدية المرهقة، والافتقار إلى المعرفة العلمية الحديثة، عائقاً أمام تحسين الإنتاجية. هنا، يتحول البحث العلمي من كونه خياراً استراتيجياً إلى ضرورة ملحة تفرضها متطلبات السوق المتزايدة واحتياجات المجتمعات المتعطشة للمصادر الغذائية المتجددة.
إن الاستثمار في ميزانيات البحث العلمي المتعلقة بالإنتاج السمكي ليس مجرد إنفاق مالي، بل هو سعي جاد لبناء مستقبل أكثر استدامة، حيث تتكامل المعرفة والابتكار لتحويل التحديات إلى فرص، وضمان وجود غذاء صحي وآمن لجميع الناس. هذا التوجه يجعل من البحث العلمي شريان الحياة الذي يغذي قطاع الأسماك، ويعزز قدرته على التكيف مع المتغيرات البيئية والمناخية، وبالتالي يحقق قفزات نوعية في الإنتاجية والجودة معاً، مما ينعكس إيجابياً على الاقتصاد القومي ورفاهية المجتمع ككل.
تمويل البحث العلمي يسمح بتطوير تقنيات التربية المستدامة، مكافحة الأمراض السمكية، وتحسين نظم التغذية مما يزيد من الإنتاجية ويخفض التكاليف. .
حين يُمنح البحث العلمي التمويل الكافي، تشرق آفاق واسعة أمام قطاع الإنتاج السمكي، فتبدأ رحلة التحول من الأساليب التقليدية إلى منظومات تربية متقدمة تعتمد على العلم والتكنولوجيا. هذا التمويل ليس مجرد أرقام تُنفق، بل هو وقود حيوي يُشعل فتيل الابتكار في تقنيات التربية المستدامة، التي تعني توفير بيئة صحية للأسماك مع المحافظة على الموارد الطبيعية دون استنزافها، فتجد الأحواض والمزارع السمكية تتحول إلى أنظمة ذكية تدير المياه وجودتها بدقة متناهية، مما يضمن استدامة الإنتاج على المدى الطويل.
ومن بين أكبر التحديات التي تواجه الإنتاج السمكي هي الأمراض التي تنتشر بسرعة بين الأسماك، فتخسر المزارع كميات ضخمة، وتأثر الإنتاج سلباً على الاقتصاد القومي. هنا يأتي دور البحث العلمي الممول بشكل جيد، حيث يُمكن للعلماء تطوير حلول مبتكرة لمكافحة هذه الأمراض، ابتداءً من تشخيص دقيق يسبق تفشي المرض، وصولاً إلى تطوير لقاحات وعلاجات بيولوجية تقلل الحاجة إلى المواد الكيميائية الضارة. هذه الخطوات تحمي الثروة السمكية وتخفض الخسائر، مما يعزز من ثقة المستثمرين والمزارعين في استدامة القطاع.
ولأن التغذية هي حجر الزاوية في صحة الأسماك وجودة الإنتاج، يصبح التمويل العلمي وسيلة لتطوير نظم تغذية محسنة تعتمد على مكونات طبيعية ومتوازنة تحقق أعلى معدلات نمو بأقل تكلفة ممكنة. يتجه البحث إلى تصميم أعلاف ذكية تلبي احتياجات الأسماك بدقة، مع تقليل الفاقد من الموارد وتقليل التلوث البيئي الناتج عن بقايا الأعلاف.
كل هذا يصنع فارقاً كبيراً في الإنتاجية، حيث يتحول قطاع الإنتاج السمكي من مجهود بسيط إلى صناعة قائمة على المعرفة والابتكار، تزيد من كمية وجودة المنتج، وتخفض من تكاليف الإنتاج، مما يجعل السمك أكثر توفرًا بأسعار مناسبة للمستهلك، ويعزز من قدرة الدول على المنافسة في الأسواق العالمية. بهذا، يصبح التمويل ليس مجرد دعم، بل استثماراً رائداً في مستقبل غذائي مستدام يضمن لكل الأجيال القادمة رفاهية وصحة أفضل.
في الدول التي تعاني من نقص التمويل، يظل الإنتاج السمكي محدوداً ويواجه تحديات من حيث الأمراض والتلوث وعدم الاستدامة. .
في تلك الدول التي تعاني من شح التمويل المخصص للبحث العلمي في مجال الإنتاج السمكي، تتكشف أمامنا صورة معقدة تتداخل فيها التحديات وتتشابك معها العقبات التي تقف حائلاً دون تطور هذا القطاع الحيوي. يظل الإنتاج السمكي فيها على مستوى محدود، غير قادر على الانطلاق نحو آفاق أرحب، إذ تفتقر المزارع إلى الدعم التقني والعلمي الذي يمكن أن يحولها إلى مراكز إنتاجية عالية الكفاءة. فبدلاً من أن تكون أنظمة التربية الحديثة، التي تعتمد على الأساليب العلمية الدقيقة، متوفرة ومتطورة، تستمر تلك الدول في الاعتماد على الطرق التقليدية التي تفتقد للفاعلية، وتزيد من تعرض الإنتاج للخسائر.
الأمراض السمكية، التي يمكن مواجهتها والحد من انتشارها بفضل أبحاث متقدمة ولقاحات متطورة، تتحول إلى كابوس مستمر يفتك بالمزارع السمكية، ويقضي على أعداد كبيرة من الأسماك، مما يسبب خسائر اقتصادية جسيمة ويهدد الأمن الغذائي. في غياب التمويل الكافي، تصبح هذه الأمراض خارج نطاق السيطرة، ويتكبد المنتجون خسائر متكررة، بينما تتكاثر هذه المشاكل بشكل مضطرد مع مرور الوقت.
ولا يقتصر الأمر على الأمراض فقط، بل يمتد ليشمل مشكلة التلوث البيئي التي تزداد تفاقماً في ظل ضعف الرقابة وضعف اعتماد التقنيات الحديثة لإدارة المياه والتخلص من الفضلات بشكل علمي. يؤدي هذا التلوث إلى تدهور جودة المياه في المزارع والأحواض السمكية، مما يؤثر سلباً على صحة الأسماك ويقلل من معدلات نموها وإنتاجيتها، كما يضعف من قدرة النظام البيئي على التوازن، ويهدد التنوع الحيوي.
كل هذه المشكلات مجتمعة تشكل عقبة ضخمة أمام تحقيق الاستدامة في قطاع الإنتاج السمكي، فالاستدامة التي تعني المحافظة على الموارد الطبيعية وتوفير إنتاج مستمر ومتزايد على مدار السنين تصبح حلماً بعيد المنال. ينعكس هذا الواقع بشكل مباشر على القدرة التنافسية لتلك الدول في الأسواق العالمية، حيث تفقد فرص التصدير والنمو بسبب ضعف جودة وكميات الإنتاج، مما يعمق الفجوة الاقتصادية ويزيد من اعتمادها على الواردات.
