آليات تطوير برامج تنفيذية للتنمية المستدامة في الزراعة: من الرؤية إلى التطبيق (2)
أهمية التكامل بين البحث العلمي وصانع القرار والمجتمع

بقلم: د.شكرية المراكشي
الخبير الدولي في الزراعات البديلة ورئيس مجلس إدارة شركة مصر تونس للتنمية الزراعية
آليات تطوير البرامج التنفيذية في مجال التنمية المستدامة بالزراعة لا تبدأ من الورق ولا من غرف الاجتماعات المغلقة، بل من صياغة رؤية واضحة تنبض بالحياة وتستمد قوتها من الواقع. فالتنمية الزراعية المستدامة ليست مجرد شعارات تُرفع أو خطط تُكتب بلغة تقنية جافة، إنما هي مشروع حضاري طويل النفس يعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والأرض والموارد. حين نضع هذه الرؤية، فإن التحدي الحقيقي يبدأ في رحلة الانتقال من التنظير إلى التطبيق، من المفاهيم المجردة إلى الحقول التي تنتظر من يرويها بماء العلم ويغذيها بقرارات رشيدة.
ولا يمكن لأي برنامج تنفيذي أن ينجح إذا ظل حبيس عقل الباحث أو حبر القرارات الحكومية دون أن يمر عبر الجسر الحيوي الذي يربط البحث العلمي بصانع القرار من جهة، وبالمجتمع المحلي من جهة أخرى. هنا تكمن أهمية التكامل: فالعلم يقدم الأدوات والتقنيات، والقرار يمنح التشريع والموارد، والمجتمع يمنح الشرعية والقدرة على الاستمرارية. إذا انفصلت هذه الأطراف عن بعضها، تحولت البرامج إلى مشاريع مبتورة: علم بلا تطبيق، قرارات بلا فهم، أو مبادرات مجتمعية بلا سند.
التكامل الحقيقي هو الذي يحوّل النتائج البحثية إلى سياسات مدعومة بالأرقام، والسياسات إلى برامج قابلة للتنفيذ، والبرامج إلى تجارب يعيشها المزارع في يومه. إنه حوار دائم لا يعرف المركزية، حيث لا يكتفي الباحث بإلقاء النتائج في تقارير، ولا يكتفي صانع القرار بإصدار تعليمات، ولا يظل المجتمع متلقياً صامتاً. إنما يدخل الجميع في دائرة واحدة يتبادلون فيها الفهم والمساءلة، بحيث يصبح المشروع الزراعي المستدام مشروعًا وطنيًا مشتركًا، تتوزع فيه المسؤوليات وتتوحّد فيه الغاية: أن تنتج الأرض بكفاءة، ويحيا المجتمع بكرامة، وتبقى الموارد محفوظة للأجيال القادمة.
أهمية التكامل بين البحث العلمي وصانع القرار والمجتمع
حين نتصور منظومة زراعية فاعلة فإنها ليست سلسلة خطية من خطوات متفرقة، بل شبكة حية من علاقات: الباحث يُنتِج معرفة، وصانع القرار يملك حقّ التنفيذ والإطار القانوني، والمجتمع (المزارعون، التعاونيات، الأسواق المحلية) هو الحقل الذي تُختبر فيه الفرضيات. غياب هذا التكامل يُحيل أفضل البحوث إلى مقالات جامعية تُقرَأ ثم تُوضَع على رفٍّ، ويحوّل القرارات السياسية إلى إجراءات فاصلة عن الواقع الميداني. أما التكامل الفاعل فيولد مسارات تعلم متبادلة: الباحث يصوغ تجاربه وفق قيود المزارع، وصانع القرار يضع سياسات تسهّل التوسع بدل أن تكبّله إجراءات بيروقراطية، والمجتمع يمنح شرعيّة للتجارب عبر تبنّي تقنيات تراعي ظروفه. في التطبيق العملي، هذا التكامل يتجلّى في منصات حوار دورية، اتفاقيات شراكة تربط مراكز البحث بالتعاونيات، وجداول زمنية تنصّ أن كل مشروع يتضمن حلقة تجريبية ميدانية مع مشاركة ممثلين منتخبين من المجتمع. الفائدة هنا عملية ومزدوجة: تسرع تبنّي الحلول وتقلل مخاطر الفشل المكلف، كما تضمن أن التمويل الذي يُخصّص للمشروعات يُستخدم في مسارات قابلة للتكرار ومؤسسية بدل أن يظلّ دعمًا لمبادرات قصيرة الأجل
لماذا التكامل ضروري؟
لماذا يصبح التكامل ضرورة لا مجرد خيار في مسيرة التنمية المستدامة الزراعية؟ لأن الأطراف الثلاثة، البحث العلمي وصانع القرار والمجتمع، كل منهم يحمل جزءًا من المعادلة، ولا يكتمل البناء إلا بترابط هذه الأجزاء في منظومة واحدة متماسكة. البحث العلمي يملك القدرة على توليد الحلول التقنية، ابتكار أدوات جديدة، وصياغة مؤشرات أداء تقيس النجاح والفشل بدقة. لكنه من دون اليد التي تمنحه إطارًا قانونيًا وموارد مالية لن يغادر المختبر أو صفحات الدوريات الأكاديمية. هنا يأتي دور صانع القرار الذي يستطيع أن يحوّل هذه الحلول إلى برامج رسمية، يشرّع لها قوانين، ويوجه لها التمويل، لكنه هو الآخر يقف عاجزًا إن لم يجد من يطبق وينفّذ على أرض الواقع.
المجتمع، بمزارعيه وتعاونياته، هو الحلقة التي تعطي كل ما سبق معنىً ووجودًا، لأنه يملك المعرفة المحلية المتجذّرة في الأرض والبيئة، ويختبر يوميًا التحديات التي قد تفشل أضخم الخطط إذا تجاهلتها.
وحين يغيب هذا التكامل، تنكشف هشاشة البناء: البحث يظل حبيس رفوف الجامعات والمراكز البحثية، السياسات تتحول إلى نصوص جافة منفصلة عن الواقع، والمجتمع يبقى متفرجًا أو مقاومًا لخطط لم يشارك في صياغتها. في المقابل، حين يتكامل الثلاثة، تصبح المعرفة العلمية جسراً إلى التشريع، ويصبح التشريع محفزًا للتنفيذ، ويغدو التنفيذ ذاته مختبرًا حيًا يعود بنتائجه ليغذي البحث ويعدل القرار. إنها دائرة تعلم مستمرة لا تقف عند حدود التجربة الأولى، بل تتطور موسمًا بعد موسم. التكامل إذن ليس ترفًا تنظيريًا، بل هو الضمانة الوحيدة أن تتحول التنمية المستدامة من شعار إلى ممارسة، ومن أوراق رسمية إلى حصاد ملموس يحياه الناس.