في النهاية، يظل نقص التمويل حجر العثرة الأكبر، الذي يحول دون انطلاق الإنتاج السمكي في هذه الدول نحو المستقبل الواعد، ويبقيها حبيسة معاناة مستمرة بين تحديات المرض والتلوث وقلة الاستدامة، مع ما يعنيه ذلك من تأثيرات سلبية على الأمن الغذائي والاقتصادي والاجتماعي.
أمثلة واقعية
اليابان: استثمرت في تطوير تقنيات تربية الأسماك في الأحواض المغلقة (RAS) وأنظمة مراقبة بيئية دقيقة، ما جعلها من أكبر منتجي الأسماك المستدامة في العالم. .
في اليابان، حيث تلتقي التقنية العالية مع الرؤية المستقبلية العميقة، شهد قطاع الإنتاج السمكي قفزات نوعية غير مسبوقة بفضل الاستثمار الضخم والممنهج في البحث العلمي المتقدم. لم يكن هذا التطور وليد صدفة، بل هو ثمرة استراتيجية متكاملة وجهود علمية وفنية جادت لتطوير تقنيات تربية الأسماك في بيئات محكمة السيطرة، عرفت باسم الأحواض المغلقة أو نظم إعادة تدوير المياه (RAS).
هذه التكنولوجيا الرائدة أتاحت لليابان التحكم الكامل في ظروف التربية البيئية، حيث يمكن ضبط درجات الحرارة، مستوى الأكسجين، جودة المياه، وتركيزات الغذاء بشكل دقيق للغاية. بفضل هذه الرقابة الحثيثة، تم تقليل الاعتماد على المياه الطبيعية المفتوحة التي قد تكون عرضة للتلوث والتقلبات المناخية، ما جعل الإنتاج أكثر استقرارًا واستدامة.
أصبحت اليابان بذلك من أكبر منتجي الأسماك المستدامة في العالم، إذ لم تكتفِ بتحقيق أرقام إنتاجية مرتفعة فحسب، بل حرصت على تحقيق توازن بيئي يحمي الموارد البحرية ويقلل من الضغط على مصايد الأسماك الطبيعية. هذا النجاح المبهر ما كان ليتحقق لولا استثمارها في البحث العلمي الذي مهد الطريق لاكتشافات وتقنيات مبتكرة، مثل أنظمة المراقبة البيئية الذكية التي تستخدم الحساسات والبرمجيات لتحليل البيانات لحظة بلحظة، مما يسمح باتخاذ قرارات فورية وصائبة للحفاظ على صحة الأسماك وجودة الإنتاج.
تلك التقنيات لم تسهم فقط في رفع الكفاءة الإنتاجية وخفض التكاليف، بل ساهمت أيضًا في الحد من انتشار الأمراض السمكية التي يمكن أن تدمر محاصيل كاملة، كما وفرت طريقة آمنة وصديقة للبيئة لتربية الأسماك في ظل تحديات تغير المناخ وتدهور البيئة البحرية. تجربة اليابان تعد نموذجًا يُحتذى به لكل الدول التي تسعى إلى تحقيق إنتاج سمكي مستدام ومتطور، يظهر فيها البحث العلمي كقوة دافعة وحقيقية للتغيير والتحول، حيث تتحول الأفكار إلى حلول عملية ترتقي بقطاع الإنتاج السمكي إلى مستويات لم تكن في الحسبان.
السعودية: مع زيادة التمويل مؤخراً، بدأت مشاريع تربية الأسماك في المياه المالحة وتحلية المياه، مما ساعد على زيادة الإنتاج المحلي بنسبة 15% في السنوات الأخيرة. .
في قلب الصحراء، حيث المياه العذبة تشكل تحدياً حقيقياً، خطت المملكة العربية السعودية خطوات واثقة نحو تحقيق أمنها الغذائي عبر تعزيز قطاع الإنتاج السمكي، مستفيدة من زيادة ملحوظة في تمويل البحث العلمي المخصص لهذا المجال الحيوي. لم يكن الأمر مجرد استثمار مالي عابر، بل كان بمثابة نقلة نوعية أطلقت مشاريع مبتكرة وجريئة لتربية الأسماك في المياه المالحة، إلى جانب تقنيات تحلية المياه المتقدمة التي أصبحت تشكل عمودًا فقريًا لاستدامة هذا القطاع.
لقد تحولت بحوث تربية الأسماك في المياه المالحة إلى منطلق رئيسي لزيادة الإنتاج، حيث وفرت هذه المشاريع بيئة مناسبة يمكن من خلالها الاستفادة القصوى من المساحات البحرية الشاسعة التي تطل عليها المملكة، مستغلة تقنيات متطورة تحاكي الظروف الطبيعية للأسماك، وتضمن نموها وتكاثرها بشكل صحي ومستدام. هذا التوجه الذكي أتاح للمملكة تجاوز الكثير من القيود البيئية والجغرافية التي كانت تقف عائقاً أمام تحقيق إنتاجية عالية في الماضي.
أما تحلية المياه، فكانت المفتاح السحري الذي مهد الطريق أمام توسيع رقعة مشاريع الاستزراع السمكي، إذ مكنت هذه التكنولوجيا الحديثة من توفير كميات كافية من المياه النقية التي تعتبر أساساً لا غنى عنه لنمو الأسماك في بيئات خاضعة للرقابة، مما حسن جودة الإنتاج ورفع كفاءته. بدخول هذه التقنيات الجديدة على خط الإنتاج، شهد القطاع قفزة نوعية في كميات الأسماك المنتجة محلياً، ارتفعت بنسبة تقارب 15% خلال السنوات الأخيرة، ما عزز من قدرات السوق المحلية وقلل الاعتماد على الواردات.
هذا النجاح المتدرج لم يكن ليتحقق دون دعم مستمر للبحث والتطوير، حيث تم تمويل العديد من الدراسات الميدانية والمخبرية التي ركزت على اختيار الأنواع السمكية الأنسب للتربية في الظروف الصحراوية، إلى جانب تطوير نظم غذائية محسنة وأنظمة مراقبة صحية متقدمة تقلل من المخاطر المرضية، مما عزز من استدامة الإنتاج وجودته. السعودية اليوم تقدم نموذجاً حديثاً للنهضة السمكية، تجسدت فيه رؤية متكاملة تدمج بين التمويل الموجه، البحث العلمي، والتقنيات الحديثة، لتصنع قصة نجاح حقيقية في قطاع كان يعتبر سابقاً من القطاعات الأقل استغلالاً في المنطقة.
3ـ الإنتاج الحيواني
أثر ميزانيات البحث العلمي يُعدّ الإنتاج الحيواني أحد الأعمدة الأساسية في بناء منظومة الأمن الغذائي لأي دولة، لما يوفره من لحوم وألبان وبيض ومشتقات متعددة تدخل في غذاء الإنسان اليومي، فضلاً عن مشتقاته الصناعية والطبية والزراعية. ومن هنا، فإنّ دعم هذا القطاع الحيوي لا يقتصر فقط على توفير الأعلاف والمراعي واللقاحات، بل يتعداه إلى تمكين البحث العلمي ليصبح المحرك الرئيس الذي يقود قاطرة التطوير فيه، ويرتقي بممارساته من الأساليب التقليدية إلى النظم الذكية والحديثة. وهنا يتجلى بوضوح أثر ميزانيات البحث العلمي، فهي البوصلة التي تحدد مسار التقدم، والجسر الذي يربط بين المعرفة النظرية والابتكار العملي، لتحويل تحديات الواقع إلى فرص إنتاجية واعدة.
حين تتدفق الموارد على مراكز الأبحاث البيطرية والمختبرات المتخصصة في الوراثة والتغذية الحيوانية، تبدأ العجلة في الدوران بوتيرة مختلفة. تتحول البيانات إلى قرارات، والملاحظات الحقلية إلى نماذج علمية قابلة للتطبيق. عندها يصبح بالإمكان تطوير سلالات جديدة من الأبقار والأغنام والدواجن ذات إنتاجية عالية، تقاوم الأمراض، وتتأقلم مع ظروف المناخ القاسية أو شح الموارد. ومن خلال هذا التمويل، تنشأ تقنيات التربية الانتقائية، والتحسين الوراثي، والتلقيح الاصطناعي، وتغذية الحيوان المتوازنة، وكلها أدوات غيرت ملامح القطاع الحيواني في الدول التي آمنت بأن البحث العلمي ليس ترفاً، بل ضرورة استراتيجية.
إنّ ميزانيات البحث العلمي تمثل الوقود الذي يغذي محركات الابتكار في هذا القطاع، إذ تُخصّص لدراسة تأثير العوامل البيئية على صحة الحيوان، وتحليل مكونات الأعلاف الأمثل، وتصميم نظم رعاية ذكية قائمة على الذكاء الاصطناعي وأجهزة الاستشعار الحيوية. كل هذا من أجل هدف واحد: إنتاج حيواني أكثر كفاءة وأعلى جودة وأقل تكلفة. ومن دون هذا الدعم المالي والعلمي، تبقى المزارع أسيرة للاجتهادات الفردية والخبرات المحدودة، تدور في فلك التكرار دون أن تلامس آفاق التغيير الحقيقي.
هكذا، تتضح العلاقة العميقة بين ميزانيات البحث العلمي وتطور الإنتاج الحيواني، علاقة تتجاوز الأرقام والموازنات، لتلامس حياة المربين والمستهلكين على حد سواء. هي علاقة بناء وتحديث، تفتح أمام المزارع باب المعرفة، وأمام الدولة بوابة الاكتفاء، وأمام الأجيال القادمة وعداً بغذاء آمن، غني، ومستدام.
البحث العلمي في الدول المتقدمة ساعد على تحسين السلالات من خلال الهندسة الوراثية، تطوير برامج التغذية الصحية، وتحسين الوقاية من الأمراض. .
في الدول المتقدمة، لم يكن التطور السريع في قطاع الإنتاج الحيواني وليد الصدفة أو ثمرة الجهد العشوائي، بل كان نتيجة مباشرة لسياسات علمية دقيقة واستثمارات ضخمة في مجال البحث العلمي، فتحت الأبواب أمام آفاق لم يكن بالإمكان تصورها قبل عقود قليلة. في قلب هذا التحول، وقفت الهندسة الوراثية كأحد أهم الإنجازات التي قلبت موازين الأداء الحيواني، إذ لم تعد السلالات تتشكل وفق الانتخاب الطبيعي فقط أو التهجين التقليدي، بل بات العلماء يمتلكون مفاتيح الجينات نفسها، يُعدّلونها بدقة عالية، فيعززون صفات معينة مثل النمو السريع، القدرة على إنتاج الألبان بكميات أكبر، أو مقاومة الأمراض المزمنة التي كانت تنهك القطعان في السابق.
لم تكتف الدول المتقدمة بتحسين البنية الوراثية للحيوانات، بل فتحت ملف التغذية الحيوانية على مصراعيه، وتحوّل الأمر من مجرد توفير الأعلاف إلى علم قائم بذاته يُدرس ويُطوّر داخل المعامل والمراكز المتخصصة. صُممت برامج تغذية دقيقة، تستند إلى التحليل الكيميائي للمواد العلفية، وتُضبط بمقادير محددة بحسب المرحلة العمرية للحيوان، ونوع إنتاجه، وظروف البيئة المحيطة. هذه البرامج لا تهدف فقط إلى زيادة الإنتاج، بل إلى تحسين جودة اللحوم والألبان وتقليل الفاقد من المغذيات، مما يجعل العملية أكثر كفاءة واستدامة.
أما على مستوى الوقاية، فقد شهدت الدول المتقدمة ثورة في أساليب الرعاية البيطرية والتصدي للأمراض. لم تعد المسألة تتعلق فقط بتوفير اللقاحات الدورية أو التدخل عند ظهور الأعراض، بل أصبحت الوقاية عملية استباقية تُدار عبر نظم مراقبة صحية متكاملة تستخدم الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات لرصد السلوك الحيواني والتغيرات الطفيفة في النشاط أو الشهية. يتم التعرف على العلامات المبكرة للمرض قبل تفشيه، مما يتيح عزلاً سريعاً وعلاجاً فعالاً بأقل كلفة وأقصر وقت.
وهكذا، عندما تلتقي موارد مالية سخية بعقول باحثة مبدعة، وتُمنح هذه العقول مساحة للتجريب والتطوير داخل بيئات داعمة، فإن النتائج تكون أكثر من مجرد أرقام في الإنتاج، بل قفزات نوعية تؤسس لمستقبل زراعي وغذائي متكامل، تكون فيه الحيوانات أكثر صحة، والإنتاج أكثر وفرة، والموارد مستثمرة بأقصى درجات الكفاءة. هذا هو الفرق الجوهري الذي تصنعه ميزانيات البحث العلمي حين تُوجّه بحكمة إلى حيث تصنع الفرق الحقيقي.
في الدول النامية والعربية، ضعف الدعم البحثي يؤدي إلى استخدام تقنيات قديمة، وزيادة خسائر الأمراض، وانخفاض الإنتاجية. .