آليات تحويل التكامل إلى فعل
الخطوة الأولى هي صنع منصّات “حوكمة معرفية” — مجالس علمية-سياسية إقليمية تضم باحثين، ممثلين حكوميين، قادة تعاونية، ومُموّلين. هذه المجالس لا تصدر توصيات نظرية فحسب، بل تُعتمد كشرط مسبق للتمويل: أي مشروع يمول يجب أن يمرّ على لجنة تقييم تضم تمثيلًا لكل طرف. ثانياً، إنشاء “مراكز تحويل المعرفة” داخل الجامعات أو مؤسسات البحث تقوم بتغليف النتائج بصيغ عملية — أدلة تعليمية، دفاتر إجراءات ميدانية، وحدات تدريبية قصيرة قابلة للتطبيق. ثالثاً، برامج منح مشتركة تشترط إشراك ممثلين من المجتمع في تصميم الدراسة وفي تنفيذ التجارب الميدانية، ما يحول البحث من نشاط مغلق إلى شراكة إنتاجية. رابعاً، آليات تغذية راجعة رقمية — منصات بسيطة تُتيح للمزارع رفع صور وملاحظات تلقائياً، وتغذي الباحثين والجهات المانحة ببيانات آنية تساعد في ضبط البرامج
آليات تكامل عملية
منصات الحوكمة المعرفية ليست مجرد لجان شكلية تُعقد لمرة واحدة ثم تُطوى ملفاتها في الأدراج، بل هي فضاءات حقيقية للحوار البنّاء، حيث يجتمع العقل العلمي مع الرؤية السياسية والخبرة الميدانية للمزارع. في هذه المنصات يصبح الباحث جزءًا من عملية صنع القرار لا مجرد مصدر بيانات، ويصبح المزارع شريكًا مسموع الكلمة لا متلقيًا صامتًا، ويغدو صانع القرار صلة الوصل بين ما هو ممكن علميًا وما هو متاح سياسيًا وماليًا. الفكرة الجوهرية هنا أن المعرفة لا تولد في المختبر فقط، بل تتشكل من خلال التفاعل مع الأرض والإنسان والسياسة، وهذا لا يتحقق إلا عبر آلية دورية منظمة تجمع هذه الأطراف في نقطة واحدة من الزمن والمكان.
تصوّر لجنة سنوية تعقد جلساتها في قلب المناطق الزراعية لا في قاعات مغلقة بالعاصمة، لجنة تجلس حول طاولة واحدة تضم باحثًا متخصصًا في تحسين البذور، وصاحب قرار يملك ميزانية وبرامج دعم، ومزارعًا من قرية بعيدة يحمل قصته وتجربته اليومية. في هذا اللقاء، لا يُناقش البحث بمعزل عن الواقع، بل يُختبر عبر شهادات المزارعين، ولا تُطرح السياسات بمعزل عن الإمكانات التقنية، بل تُراجع على ضوء نتائج الأبحاث. هكذا تتحول الأولويات البحثية من مجرد عناوين أكاديمية إلى مشاريع قابلة للتطبيق، وتصبح السياسات نفسها أكثر مرونة لأنها نُسجت من خيوط متعددة الرؤية.
الأهم أن هذه المنصات ليست نهاية بل بداية لدورة تعلم متكررة، حيث يُرفع تقرير دوري يوضح ما تحقق وما تعثر، وتُترجم التوصيات إلى تعديلات في البرامج التنفيذية، وتُفتح قنوات مستمرة لمتابعة الأداء. إنها أشبه بجهاز تنفّس دائم يمد جسد التنمية المستدامة بالأكسجين، ينعشه بانتظام، ويمنع قراراته من أن تختنق داخل عزلة البيروقراطية أو جمود الأبحاث. بهذا الشكل تتحول الحوكمة المعرفية من مجرد مصطلح إلى ممارسة حيّة، تحرس الجسر بين العلم والسياسة والمجتمع وتبقيه مفتوحًا دائمًا.
مراكز امتثال تطبيقية (Translational Centers): وحدات في الجامعات تتحول فيها نتائج البحوث إلى حزم تطبيقية (دلائل إرشاد، برتوكولات تقنية، وحدات تدريب).
مراكز الامتثال التطبيقية ليست مجرد مبانٍ داخل أسوار الجامعات، بل هي الجسر الذي يعبر به البحث العلمي من فضاء الأوراق الأكاديمية إلى حقول المزارعين وورش الصناعات الغذائية وأسواق المستهلكين. في هذه المراكز تتحول اللغة النظرية إلى لغة عملية ملموسة، وتُصاغ النتائج المجردة في صورة دلائل إرشادية واضحة، بروتوكولات تقنية قابلة للتنفيذ، ووحدات تدريبية تضع الأدوات في أيدي من يحتاجها فعلًا. الفكرة هنا أن البحث لا يكتمل حين يُنشر في مجلة علمية، بل حين يُترجم إلى تغيير حقيقي على الأرض، وحين يصبح جزءًا من الروتين اليومي للمزارع أو الفني أو التعاونية الزراعية.
تخيّل أن دراسة معمّقة عن إدارة الري بالتنقيط لا تبقى في حدود الأرقام والمعادلات، بل تُعاد صياغتها في كتيّب مصوّر يشرح الخطوات خطوة بخطوة، مصحوبًا بدورات تدريبية ميدانية، وأدوات قياس رطوبة رخيصة وسهلة الاستخدام. أو أن بحوثًا عن تحسين المحاصيل المقاومة للجفاف تُختصر في بروتوكول عملي يصف للمزارع متى يزرع، وبأي كثافة، وكيف يراقب مؤشرات نجاحه. هذه التحويلات التطبيقية تمنح البحث العلمي حياة ثانية، حياة تتنفس خارج أسوار الجامعة، وتندمج في تفاصيل الإنتاج الزراعي.
المميز في هذه المراكز أنها لا تعمل بمعزل عن الشركاء، بل تقف في قلب شبكة تضم المزارعين، صناع القرار، والمستثمرين. هي مساحة للتجريب المشترك حيث يُختبر الدليل الإرشادي قبل اعتماده، وتُراجع البروتوكولات التقنية على ضوء ردود الفعل الميدانية. إنها ليست مجرد قناة أحادية الاتجاه من الجامعة إلى الحقل، بل دائرة متجددة: البحث يولّد حلولًا، المركز يحوّلها إلى أدوات، المزارع يجرّب ويعطي ملاحظاته، فتعود الملاحظات إلى المختبر لتُصقل وتُحسَّن.