في الدول النامية والعربية، يطفو على السطح واقع مؤلم يُثقل كاهل قطاع الإنتاج الحيواني، حيث تتجلى تداعيات ضعف التمويل البحثي بشكل واضح في كل حلقة من حلقات سلسلة الإنتاج. فبينما يخطو العالم المتقدم خطوات واسعة نحو استغلال الثورة البيولوجية والرقمية لخدمة الثروة الحيوانية، لا تزال غالبية المزارع والمربيّن في هذه الدول أسرى تقنيات تقليدية بات الزمن يتجاوزها كل يوم، ولا يزال إنتاجهم يعتمد على ما توفره الطبيعة لا على ما تصنعه العلوم الحديثة.
غياب الأبحاث التطبيقية وعدم تفعيل نتائج البحوث الموجودة — إن وُجدت — أدى إلى تراكم فجوة معرفية ومهنية خطيرة. فالسلالات الحيوانية تُربى غالباً دون أي تحسين وراثي يُذكر، ولا تؤخذ خصائصها الإنتاجية أو مقاومتها للأمراض بعين الاعتبار، مما يجعلها أكثر عرضة للانهيار في مواجهة تقلبات الطقس، وسوء التغذية، وتفشي الأمراض. وفي غياب برامج واضحة للتحسين الوراثي، تصبح محاولات زيادة الإنتاج مجرد اجتهادات فردية لا تستند إلى قاعدة علمية متينة.
أما من ناحية الوقاية، فإن المشهد أكثر تعقيداً، فالأمراض الحيوانية تنتشر في كثير من الأحيان دون رقابة، وتُسجَّل خسائر فادحة كل عام بسبب أوبئة كان بالإمكان احتواؤها أو تجنبها، لو توفرت نظم للرصد المبكر أو حملات تلقيح منظمة ومدعومة. حتى عند وجود محاولات للعلاج، فإن ضعف المختبرات البيطرية ونقص الكوادر المؤهلة وغياب قاعدة بيانات صحية متكاملة، كلها عوامل تُعقد من أي استجابة فعّالة.
التغذية كذلك تُعدّ من أكبر التحديات، حيث يتم غالباً استخدام الأعلاف الرخيصة أو غير المتوازنة غذائياً، ما يؤدي إلى تدنٍ واضح في معدلات التحويل الغذائي وضعف المناعة لدى الحيوانات، وهو ما يفتح الباب أمام مضاعفات صحية ومخاطر إنتاجية متزايدة. وفي ظل غياب البحث العلمي الذي يُرشد إلى أفضل الممارسات العلفية ويقترح بدائل محلية منخفضة التكلفة وعالية القيمة، تبقى الحلول المتاحة محدودة ومهتزة.
الأخطر من كل ذلك أن غياب البحث العلمي لا يؤثر فقط على الحاضر، بل يهدد المستقبل. فالدول التي لا تستثمر في معرفة جديدة ولا تطور تقنيات إنتاجها، تصبح مع الوقت رهينة للاستيراد، وتفقد قدرتها على تأمين غذائها الحيواني محلياً، الأمر الذي يُضعف سيادتها الغذائية ويُعرضها لتقلبات الأسواق العالمية. لهذا فإن غياب الدعم البحثي في قطاع حيوي كالإنتاج الحيواني لا يعني فقط فوات فرصة للنمو، بل يعني الوقوف ساكناً في عالم يتغير بسرعة، بل وربما التراجع أمام رياح التقدم التي لا تنتظر المتخلفين.
أمثلة واقعية
ألمانيا: برامج بحث متقدمة أدت إلى زيادة إنتاج الحليب واللحوم من خلال تحسين السلالات والتغذية المتطورة، ما رفع الإنتاجية بنسبة 25% خلال 10 سنوات. .
في ألمانيا، يُعدّ قطاع الإنتاج الحيواني أحد أعمدة الاقتصاد الزراعي، وهو قطاع لم يترك للصدفة أو الاجتهادات التقليدية أي مساحة، بل خُطط له بعناية ودُعِم بقوة عبر برامج بحث علمي متقدمة، لتصبح ألمانيا نموذجاً يُحتذى به في كيفية تحويل البحث إلى أداة للنهوض بالإنتاج وتحقيق الاستدامة. هذا التحول لم يحدث بين ليلة وضحاها، بل هو نتيجة رؤية استراتيجية واضحة ربطت بين مختبرات البحث وحظائر التربية، وبين الورق العلمي والمزرعة الواقعية.
في مجال إنتاج الحليب، على سبيل المثال، كان التركيز منصباً على تحسين السلالات ليس فقط من حيث كمية الحليب المنتَج، بل أيضاً من حيث جودته وتركيزه الغذائي. وقد ساعد التقدم في تقنيات تحليل الجينوم الحيواني على اختيار الأبقار ذات الصفات الوراثية المتميزة، وتم اعتماد برامج تزاوج موجهة تُدار بتطبيقات ذكية تضمن تجنب الأمراض الوراثية وتحسين الصفات الإنتاجية مع كل جيل جديد.
أما في مجال التغذية، فقد انطلقت سلسلة طويلة من الأبحاث التي لم تكتفِ بتحسين تركيبة الأعلاف التقليدية، بل ذهبت أبعد من ذلك نحو تطوير مكملات غذائية دقيقة تعزز من قدرة الحيوانات على تحويل الغذاء إلى لحوم أو حليب بكفاءة عالية. فالعلف في ألمانيا لم يعد مجرد مكونات يتم خلطها عشوائياً، بل هو منظومة علمية مدروسة تستند إلى احتياجات دقيقة وفقاً للعمر، والنوع، والحالة الصحية، وحتى درجات الحرارة المحيطة.
وبفضل هذه الأبحاث التي لم تتوقف عند حدود النظرية، تمكنت ألمانيا خلال العقد الأخير من تحقيق قفزة نوعية، حيث ارتفعت إنتاجية الأبقار من الحليب بنسبة تقارب 25%، كما ارتفعت كفاءة إنتاج اللحوم دون زيادة أعداد الحيوانات بشكل يهدد البيئة. وقد صاحب ذلك تحسينات ملموسة في رعاية الحيوانات وجودة حياتها، ما انعكس بدوره على مستوى النظافة البيولوجية والأمان الغذائي.
لكن النجاح الألماني لا يكمن فقط في النتائج الرقمية، بل في البنية المؤسسية التي تدير هذا النجاح: معاهد أبحاث متخصصة، شراكات مستدامة بين الجامعات والمزارع، تمويل ثابت موجه بذكاء، وأرضية تشريعية تُشجع على الابتكار وتحمي حقوق المزارعين والعلماء في آنٍ معاً. هذا التمازج بين الفكر والتطبيق هو ما جعل من ألمانيا مثالاً حيّاً على ما يمكن أن يصنعه البحث العلمي حينما يُمنح المكانة التي يستحقها.