بهذا الشكل تصبح مراكز الامتثال التطبيقية مصانع لإعادة تدوير المعرفة وتحويلها من خام إلى منتج نهائي قابل للتداول والاستخدام. هي بمثابة ورش ترجمة جماعية حيث تُترجم لغة العلم إلى لغة الحياة اليومية، فلا تبقى التنمية المستدامة شعارًا معلقًا بل تتحول إلى ممارسة يومية متكررة، تعيد تشكيل العلاقة بين الجامعة والمجتمع، بين الورقة العلمية وسلة الغذاء على مائدة الناس.
بروتوكولات شراكة للابتكار: عقود تعاون بين مراكز بحث ومزارع نموذجية لتجارب ميدانية مشتركة مع مشاركة مالية من القطاع الخاص.
بروتوكولات الشراكة للابتكار ليست مجرد أوراق موقّعة أو عقود جامدة تحدد التزامات مالية وتقنية، بل هي فضاءات حيّة تُصاغ فيها الثقة، وتلتقي فيها عوالم متباعدة عادةً: الباحث الذي يقضي وقته بين المعادلات والمختبرات، والمزارع الذي يواجه يوميًا قسوة التربة وشحّ المياه، والقطاع الخاص الذي يبحث عن جدوى اقتصادية واستثمار مضمون. هذه البروتوكولات تُحوّل الحقل إلى مختبر مفتوح، وتجعل من المزرعة النموذجية مسرحًا حيًا تُختبر فيه الأفكار، وتُصقل فيه التقنيات، وتُقاس فيه النتائج بعيدًا عن التنظير المجرد.
هذه الشراكة كجسر مزدوج الاتجاه: الباحث يأتي بأحدث ما توصّل إليه العلم، والمزارع يضعه على محك التجربة الواقعية، والقطاع الخاص يضيف عنصر الاستدامة من خلال التمويل والمخاطرة المحسوبة. النتيجة ليست مجرد تجربة علمية ناجحة أو فاشلة، بل خارطة طريق عملية تُظهر بوضوح كيف يمكن لفكرة أن تتحول إلى نموذج تجاري قابل للتوسع. من دون هذه الشراكات، يظل الابتكار حبيس المعامل أو حبيس أحلام الدعم الحكومي المؤقت، لكن حين تتجسّد على الأرض في مزرعة نموذجية، يتحوّل إلى قصة نجاح قابلة للتكرار في مئات القرى.
الأجمل أن هذه البروتوكولات تمنح كل طرف قيمة مضافة: الباحث يرى أفكاره تُختبر في بيئة حقيقية فيتجنب وهم الحلول المثالية؛ المزارع يحصل على تقنيات جديدة ترفع إنتاجيته وتقلل مخاطره؛ والقطاع الخاص يجد نفسه شريكًا في صياغة ابتكار يمنحه ميزة سوقية تنافسية. وحتى المجتمع الأوسع يربح حين يرى أن التنمية لم تعد مجرد وعود، بل تجربة قابلة للقياس والتكرار.
بهذا المعنى، بروتوكولات الشراكة للابتكار لا تصوغ فقط عقود تعاون، بل تُعيد صياغة العلاقة بين الأطراف الثلاثة: تجعل من البحث العلمي استثمارًا، ومن الحقل منصة تجريبية، ومن التمويل الخاص أداة تمكين بدل أن يكون مجرد ربح قصير الأمد. هي ببساطة الصيغة التي تذيب الحواجز بين النظرية والتطبيق، بين المختبر والسوق، وتحوّل التنمية المستدامة من شعار إلى ممارسة يومية تبني جسورًا بين الفكرة والواقع.
آليات التغذية الراجعة: تقارير مزارعين دورية تُرسل للباحثين وصانعي القرار (منصات رقمية أو اجتماعات قروية شهرية).
آليات التغذية الراجعة هي القلب النابض الذي يضمن أن لا يبقى أي مشروع تنموي أو بحث علمي معلقًا في فضاء النظريات أو محاصرًا في أروقة المؤسسات الرسمية. إنّها الخيط الذي يربط بين الميدان حيث يزرع المزارع بيديه ويخوض صراعه اليومي مع التربة والماء والطقس، وبين المكاتب حيث تُصاغ القرارات وتُعتمد الميزانيات وتُصاغ الخطط. في غياب هذا الخيط، يصبح العمل التنموي كمن يحرث في البحر؛ تلمع الأرقام على الورق، لكن الواقع يبقى ساكنًا أو حتى يتراجع.
حين نتحدث عن تقارير دورية يرسلها المزارعون، فإننا لا نقصد نماذج بيروقراطية جافة تُملأ على عجل لتوضع في الأدراج، بل شهادات حيّة تُسجل ما يحدث في الأرض لحظة بلحظة. يمكن أن تكون عبر منصات رقمية يسجل فيها المزارع ملاحظاته مدعمة بصور من حقله، أو عبر اجتماعات قروية شهرية يلتقي فيها الباحثون وصانعو القرار بالمزارعين وجهًا لوجه ليستمعوا إلى صوت الأرض قبل أي شيء آخر. هذه اللقاءات ليست مجرد جلسات استماع، بل ورش نقد حيّة يشارك فيها الجميع: المزارع يصف مشكلته، الباحث يطرح فرضية، وصانع القرار يفكر في تعديل آلية أو فتح نافذة دعم جديدة.
التغذية الراجعة بهذا المعنى تصبح نظام إنذار مبكر، يلتقط التعثرات قبل أن تتفاقم، ويحوّلها إلى فرص لتعديل المسار بسرعة. إذا لاحظ المزارعون مثلاً أن تقنية ريّ جديدة تؤدي إلى انسداد في الأنابيب بعد شهرين، فإن التقرير الدوري يكشف الخلل، ويمنح الباحث فرصة لتصحيح التصميم، وصانع القرار فرصة لتفادي تكرار المشكلة في مئات الحقول الأخرى. بهذا الشكل، لا يبقى المشروع أسير البداية، بل يدخل في دورة تعلم مستمرة، حيث يُبنى كل نجاح على معالجة إخفاق سابق.
إنّ هذه الآليات تعطي المزارع إحساسًا بالملكية والمشاركة؛ فهو لم يعد مجرد متلقٍ لتقنيات وقرارات، بل شريكًا في صياغتها وتطويرها. وتمنح الباحث وصانع القرار فرصة نادرة لرؤية السياسات والابتكارات وهي تُختبر في واقع شديد التعقيد والتغير. ومن هنا تتولد المرونة الحقيقية، تلك التي تجعل التنمية الزراعية أكثر قدرة على الصمود أمام تغير المناخ، تقلبات السوق، وتحديات الموارد. باختصار، آليات التغذية الراجعة هي المرآة التي تعكس الحقيقة كما هي، لا كما نحب أن نراها، وتحوّل الحوار بين الميدان والمكتب إلى عملية تعلم جماعي تبني الثقة وتصنع الاستدامة.
– تمويل مشروط بالأدلة العلمية
الحوافز الموجهة لصانعي القرار لتبني الأدلة العلمية تمثل أداة ذكية لإحداث التحول من منطق القرارات الانطباعية أو الاستجابة للضغوط السياسية اللحظية، إلى منطق مؤسس على بيانات ومعطيات واقعية قابلة للقياس. في العادة، يُتخذ القرار في دوائر الحكم تحت ضغط الوقت أو بدافع استعراض الإنجازات السريعة، فيغيب عنه أحيانًا الاستناد إلى نتائج بحثية موثوقة أو تجارب ميدانية ناجحة. هنا يأتي دور الحوافز بوصفها جسرًا بين العلم والسياسة، فهي لا تكتفي بإبراز أهمية الأدلة، بل تجعل الالتزام بها شرطًا للاستمرار في الحصول على الموارد أو التوسع في البرامج.
حين يُربط تمويل مشاريع التنمية بمؤشرات علمية واضحة، يتحول العلم من مجرد توصية نظرية إلى بوابة إلزامية للمرور. تخيل برنامجًا زراعيًا يستهدف تحسين كفاءة استخدام المياه: بدلاً من أن يُمنح التمويل استنادًا إلى وعود أو خطط مكتوبة فقط، يُشترط إثبات أن التقنية المقترحة قد أثبتت نجاحها في حقول تجريبية أو دراسات علمية منشورة. عندها، لا يصبح الدليل العلمي ترفًا أو ملحقًا، بل عملة صلبة يتحدد على أساسها حجم الدعم واستمراريته.
هذه الآلية تولّد ديناميكية جديدة بين الأطراف. الباحث يجد أن لعمله صدى وتأثيرًا مباشرًا على سياسات واقعية، فيندفع لتصميم تجارب أكثر ارتباطًا بالميدان. صانع القرار من جانبه يدرك أن الحصول على التمويل أو تجديده مرهون بمدى استناده إلى أدلة محكمة، فيبحث عنها ويحرص على توثيقها. أما المزارع والمجتمع، فيستفيدون من تطبيق برامج أثبتت جدواها، لا مجرد وعود تجريبية غامضة.
ولتعزيز فاعلية هذه الحوافز، يمكن أن تُبنى على مبدأ “التمويل التصاعدي”: كلما كان البرنامج أكثر التزامًا بالأدلة العلمية، كلما حصل على تمويل إضافي أو امتيازات تنفيذية أكبر. مثلًا، يمكن منح مكافأة تمويلية بنسبة معينة للمشاريع التي تقدم بيانات مستقلة من طرف ثالث تثبت نجاح التدخلات. ويمكن كذلك توفير تسهيلات إجرائية—كالإسراع في اعتماد الخطط أو تفضيل المشاريع في المنافسة على منح دولية—لمن يثبت التزامه بالنهج المبني على الدليل.
بهذا المنطق، تتحول الأدلة إلى لغة مشتركة تربط البحث بالسياسة والميدان. ويصبح التمويل ليس مجرد أداة دعم، بل أداة توجيه ذكية تدفع صانع القرار لاختيار ما هو أكثر جدوى واستدامة. إنها معادلة تُكسب الجميع: العلم يجد مكانه الطبيعي في قلب القرار، السياسة تصبح أكثر كفاءة وشفافية، والمجتمع يحصد نتائج ملموسة قابلة للدوام.
نماذج تنفيذية
شبكات “مزرعة-جامعة-سوق“: حيث تُجرى تجارب على مزارع نموذجية، النتائج تُنقَل للمرشدين، ومن ثم تُدعم سياسياً لتوسيع نطاقها.
شبكات “مزرعة–جامعة–سوق” تمثل صيغة عملية متقدمة لجعل التنمية الزراعية أكثر حيوية وواقعية، فهي ليست مجرد إطار تنظيري يظل حبيس المؤتمرات والتقارير، بل منظومة ديناميكية تربط بين ثلاثة أطراف أساسية في أي عملية تغيير: المزارع بوصفه الفاعل الأول وصاحب الأرض والخبرة الميدانية، الجامعة باعتبارها مصدر البحث والمعرفة والابتكار، والسوق كقوة محركة تحدد حجم الطلب واتجاهاته وتفتح المجال أمام الاستدامة الاقتصادية.
في قلب هذه الشبكة تنبض المزارع النموذجية التي تتحول إلى مختبرات مفتوحة في الهواء الطلق، حيث لا تُجرى التجارب في عزلة عن الواقع، بل وسط الحقول وبين أيادي الفلاحين أنفسهم. التجربة هنا لا تعني مجرد إثبات نظري، بل اختبار حي يواجه كل التحديات من ملوحة مياه وتغيرات مناخية وآفات زراعية. نتائج هذه التجارب لا تبقى حبيسة الأوراق أو الأدراج الأكاديمية، بل تنتقل مباشرة إلى المرشدين الزراعيين الذين يقومون بدور “المترجم” بين لغة العلم المجردة وحاجات الفلاح اليومية. المرشد هو من يحول معادلات الباحث إلى خطوات عملية في الحقل، وإلى أساليب يسهل على المزارع استيعابها وتبنيها.
لكن الحلقة لا تكتمل من دون السوق، لأنه وحده الذي يضمن استمرارية الفكرة. فنجاح أي تقنية جديدة أو صنف بديل من المحاصيل لا يقاس فقط بقدرته على مقاومة الظروف البيئية أو زيادة الغلة، بل بمدى قدرته على أن يجد مكانًا في السوق، أن يحقق ربحًا يحمس الفلاح على الاستمرار، وأن يلبي طلب المستهلك. هنا يظهر البعد الاقتصادي الذي يجعل الابتكار الزراعي مشروعًا قابلاً للحياة، وليس مجرد مبادرة وقتية.
الأهم من ذلك أن هذه الشبكات لا تقتصر على العمل الفني والتقني، بل تخلق مناخًا جديدًا للشراكة بين الفاعلين. حين يجلس المزارع جنبًا إلى جنب مع الباحث وصانع القرار والمستثمر، تتغير المعادلة بالكامل: المزارع لم يعد مجرد متلقٍ للتعليمات، بل شريك في صياغة الحلول. الجامعة لم تعد برجًا عاجيًا منعزلًا، بل طرفًا حيويًا يمد الجذور في التربة. والسوق لم يعد جهة غامضة تحدد الأسعار من بعيد، بل جزءًا من عملية التخطيط منذ البداية.