مصر: ضعف التمويل وتأخر نقل التكنولوجيا أدى إلى بقاء إنتاج اللحوم والحليب عند مستويات أقل بكثير مقارنة بالدول المتقدمة، مع خسائر كبيرة بسبب الأمراض. .
في مصر، يقف قطاع الإنتاج الحيواني عند مفترق طرق حرج، تحاصره التحديات من كل جانب، ويتطلع إلى الانعتاق من قيود التمويل المحدود والبنية التحتية المتقادمة في مجال البحث العلمي. فرغم التاريخ الزراعي العريق لهذه البلاد، لا تزال السلالات الحيوانية المحلية تُربى غالباً وفق نظم تقليدية، وتعتمد في إنتاجها على العوامل الطبيعية أكثر من اعتمادها على نتائج بحثية حديثة أو تطوير وراثي ممنهج. هذه الفجوة العميقة بين الطموح والواقع لا تعود إلى قلة الكفاءات بقدر ما تعود إلى غياب الدعم المؤسسي الفعّال والتراكم المزمن للإهمال في تمويل العلوم الزراعية التطبيقية.
إن تأخر نقل التكنولوجيا الحديثة في هذا القطاع له آثار واضحة ومؤلمة. فالمزارع الصغيرة، التي تشكل الغالبية العظمى من وحدات الإنتاج، تفتقر إلى الأدوات الأساسية لتحسين الإنتاجية أو التعامل مع الأوبئة المتكررة، ناهيك عن غياب أنظمة التغذية المتطورة أو البرمجيات الذكية لإدارة القطيع. فلا توجد برامج متكاملة لتحسين السلالات المحلية التي تُعدّ غالباً ذات إنتاجية متدنية، ولا تتوفر حملات إرشادية فعالة لنقل نتائج الأبحاث – القليلة أصلاً – إلى يد المربي والمزارع.
أما الأمراض، فهي تمثل كابوساً مستمراً يقضي على جزء كبير من الجهود المبذولة. الأمراض المشتركة والأوبئة الحيوانية، مثل الحمى القلاعية أو الحمى المالطية، كثيراً ما تضرب القطيع بلا رحمة، مسببة خسائر مادية باهظة وموجات من الذعر بين المربين، وسط غياب منظومة بحثية متقدمة تضع بروتوكولات وقائية واستباقية فعالة. المستشفيات البيطرية تعاني من نقص في التجهيزات، والرقابة الصحية الحيوانية تفتقر إلى التنسيق والتكامل بين الجهات المعنية، ما يزيد من عمق الأزمة.
كل هذه العوامل مجتمعة أدت إلى بقاء إنتاج اللحوم والحليب في مصر عند مستويات متواضعة جداً مقارنة بما تحققه الدول المتقدمة. فبينما تحقق ألمانيا أو هولندا إنتاجية هائلة من عدد محدود من الأبقار، يحتاج المزارع المصري إلى ضعف هذا العدد ليصل إلى نصف تلك الإنتاجية، في ظل ارتفاع التكاليف وضعف جودة الأعلاف، وغياب نظم دقيقة لإدارة القطيع.
إن غياب الدعم الكافي للبحث العلمي لم يحرم القطاع الحيواني من التطور فقط، بل حرمه من الأمل. والأخطر من ذلك، أنه جعل من الصعب على مصر تحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال استراتيجي يمس الأمن الغذائي لملايين المواطنين. وبينما العالم يركض بسرعة في مضمار التكنولوجيا الحيوية وتطبيقات الذكاء الاصطناعي في تربية الحيوانات، لا تزال مصر في مكانها، تلهث خلف أزمات متكررة وتغرق في دوامة من الحلول المؤقتة، التي لا تلبث أن تتلاشى أمام أول تحدٍ جديد.
4ـ الإنتاج الداجني
أثر ميزانيات البحث العلمي
يشكل الإنتاج الداجني أحد الأعمدة الحيوية في منظومة الأمن الغذائي العالمي، ولا سيما في الدول التي تعاني من ارتفاع معدلات استهلاك البروتين الحيواني مقابل انخفاض القدرة على تأمين اللحوم الحمراء، ليبرز الدجاج والبيض كبدائل رئيسية ومتاحة. ومع تزايد التحديات البيئية والصحية، باتت أهمية البحث العلمي في هذا القطاع تزداد يوماً بعد يوم، إذ لم يعد من الممكن الاعتماد فقط على الوسائل التقليدية في التربية والتغذية، بل صار لزاماً اللجوء إلى البحث العلمي كمحرك أساسي للابتكار والاستدامة.
ففي الدول التي خصصت ميزانيات سخية للبحث العلمي الزراعي، تحول الإنتاج الداجني من نشاط بدائي إلى صناعة دقيقة معقدة مدعومة بالتكنولوجيا الحيوية والمعلوماتية. حيث أسهمت الأبحاث المتقدمة في تحديد التركيبات المثالية للأعلاف، والتنبؤ بالأمراض قبل تفشيها، وتطوير لقاحات فعالة، وتعديل سلالات الطيور وراثياً لزيادة إنتاجيتها وتحسين مقاومتها للأوبئة، دون أن يتأثر طعم اللحم أو جودته. هذه الطفرات لم تأتِ من فراغ، بل كانت نتاج استثمارات ضخمة في المختبرات، وفي الكوادر العلمية، وفي بناء منظومات متكاملة تربط ما بين البحث والتطبيق الفعلي في الحقل.
وفي المقابل، فإن غياب التمويل الكافي للبحث العلمي في العديد من الدول النامية والعربية يجعل هذا القطاع رهيناً للظروف الجوية، وضحية للأمراض المتكررة التي تفتك بالمزارع بأعداد ضخمة، وعبئاً اقتصادياً على الدول التي تجد نفسها مضطرة لاستيراد المنتجات الداجنة لسد فجوة الاستهلاك. والنتيجة هي ارتفاع في أسعار البروتين الحيواني، وهشاشة في منظومة الأمن الغذائي الوطني، وتراجع في القدرة على المنافسة في الأسواق الإقليمية والدولية.
البحث العلمي هو من يصنع الفارق هنا: إنه لا يقتصر على رفع الإنتاج، بل يضمن أيضاً الاستدامة، والجودة، والسلامة الصحية، وتقليل النفايات، وتحسين كفاءة استخدام الموارد. فكل درهم يُستثمر في البحث العلمي الزراعي ينعكس في صورة دجاجة صحية، أو بيضة غنية، أو نظام إنتاجي متكامل قادر على الصمود في وجه الأزمات. ومن دون هذه الرؤية العلمية، يظل الإنتاج الداجني مكبلاً بقيود الماضي، وعاجزاً عن التكيف مع تحديات الحاضر.