من خلال هذا التفاعل، يمكن أن تنشأ دوائر متكاملة للتنمية: الجامعة تبتكر، المزرعة تجرب، السوق يختبر جدوى المنتج، والدولة تدعم بالسياسات التي تسمح بتوسيع نطاق التجربة الناجحة إلى برامج وطنية. وبهذا الشكل، تصبح “شبكات مزرعة–جامعة–سوق” ليست مجرد نموذج تنفيذي، بل خريطة طريق تحمل في طياتها وعدًا حقيقيًا بتحويل التنمية الزراعية من مشاريع متفرقة إلى حركة مستمرة قادرة على الصمود والتجدد.
أمثلة ناجحة
- PEARL – رواندا: مشروع الشراكة من أجل تعزيز الزراعة يعمل على ربط الجامعات والمؤسسات البحثية والمزارعين المحليين لتطوير منتجات زراعية وربطها بالأسواق. الجامعات مشاركة في البحث والتجريب، والمزارعون يساهمون بخبراتهم الميدانية، والمشروع يدعم الربط مع المشترين والأسواق لتسويق المنتجات. هذا المثال يُظهِر كيف أن المعرفة المحلية تُترجَم إلى دخل حقيقي عندما تُدمج مع مؤسسات البحث والطلب السوقي.
- الولايات المتحدة: المزرعة الطلابية المستدامة في جامعة روتجرز
مزرعة جامعية تديرها جامعة Rutgers تُستخدم كمزرعة نموذجية للتدريب والتجريب، وتعتمد نموذج الزراعة المدعومة من المجتمع (CSA) حيث يشتري أفراد من المجتمع حصصًا من الإنتاج المزرعي قبل الموسم ليكون لديهم ضمان تسويق وإيراد. هذا النموذج يجمع بين البحث (التجريب على أصناف/ ممارسات جديدة)، الطلب المسبق من المجتمع، وتعليم طلابي عملي؛ وهو مثال رائع على كيف تُصبح الجامعة منصة للتجربة والتعلم والتسويق في آنٍ واحد. - UKRI– المملكة المتحدة: المؤسسة البريطانية للبحث والابتكار في سلسلة مسابقات تُموّل منحة لابتكارات زراعية تجمع بين المزارعين، الجامعات، والقطاع الصناعي. تختبر مبيدات حيوية أو تقنيات تشخيص أمراض بطرق تطبيقية. المشاريع تُختار لأن لديها شريك ميداني ومستفيد فعلي، منها توسيع خط التجريب إلى حقول إنتاجية، وربط النماذج التقنية بالمتطلبات السوقية ومراقبة الأثر.
أمثلة من شمال أفريقيا
- التعاونUM6P – OCP في المغرب
جامعة محمد السادس متعددة التخصصات (UM6P) وشركة OCP والفروع البحثية المرتبطة بها تشكّل أحد
أبرز نماذج شبكة “مزرعة–جامعة–سوق
- أُطلقت مئات المشاريع البحثية (171 مشروعًا حسب تقرير 2021) تُعنى بتحسين الأسمدة، إدارة المياه، تقنيات الزراعة الدقيقة، والتجربة الحقلية
- الجامعة تشارك بصور الأبحاث الميدانية ومختبرات، والشركة تبحث في كيفية تحويل هذه الأبحاث إلى منتجات أو خدمات يمكن أن يستخدمها المزارع فعليًا.
- من أحد الأمثلة أيضًا الشراكة بينUM6P وFertinagro Biotech لتطوير حلول مستدامة وابتكارات تناسب التربة والمناخ المغربي، وتأتي هذه الشراكة مع تدريب وبحوث ميدانية فعليّة
- مختبر الزراعةUJALA – UM6P مع J-PALتم تأسيس مختبر UM6P-J-PAL للزراعة في إفريقيا (UJALA) ويُعد مختبرًا لتقييم الأثر (Impact Evaluation Lab)، يهدف إلى قياس وتحليل فعالية البرامج والمشروعات الزراعية في القارة الإفريقية، من خلال تصميم تجارب ميدانية ودراسات تقييم دقيقة تربط بين البحث التطبيقي وصنع السياسات لتحقيق تنمية زراعية مستدامة قائمة على الأدلة.يُركّز على تقييم السياسات والبرامج الزراعية التي تستهدف تحسين الأمن الغذائي، إنتاجية المزارعين الصغار، وربحية المزارع.
- المختبر لا يعمل في عزلة؛ بل يجمع الباحثين، المرشدين، صناع السياسات لتجريب نماذج دعم زراعية أو سياسات مثل تخصيص الأسمدة حسب نوع التربة، تحسين شبكات التسويق، معرفة كيف يُعاد تكييف الدعم الحكومي ليكون أكثر فعالية.
- هذا النموذج يُعدّ من نماذج التوسع لأنه يربط الأبعاد البحثية بالتقييم والسياسات، فيُستخدم ما يُكتشف ميدانيًا كدليل لتعديل البرامج الحكومية أو التوصيات الرسمية.
- مبادرة الطائرات بدون طيار في تونس
في تونس، أُطلِق برنامج تجريبي لاستخدام الطائرات بدون طيار لتحسين إدارة الريّ وحماية المحاصيل، بشراكة بين المعاهد البحثية والجهات الحكومية ومنظمات دولية مثل البنك الإفريقي للتنمية.
الاشتراك الفعلي للمزارعين تم من خلال تدريبهم على قياس المؤشرات، والمراقبة الميدانية باستخدام الطائرات، مما جعل التجربة ليست فقط بحثًا، ولكن حاضرًا تطبيقيًا يُحسب له الأثر على الأرض. هذه التجربة تُبرز كيف أن التكنولوجيا يمكن أن تدخل بسرعة ضمن ممارسات المزارعين إذا ما رافقها التدريب والمتابعة والدعم الإداري.
لماذا هذه النماذج ملهمة وماذا يمكن أن نتعلّم منها
- في كل حالة، ظهرت أهمية أن تُختار مزرعة نموذجية تُحاكي التنوع المحلي في التربة والمناخ حتى تكون النتائج قابلة للتعميم.
- كل مشروع لا يقلُّ في نجاحه عن وجود آلية لربط نتائج البحث بالقطاع التطبيقي — سواء عبر المرشدين الزراعيين أو الأسواق أو الطلب المسبق من المجتمع.
- متابعة مباشرة وتجريب مستمر عبر مواسم عدة كانت عنصرًا مشتركًا، مما مكّن هذه المشاريع من تعديل الأساليب والتغلب على مفاجآت البيئة أو السوق.
- الشراكة متكاملة: البحث يتقدَّم، المزارعون ينفذون، الجامعات توثّق وتقيس، وصانع القرار أو السياسات غالبًا ما يدعم التوسيع عندما تظهر نتائج موثوقة ومربحة أو مستدامة.