الاستثمار في البحث أدى إلى تحسين أنواع الدواجن، زيادة كفاءة التغذية، وبرامج صحية تقلل من معدل النفوق، مما يعزز الإنتاجية وجودة المنتج. .
الاستثمار في البحث العلمي في مجال الإنتاج الداجني لم يكن مجرد رفاهية علمية أو خياراً ترفياً تسلكه الدول الغنية، بل هو استثمار في صميم الأمن الغذائي والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. فعندما وجهت بعض الدول المتقدمة طاقاتها ومواردها نحو فهم أعمق لخصائص الدواجن وسلوكها البيولوجي، كانت النتيجة ثورة صامتة في هذا القطاع الحيوي، بدأت من حظائر الدواجن ووصلت إلى موائد المستهلكين.
فمن خلال سنوات من التجارب المخبرية والأبحاث التطبيقية، أمكن تطوير سلالات دواجن محسّنة تمتاز بسرعة النمو، وارتفاع معدل التحويل الغذائي، ومقاومة الأمراض الشائعة، فضلاً عن إنتاج لحوم وبيض بجودة أعلى. هذه السلالات لا تولد من فراغ، بل هي نتاج دراسات دقيقة في الوراثة، والبيولوجيا الجزيئية، وانتقاء الأفراد بناءً على خصائص محددة، في دورة تطور دقيقة تضع المستقبل نصب أعينها.
وبجانب السلالات، ركز البحث العلمي على تحسين كفاءة التغذية، إذ أصبحت الأعلاف اليوم مصممة بتركيبات مدروسة تلبي بدقة احتياجات الطيور في كل مرحلة عمرية، ما يقلل من الهدر، ويعظم العائد الغذائي، ويخفض التكاليف. وتم إدخال المكملات الحيوية والإنزيمات والمضادات الطبيعية، بل واستخدام تقنيات النانو في تحسين امتصاص العناصر الدقيقة، وكل ذلك لم يكن ليتحقق لولا منظومات بحثية قوية مدعومة بالتمويل والإرادة.
أما على صعيد البرامج الصحية، فقد لعبت الأبحاث دوراً محورياً في ابتكار لقاحات أكثر فاعلية، وتطوير نظم مراقبة صحية مبكرة تعتمد على الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات، مما سمح باكتشاف الأمراض فور ظهورها والحد من انتشارها قبل أن تتحول إلى أوبئة تهدد القطيع بأكمله. وانخفضت معدلات النفوق بشكل ملحوظ، مما حسن العوائد الاقتصادية وأعاد الثقة إلى المستثمرين في هذا القطاع.
هذه الإنجازات مجتمعة لم تؤدِّ فقط إلى زيادة الإنتاج الكمي، بل ساهمت في تحسين جودة المنتج من حيث القيمة الغذائية، والطعم، والمظهر، والسلامة الصحية. فالدواجن المنتجة في ظل هذه التقنيات الحديثة تكون أكثر ملاءمة لمتطلبات الأسواق العالمية، مما يفتح الأبواب أمام التصدير ويعزز الميزان التجاري للبلدان المستثمرة في البحث العلمي.
إنه مشهد متكامل من التقدم، لا يتحقق بالعشوائية، بل بالمعرفة، ولا يُبنى بالشعارات، بل بالتجريب والتحليل والتطوير المستمر. فكل بيضة تُنتج في نظام علمي محسوب، وكل دجاجة تُربى في بيئة مدروسة، هي شاهد حي على ما يمكن للبحث العلمي أن يصنعه حين يجد من يؤمن بقيمته ويضعه في صدارة أولويات التنمية.
الدول ذات التمويل المحدود تعاني من ضعف الإنتاج بسبب نقص الأبحاث العلمية وعدم توافر برامج تدريب حديثة
. في الدول ذات التمويل المحدود، يظل قطاع الإنتاج الداجني حبيس دائرة مغلقة من التحديات، تبدأ من ضعف البنية التحتية البحثية ولا تنتهي عند تدني معدلات الإنتاج. ففي غياب الدعم المالي الكافي للبحث العلمي، تصبح الأبحاث مجرد أوراق حبيسة الأدراج، إن وُجدت، وتفتقر إلى الإمكانيات التي تمكّنها من الوصول إلى نتائج عملية قابلة للتطبيق في الواقع. فلا توجد دراسات وراثية كافية لتحسين السلالات، ولا يتم تحديث البرامج الغذائية بما يتماشى مع التطورات الحديثة في علم التغذية، ولا تُعتمد نظم وقاية صحية فعالة تواكب تطور الأمراض ومقاومتها المتزايدة.
النتيجة الحتمية هي استمرار الاعتماد على سلالات قديمة أقل كفاءة، بطيئة النمو، وأكثر عرضة للأمراض، مما يجعل عملية التربية مرهقة اقتصادياً وغير مجدية في كثير من الأحيان. هذه السلالات، التي لم تمسها يد التطوير الجيني أو الانتقاء العلمي، تعجز عن مجاراة التغيرات المناخية، أو تقلبات السوق، أو حتى التحديات الصحية البسيطة، فتنهار أمام أي وباء أو نقص غذائي، وتتسبب في خسائر فادحة للمنتجين، خصوصاً صغار المربين.
أما على صعيد التدريب، فإن غياب البرامج التدريبية الحديثة يؤدي إلى فجوة معرفية متزايدة بين ما يعرفه العاملون في القطاع، وبين ما يتطلبه الواقع العلمي اليوم. فالمزارعون والمربّون يفتقرون إلى التوجيه الصحيح حول كيفية تحسين كفاءة الإنتاج، أو التعامل مع الأمراض، أو إدارة الأعلاف بصورة اقتصادية مدروسة. وتبقى المعلومات المتاحة لهم محدودة، تقليدية، متوارثة، لا تمت بصلة إلى العلوم الحديثة، ولا تستند إلى قاعدة بيانات دقيقة أو تحليل علمي موثوق.
كما تفتقر هذه الدول إلى التعاون بين مراكز الأبحاث والقطاع الخاص، وهو ما يشكّل عائقاً إضافياً أمام تطوير صناعة متكاملة قائمة على الابتكار والمعرفة. فعندما لا يكون هناك تمويل لتجربة الأفكار الجديدة، ولا حوافز لتحويل نتائج الأبحاث إلى تقنيات عملية، تبقى الفجوة بين العلم والتطبيق شاسعة، ويظل القطاع يعيش على هامش ما يمكن أن يكون عليه.