دروس مستخلصة من هذه النماذج
- المشاريع التي تنجح هي التي تبدأ بتجربة ميدانية نموذجية—إحدى المزارع أو عدة مزارع تمثلتنوع التربة والمناخ المحلي—لا مجرد دراسة في المختبر.
- الربط مع السوق مهم جدًا: لا يكفي أن يُبتكر صنف جديد أو تقنية جديدة إن لم يكن هناك سوق فعلي يشجّع الزراعة به. المغرب في مثالUM6P-OCP يظهر كيف تُترجَم الابتكارات أيضًا إلى منتجات وأسمدة تُباع أو تُستخدم.
- الدعم المؤسسي والسياسي يُسرّع التوسع: عندما تُولّي الدولة والجهات المانحة أهمية للتجارب التي أثبتت جدواها، ومنح تسهيلات نظامية، تزداد فرص التوسع.
المنح البحثية المشتركة: جسر بين العلم والميدان
المنح البحثية المشتركة تبدو لأول وهلة كشرط إداري إضافي، لكنها في العمق أشبه ببوابة جديدة تُفتح بين مختبرات الجامعات وحقول القرى. إنّها تنقل المزارع من هامش المشهد إلى مقعد القيادة بجوار الباحث، وتجعل التجربة العلمية أكثر صدقًا لأنها تنبض بتفاصيل الأرض والعرق اليومي لمن يزرعها. ما يميز هذا النموذج أنّه يعكس وعياً بأن العلم لا يعيش في الفراغ، وأن قيمة أي دراسة لا تُقاس بمدى تعقيد معادلاتها، بل بقدرتها على أن تترجم إلى تغيير في حياة الناس.
في الماضي، كانت كثير من البحوث الزراعية تُصاغ في قاعات مغلقة، تتخمها الجداول والأرقام، ثم تُعلَّق في تقارير تنام على رفوف المكاتب. النتيجة: فجوة تتسع بين النظرية والتطبيق، بين الباحث الذي يظن أنّه قدّم الحل، والفلاح الذي لم يجد نفسه في أي سطر من هذه الدراسات. أما المنح المشتركة، فهي تعيد رسم هذا المشهد من جديد: الباحث يضع فرضياته على الطاولة، والفلاح يضع خبرته، والممول يضع شروط الأثر الملموس، فيخرج المشروع متوازنًا بين العقل والعين واليد.
إن جلوس الفلاح إلى جانب الباحث في لحظة التأسيس لا يمنح التجربة فقط صدقًا ميدانيًا، بل يحوّل المزارع نفسه إلى “شريك معرفي”. فهو لم يعد متلقيًا سلبيًا للتوصيات، بل مساهمًا في صياغتها منذ لحظة الميلاد. وهنا يحدث التحول الأعمق: الفلاح يتعلم من منهجية البحث، والباحث يتعلم من بداهة الممارسة، وكلاهما يكتشف أن المعرفة لا تولد مكتملة في عقل واحد، بل تنمو بالتشارك، كما تنمو البذور حين تختلط بالماء والضوء والتربة.
وإذا كان الباحث والمزارع قد ربحا من هذه التجربة، فإن الممول يربح أضعافًا، لأنه لم يعد يمول مجرد أوراق أو تجارب معزولة، بل استثمارًا حقيقيًا في التنمية المستدامة. الأموال التي كانت تُهدر في دراسات لا تجد من يطبقها، تتحول هنا إلى مشاريع ترفع الإنتاجية، تحسن الدخل، وتبني ثقة بين كل الأطراف. المنحة تصبح في هذه الحالة عقدًا اجتماعيًا أكثر منها مجرد شيك مالي، عقدًا يربط العلم بالاقتصاد، والجامعة بالقرية، والمعرفة بالحياة اليومية.
بهذا المعنى، يمكن القول إن المنح البحثية المشتركة ليست مجرد وسيلة جديدة لإدارة التمويل، بل ثورة هادئة في الطريقة التي نرى بها العلم نفسه. فهي تجعل البحث العلمي عملية حوارية، وتجعل من كل تجربة حقلية فصلًا من كتاب مشترك يكتبه الباحث بمداده، والمزارع بعرقه، والممول برؤيته. والنتيجة ليست مشروعًا عابرًا، بل بذرة تغيير قابلة للنمو، لا في دفاتر التقارير، بل في الحقول، في الأسواق، وفي موائد الناس
بهذا الشكل، تصبح المنح البحثية المشتركة ليس فقط وسيلة لتمويل التجارب، بل آلية لإعادة صياغة العلاقة بين الأطراف الثلاثة: الباحث، المزارع، والممول. إنها تجعل من كل تجربة علمية فرصة للتعلم المتبادل، ومن كل مشروع بحثي بذرةً يمكن أن تنمو في الحقول لا أن تبقى حبيسة الرفوف.
الآليات التي تشرك المزارعين في صياغة البحث في شمال أفريقيا والعالم العربي:
المغرب
- برنامج تطوير الزيتونINRA المغرب + وزارة الفلاحة :أُنشئت مزارع نموذجية بالتعاون مع المزارعين الصغار، حيث اشترطت المنح البحثية أن تُحدَّد أصناف الزيتون المراد تطويرها بالتشاور مع الفلاحين أنفسهم. النتيجة: اعتماد أصناف محلية مقاومة للجفاف، وارتفاع إقبال الفلاحين على تبنيها لأنهم شاركوا في تحديد مواصفاتها.
- مشروع “التقنيات الزراعية المحافظة على التربة والمياه” (بالتعاون مع الفاو):أُجريت التجارب على حقول يملكها المزارعون، مع إشراكهم في تحديد طرق الحرث والغطاء النباتي الأنسب. التجربة أثبتت أن إشراكهم منذ البداية زاد من سرعة انتشار الممارسات الجديدة.
تونس
- برنامج تحسين إنتاج الحبوب(INRAT + تمويل الاتحاد الأوروبي: التجارب أُجريت على “حقول المزارعين التجريبية” وليس في مختبرات مغلقة. كان الفلاحون يشاركون في اختيار الأصناف المراد اختبارها، وتقييم نتائج الغلة في نهاية الموسم. أدى ذلك إلى سرعة تبني أصناف قمح محسّنة مقاومة للصدأ.
- مشروع الزراعة الحافظة في القيروان وسيدي بوزيد:الباحثون صمموا التجارب مع جمعيات المزارعين، حيث ساعد الفلاحون في تحديد أولويات (التقليل من تكلفة البذر والحرث). هذه المشاركة جعلت النتائج واقعية ومطابقة لاحتياجاتهم.
مصر
- مدارس المزارعين الحقليةFAO + مركز البحوث الزراعية: في محاصيل مثل القطن والقمح، كان المزارعون جزءًا من صياغة الأسئلة البحثية حول مكافحة الآفات أو تحسين تقنيات الري. بعض المدارس الحقلية صُمّمت كمشاريع بحثية تطبيقية مشتركة، ونجحت في زيادة نسب تبني التوصيات الزراعية إلى أكثر من 60% بعد موسمين.
- مشروع القمح الشوريICARDA + مركز البحوث الزراعية: استخدم الباحثون أسلوب “التربية التشاركية”، حيث اختار الفلاحون مع الباحثين الأصناف التي تناسب حقولهم. النتيجة: اعتماد أصناف قمح جديدة أثبتت نجاحًا في دلتا النيل والصعيد.
الأردن
- المركز الوطني للبحوث الزراعية – مشروع حصاد المياه(مع: GIZقبل تمويل الباحثين، فُرض عقد جلسات مع جمعيات المزارعين لتحديد الأولويات (مثل تحسين الخزانات الترابية أو تقنيات تجميع مياه الأمطار). هذه المشاركة جعلت المزارعين شركاء في التصميم، وساهمت في نجاح تعميم التجارب في المناطق الجافة.
- مشروع الأعلاف البديلة في المفرق والبادية:المزارعون شاركوا في اختيار أنواع نباتات رعوية تُزرع في ظروف جافة، وتم تقييم النتائج في مزارعهم مباشرة.
مثال عربي خارج شمال أفريقيا
- سوريا (قبل 2011) – مشروع تربية القمح التشاركية(ICARDA): الباحثون وزعوا بذورًا جديدة على مزارعين مختارين، وطلبوا منهم اختيار الأصناف الأفضل بأنفسهم، بدلًا من فرضها من المختبر. النتيجة: اعتماد أصناف قمح تلائم ظروف الجفاف، مع سرعة انتشارها بين الفلاحين.
أمثلة من خارج العالم العربي حيث تم اعتماد منهج المنح البحثية التشاركية و آليات إشراك المزارعين في صياغة البحث:
الهند
- برنامج البحوث الزراعية التشاركية(Participatory Varietal Selection – PVS):
المزارعون يشاركون في اختيار أصناف الأرز والقمح والذرة بأنفسهم من تجارب الباحثين. هذا النموذج انتشر بتمويل من IRRI وICRISAT.
النتيجة: أصناف أرز عالية الإنتاجية تم تبنيها بسرعة لأن الفلاحين شاركوا في اختيارها.
- ICRISAT – نظام“Farmer Participatory Research”:
الفلاحون صمموا مع الباحثين تجارب حول محاصيل مثل الحمص والدخن. التجارب أُجريت في حقولهم مع مساهمتهم في التقييم.
نيبال
- برنامج الأرز التشاركيIRRI + محلي:
المزارعون اختبروا أصنافًا متعددة من الأرز في حقولهم، وشاركوا في تقييمها من حيث الطعم، وقت النضج، والتكيف مع الظروف المناخية. النتيجة: اعتماد أصناف جديدة ملائمة لظروف المرتفعات.
البرازيل
- Embrapa – تربية الذرة التشاركية:
مؤسسة Embrapaدمجت المزارعين الصغار في عملية اختيار الأصناف المحلية والمحسنة.
النتيجة: إنتاج هجن تجمع بين مقاومة الآفات والمحافظة على أصناف محلية لها قيمة ثقافية وغذائية. - مشاريع الزراعة الأسرية:
ركزت على تطوير تقنيات للزراعة العضوية بالتعاون مع المزارعين مباشرة، حيث كان تمويل الأبحاث مشروطًا بوجود خطة إشراك للفلاحين.
المكسيك
- برنامج الذرة التشاركي(CIMMYT):
التربية التشاركية للذرة” حيث ساهم المزارعون في تحديد الأصناف الأنسب لظروف المناطق الجافة.
النتيجة: أصناف محسنة ساعدت في رفع إنتاجية الذرة للمزارعين الصغار مع الحفاظ على التنوع الوراثي المحلي.
إثيوبيا
- ICARDA – تربية القمح التشاركية في المرتفعات:
الباحثون وزعوا أصنافًا تجريبية للمزارعين، وطلبوا منهم تقييمها خلال المواسم. النتيجة:سرعة تبني أصناف مقاومة للجفاف والأمراض، وزيادة الإنتاجية.
الفلبين
- مدارس المزارعين الحقلية في الأرز: (FAO + IRRI):تحولت من مجرد تدريب إلى “مختبرات مفتوحة”، حيث يحدد المزارعون مع الباحثين مشاكل الحقل (مثل الآفات وإدارة المياه) ويصممون التجارب بأنفسهم. النتيجة: انتشار إدارة متكاملة للآفات، وانخفاض استخدام المبيدات بشكل كبير.
إذن: هذه الأمثلة العالمية تؤكد أن إشراك المزارعين في صياغة البحث ليس مجرد فكرة نظرية، بل ممارسة عملية أثبتت نجاحها في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
مؤشرات نجاح التكامل
نسبة مشاريع الحكومة المبنية على نتائج بحوث محلية.
نسبة المشاريع الحكومية المبنية على نتائج بحوث محلية تعد من أهم المؤشرات الكاشفة لمدى نضج العلاقة بين البحث العلمي وصناعة القرار، فهي لا تقيس مجرد عدد المشاريع المنفذة، بل تقيس في العمق مدى قدرة الدولة على تحويل المعرفة الوطنية إلى سياسات واقعية قابلة للتنفيذ. حين ترتفع هذه النسبة، فإنها تعكس أن الحكومة لم تعد تنظر إلى البحث العلمي كترف أكاديمي أو كمجرد مخرجات نظرية تبقى في أدراج الجامعات، بل كأداة استراتيجية لصياغة قراراتها وتوجيه استثماراتها.
الأمر هنا لا يرتبط فقط بالكم، بل بالكيف أيضًا. فإذا تبنت الدولة مشروعًا زراعيًا مبنيًا على دراسة محلية دقيقة عن أصناف مقاومة للجفاف أو طرق ري موفرة للمياه، فإنها في الحقيقة تؤسس لمنهجية قرار لا تكتفي باستنساخ تجارب خارجية قد لا تناسب السياق المحلي، بل تراهن على المعرفة المتولدة من أرضها ومن عقول علمائها. هذا التحول يُترجم إلى سياسات أكثر ملاءمة، وإلى إنفاق عام أكثر كفاءة، لأنه يستند إلى معطيات واقعية، لا إلى افتراضات أو استشارات عابرة.
ارتفاع هذه النسبة أيضًا يعني أن هناك جسورًا فاعلة بُنيت بين المخابر والحكومة: قنوات اتصال مفتوحة، لجان مشتركة، وثقافة مؤسسية تؤمن بأن الحلول الوطنية هي الأجدر بالاعتماد. كما أنه مؤشر على أن المجتمع البحثي نفسه صار أكثر وعيًا بضرورة أن تكون أبحاثه موجهة نحو قضايا التنمية والإنتاج لا نحو الترف الأكاديمي.