وفي ظل هذا الواقع، يصبح الإنتاج محدوداً من حيث الكمية والجودة، وتتعاظم التحديات، وتتراجع فرص التصدير أو المنافسة في الأسواق العالمية، بل حتى في السوق المحلي. وتتراكم الخسائر عاماً بعد عام، بينما تمضي دول أخرى بخطى ثابتة نحو مزيد من الاكتفاء الذاتي والتطور، لأنّها جعلت من البحث العلمي مفتاحها الذهبي للنهضة.
أمثلة واقعية
هولندا: البحث العلمي ساهم في تطوير دواجن ذات نمو أسرع ومقاومة للأمراض، مع تقنيات تغذية متطورة أدت إلى تحسين الكفاءة بنسبة 30%..
في هولندا، تحوّل قطاع الإنتاج الداجني إلى قصة نجاح عالمية تُروى بإعجاب في محافل الزراعة والتغذية والتقنيات الحيوية. فبفضل رؤية استراتيجية واضحة تستند إلى البحث العلمي كركيزة أساسية، لم يكن تطوير هذا القطاع مجرد تطور طبيعي، بل كان قفزة نوعية تم التخطيط لها بعناية وتنفيذها بدقة متناهية. لم تكتف هولندا بتحسين الواقع، بل أعادت صياغته بالكامل، معتمدة على أحدث ما توصلت إليه علوم الوراثة والتغذية والهندسة الحيوية.
بدأت القصة من المختبرات، حيث وظّف الباحثون جهودهم لفهم التركيبة الجينية للدواجن على مستوى عميق، واستطاعوا من خلال برامج الانتخاب الوراثي أن يطوّروا سلالات جديدة تمتاز بسرعة النمو ومقاومتها العالية للأمراض. لم تعد هذه الطيور مجرد كائنات تُربى من أجل اللحم أو البيض، بل أصبحت نتاجاً علمياً دقيقاً يعكس تفوق الإنسان في التوجيه الوراثي المدروس. وبذلك، اختُصرت فترات التربية، وانخفضت نسبة النفوق، وزادت كفاءة تحويل العلف إلى لحم بنسبة لافتة.
إلى جانب الوراثة، أبدعت هولندا في مجال التغذية. فأنشأت مراكز متخصصة لدراسة التفاعلات بين مكونات الأعلاف وأداء الطيور، وطوّرت أنظمة تغذية مبرمجة تعتمد على احتياجات الطير الدقيقة في كل مرحلة من مراحل نموه. لم تُترك التفاصيل للصدفة، بل أصبحت الحصص الغذائية مُصممة علمياً لتحقيق أقصى استفادة من كل غرام من العلف، بأقل هدر ممكن. هذا التقدم لم يُحسّن فقط من معدلات الإنتاج، بل خفّض التكاليف التشغيلية وساهم في استدامة النظام البيئي من خلال تقليل الانبعاثات والنفايات.
وعلى مستوى الإدارة، استخدمت هولندا التقنيات الذكية مثل أنظمة المراقبة البيئية، والتحكم في درجة الحرارة والرطوبة والتهوية بشكل أوتوماتيكي، مما وفّر بيئة مثالية لنمو الدواجن وتقليل الإجهاد الحيوي، وهو ما انعكس مباشرة على صحة الطيور وجودة المنتج النهائي. كما أن التعاون الوثيق بين الجامعات، مراكز البحوث، والمزارع التجارية، جعل نقل التكنولوجيا أمراً سلساً ومستمراً، حيث تُطبّق آخر الابتكارات مباشرة في أرض الواقع دون فجوة زمنية أو تنظيمية.
هذه المنظومة المتكاملة، المبنية على تمويل مستدام للبحث العلمي وإيمان كامل بأهمية الابتكار، مكّنت هولندا من أن تتصدر قائمة الدول الأكثر كفاءة في الإنتاج الداجني، بل وأن تُصدّر معرفتها وتجاربها إلى العالم، لتُصبح مرجعاً في كيفية تحويل قطاع تقليدي إلى نموذج متطور يواكب تحديات العصر ويخدم أهداف الأمن الغذائي العالمي.
الأردن: نقص التمويل في البحث أدى إلى اعتماد تربية تقليدية ومحدودة تقنيًا، مما ينعكس على جودة وكمية الإنتاج الداجني. .
في الأردن، يبرز قطاع الإنتاج الداجني كأحد المحاور الحيوية لتأمين الأمن الغذائي، إلا أن هذا القطاع لا يزال يرزح تحت وطأة التحديات المزمنة التي تُقيد انطلاقته وتحد من قدرته على تحقيق الطموحات الوطنية في الاكتفاء الذاتي والجودة العالية. ولعلّ أبرز هذه التحديات هو النقص الحاد في تمويل البحث العلمي، وهو ما ألقى بظلاله الثقيلة على مسار تطوير هذا القطاع، ليظلّ في معظمه معتمداً على أساليب تقليدية لم تعد تواكب المتغيرات العالمية ولا تستجيب لحاجات السوق المتجددة.
في ظل غياب الدعم الكافي للأبحاث، لم يُتح للمؤسسات العلمية والجامعات الفرصة لتطوير سلالات دواجن محلية أكثر ملاءمة للمناخ الأردني أو مقاومة للأمراض الشائعة في بيئته الجغرافية. ومع غياب برامج الانتخاب الوراثي الدقيقة، يستمر الاعتماد على سلالات مستوردة، لا تُظهر في كثير من الأحيان الأداء المثالي في ظل ظروف التربية المحلية، ما يؤدي إلى تذبذب في معدلات النمو وارتفاع في معدلات النفوق، وبالتالي تقلبات في الإنتاجية تؤثر على استقرار السوق.
ولا يقتصر الأثر على الجوانب الوراثية فحسب، بل يمتد إلى نظم التغذية أيضاً. فنتيجة غياب مراكز بحث متخصصة في تحسين الأعلاف وتطوير التركيبات المثلى لكل مرحلة عمرية من الطيور، تظلّ معظم نظم التغذية تعتمد على صيغ تقليدية غير مدروسة بدقة، ما يُفضي إلى هدر كبير في الموارد دون تحقيق الكفاءة المرجوة. كما أن نقص الدراسات حول العوامل البيئية المؤثرة على صحة الطيور يحدّ من إمكانية استخدام أنظمة التحكم الذكية في درجات الحرارة والتهوية والرطوبة، وهي عناصر أساسية لتحسين المناعة الطبيعية للطيور وجودة الإنتاج.
أما من حيث مكافحة الأمراض، فإن غياب التمويل الكافي يُعطّل جهود إنشاء مختبرات حديثة لرصد الأمراض وتشخيصها بسرعة، أو تطوير لقاحات محلية فعالة، ما يُسهم في تفشي أمراض تُسبب خسائر فادحة للمربين وتُهدد استدامة الإنتاج. وبسبب هذا النقص، يضطر العديد من صغار المربين إلى استخدام مضادات حيوية بطرق غير علمية، الأمر الذي لا يؤثر فقط على صحة الطيور، بل يمتد إلى جودة اللحوم وسلامتها للاستهلاك البشري.
وفي ظل هذه المعطيات، يصبح القطاع مكبلاً بقيود التمويل المحدود، عاجزاً عن اللحاق بركب الدول التي جعلت من البحث العلمي بوابة للنهوض بالإنتاج الداجني. ومع غياب شراكات فعالة بين القطاعين العام والخاص، وتراجع الاهتمام بتدريب الكوادر الفنية على أحدث التقنيات، تظل الفجوة التقنية والمعرفية قائمة، ويظل الطموح الأردني في بناء منظومة إنتاج داجني متطورة أسيراً للظروف المالية والمحدودية في الرؤية الاستراتيجية.
ملخص التحليل يعكس بوضوح مدى التأثير العميق الذي يلعبه تمويل البحث العلمي على الإنتاج في القطاعات الحيوية المختلفة، من الزراعة مروراً بالإنتاج السمكي، وصولاً إلى الإنتاج الحيواني والداجني، حيث يشكل هذا التمويل الخط الفاصل بين التقدم والنهوض من جهة، والتخلف والجمود من جهة أخرى.
في القطاع الزراعي، يشكل الاستثمار العالي في البحث العلمي الأساس في تطوير أصناف محاصيل أكثر مقاومة للأمراض والجفاف، وتحقيق زيادات ملحوظة في الإنتاجية تفوق 20% إلى 30% في العديد من الدول المتقدمة. هذا الاستثمار يتيح تطبيق تقنيات الزراعة الدقيقة والري الحديث التي تعزز من كفاءة استخدام المياه والأسمدة، وتفتح آفاقاً جديدة نحو الأمن الغذائي المستدام. بالمقابل، نجد أن ضعف التمويل في دول نامية وعربية يؤدي إلى الاعتماد على الأساليب التقليدية القديمة، مما يحد من قدرة المزارعين على تحسين إنتاجهم ويجعلهم أكثر عرضة لتقلبات المناخ، وينجم عن ذلك ضعف ملموس في الإنتاجية مقارنةً بالدول المتقدمة، ما يؤثر بشكل مباشر على مستوى الدخل والرفاهية الزراعية.
أما في الإنتاج السمكي، فإن التمويل المرتفع للبحث العلمي يُسهم بشكل جلي في تطوير تقنيات تربية مستدامة، تشمل نظم المراقبة البيئية الدقيقة، مكافحة الأمراض السمكية، وتحسين نظم التغذية، مما يؤدي إلى زيادة في الإنتاج بنسبة تتراوح بين 10% إلى 15% في البلدان التي تستثمر في هذا المجال. هذا النمو المدعوم بالأبحاث العلمية يجعل القطاع أكثر استدامة وكفاءة، ويحد من التلوث ويقلل من الضغط على المصايد الطبيعية. بالمقابل، تعاني الدول ذات التمويل المحدود من تحديات كبيرة في مجابهة الأمراض والتلوث، مما يقيّد قدرة القطاع على التوسع ويحد من إنتاجيته، وهو ما يضعف الأمن الغذائي البحري ويثقل كاهل الاقتصاد الوطني.
في مجال الإنتاج الحيواني، تلعب ميزانيات البحث العلمي دوراً محورياً في تحسين السلالات من خلال الهندسة الوراثية وبرامج التغذية المتقدمة، بالإضافة إلى تطوير برامج الوقاية من الأمراض، مما يسهم في رفع الإنتاجية بنسبة تتراوح بين 20% و25% في الدول المتقدمة. هذه الإنجازات العلمية تجعل من تربية الحيوانات أكثر إنتاجية وأقل عرضة للخسائر، وتساهم في إنتاج لحوم وألبان ذات جودة عالية تلبي متطلبات السوق المحلية والعالمية. بينما في الدول ذات التمويل المنخفض، يبرز التأثير السلبي بوضوح في شكل خسائر مرضية متكررة، ضعف في الإنتاجية، واعتماد على تقنيات وتقليدية، كلها عوامل تعيق النمو وتحد من فرص التصدير وتحسين مستوى المعيشة للمنتجين.
وأخيراً، في الإنتاج الداجني، يتجلى أثر التمويل الجيد في تحسين سلالات الدواجن لتكون أسرع نمواً وأكثر مقاومة للأمراض، إلى جانب اعتماد أنظمة تغذية متطورة وبرامج صحية تقلل من معدلات النفوق. هذه التطورات ترفع الإنتاجية بنسبة 25% إلى 30%، كما أنها تحسن من جودة المنتج مما يعزز تنافسيته في الأسواق المحلية والدولية. بالمقابل، تواجه الدول ذات التمويل المحدود واقعاً مختلفاً، حيث يعتمد المربون على أساليب تقليدية ضعيفة الكفاءة، مما ينعكس على تدني الإنتاجية وجودة المنتجات، ويحد من فرص النمو والتوسع في هذا القطاع الحيوي.
إن الأرقام والنسب التي نراها في هذه القطاعات ليست مجرد أرقام، بل هي مؤشرات حية تعكس نتائج استثمار جاد في البحث العلمي وما يرافقه من استراتيجيات دعم وتمويل متواصلة. ولعلّ من الضروري التنويه إلى أن تمويلات البحث العلمي التي تصل إلى عشرات المليارات من الدولارات في الدول المتقدمة، سواء في قطاع الزراعة أو الإنتاج الحيواني والسمكي، كما ورد في تقارير موثوقة مثل تقارير البنك الدولي ومنظمات الأغذية والزراعة، تُثبت كيف أن الاستثمار المستدام في المعرفة والابتكار هو المفتاح الحقيقي للنهوض الاقتصادي والاجتماعي. في المقابل، يعاني كثير من الدول النامية والعربية من تشتت التمويل أو محدوديته، مما يستدعي تعزيز الرؤية الاستراتيجية وتركيز الجهود على بناء منظومة بحثية متكاملة تسهم بفاعلية في تطوير هذه القطاعات الحيوية، لتحقيق تنمية شاملة ومستدامة.
المصادر:
- تقريرOECD عن الإنفاق على البحث والتطوير (2023)
- وزارة الزراعة الأمريكية(USDA)
- تقارير وزارة العلوم اليابانية وكوريا الجنوبية
- المركز الأوروبي للبحوث الزراعي
- تقارير وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في الدول العربية
- البنك الدولي – بيانات البحث والتطوير
- تقارير منظمة الفاو(FAO) – المنطقة العربية
- البنك الدولي – تقارير التنمية
- تقارير وزارة العلوم والتكنولوجيا في الهند والبرازيل
- تقارير منظمة الأغذية والزراعة(FAO)
🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.