وحين تتحول نتائج البحوث المحلية إلى مرجع لصانع القرار، فإن ذلك يعزز الثقة العامة في السياسات الحكومية، لأن المزارع أو المواطن يدرك أن ما يُنفذ ليس مجرد قرار بيروقراطي من مكتب مغلق، بل ثمرة جهد جماعي شارك فيه الباحثون المحليون الذين يفهمون الواقع أكثر من أي جهة خارجية. بهذا المعنى، تصبح النسبة هنا أكثر من مجرد رقم إحصائي، إنها مرآة لمدى استقلال القرار الوطني، وقياس لدرجة نضج منظومة التكامل بين العلم والسياسة والمجتمع.
مستوى تبني الممارسات المُوصى بها بعد 2 موسم.
مستوى تبني الممارسات الموصى بها بعد مرور موسمين زراعيين يمثل واحدًا من أكثر المؤشرات واقعية وصدقًا في قياس أثر أي تدخل تنموي أو مشروع بحثي تطبيقي، لأنه يتجاوز مرحلة الترويج الأولى ويعكس ما إذا كانت التوصيات قد وجدت طريقها فعلاً إلى حياة المزارعين اليومية. فالموسم الأول غالبًا ما يكون موسم التجريب أو الفضول، حيث يجرب المزارع التقنية أو الممارسة الجديدة تحت تأثير الحافز المادي أو ضغط المرشد أو حتى بريق الجديد. أما الموسم الثاني، فهو الامتحان الحقيقي: إما أن يقرر المزارع الاستمرار لأنه لمس مردودًا فعليًا على إنتاجه وربحه واستقراره، أو أن يتراجع ليعود إلى عاداته السابقة التي يراها أكثر أمانًا أو أقل كلفة.
هذا المؤشر لا يقيس فقط مدى نجاح التقنية في الحقل، بل يقيس أيضًا عمق الثقة التي بُنيت بين المزارع والجهات الداعمة، ومدى اتساق التوصيات مع واقع الأرض والموارد المتاحة. فإذا ارتفعت نسبة التبني بعد موسمين، فهذا يعني أن الفجوة بين البحث والتطبيق قد ضاقت، وأن الخطاب العلمي ترجم نفسه إلى واقع ملموس على الحقول، وأن المزارع وجد في الممارسة الجديدة قيمة مضافة تتجاوز كلفة التغيير. أما إذا انخفضت النسبة، فإن ذلك يوجه رسالة تحذيرية بأن ما قُدم لم يكن متوائماً مع قدرات المزارع أو لم يحقق نتائج محسوسة بالسرعة الكافية.
أهمية هذا المؤشر تكمن أيضًا في أنه يتيح قياس الاستدامة لا النجاح اللحظي. فالممارسات التي تصمد في ذاكرة المزارع لموسمين أو أكثر هي تلك التي تصبح جزءًا من ثقافته الزراعية اليومية، وتتحول مع الوقت إلى “عادة إنتاجية” جديدة قادرة على الانتشار أفقيًا عبر تقليد الآخرين أو تبنيها من قبل التعاونيات. لذلك، فإن تتبع مستوى التبني بعد موسمين ليس مجرد عملية رصد، بل هو قراءة لمستقبل التقنية أو الممارسة المقترحة، ومعيار صادق لمدى قدرتها على أن تكون جزءًا من التحول الزراعي المستدام، لا مجرد تجربة عابرة في دفتر المشاريع.
عدد السياسات التي تغيّرت استناداً إلى دراسات محلية.
عدد السياسات التي تغيّرت استناداً إلى دراسات محلية يُعدّ واحداً من المؤشرات المفصلية التي تكشف إن كان البحث العلمي قد تجاوز جدران المختبرات والجامعات ليصبح جزءاً من صناعة القرار الفعلي. فالسياسة الزراعية في جوهرها ليست نصوصاً مكتوبة على ورق، بل هي مسار يؤثر على حياة المزارعين، يحدد ما يُزرع، وكيف يُزرع، وبأي كلفة وبأي دعم. عندما نرصد أن قرارات أو لوائح أو برامج دعم قد تم تعديلها أو صياغتها استناداً إلى نتائج بحث محلي، فهذا يعني أن هناك جسراً قد شُيّد بين العقل العلمي ويد السلطة، وأن المعرفة لم تبقَ حبيسة الأدراج بل تحولت إلى أداة تغيير ملموسة.
هذا المؤشر يتجاوز مجرد عدّ السياسات إلى قراءة عمق العلاقة بين المؤسسات العلمية والجهات التشريعية والتنفيذية. فإذا كان التغيير في السياسة سريعاً، فهذا يعكس ثقة متبادلة واعترافاً بقيمة الدراسات المحلية، ويؤشر إلى أن صانع القرار لم يعد يكتفي بنماذج مستوردة أو توصيات عامة، بل أصبح يستند إلى أدلة تولدت من نفس الأرض والمجتمع. أما إذا كان عدد السياسات المتأثرة بالبحث محدوداً أو بطيئاً، فذلك يكشف إما ضعف قنوات التواصل أو غياب آليات رسمية تلزم المشرّع بأخذ نتائج البحث بعين الاعتبار.
أهمية هذا المؤشر تكمن في أنه يترجم النجاح الفردي للمشاريع الصغيرة إلى أثر مؤسسي طويل المدى. فالمزارع قد يستفيد من تقنية جديدة في موسمه، لكن حين تصبح هذه التقنية جزءاً من سياسة دعم البذور، أو من برنامج تمويل حكومي، فإن الاستفادة تتضاعف أضعافاً وتستمر عبر الزمن. التغير في السياسة إذن هو نقطة التحول التي تجعل من الابتكار تجربة خاصة إلى قاعدة عامة، ومن المعرفة المحلية إلى مرجع وطني. لذلك فإن تتبع عدد السياسات التي تتغير بفضل الدراسات المحلية ليس مجرد عمل إحصائي، بل هو قراءة لمستوى نضج الدولة في احتضان المعرفة وتحويلها إلى قوة تنظيمية، وضمانة بأن التنمية المستدامة لم تعد مجرد مبادرات متفرقة، بل نهجاً مؤسسياً يقوده العلم.
إن الحديث عن أهمية التكامل بين البحث العلمي وصانع القرار والمجتمع ليس مجرد تمرين نظري أو دعوة رومانسية للتعاون، بل هو حجر الأساس الذي يُبنى عليه مستقبل التنمية الزراعية المستدامة. فالعلم وحده، مهما بلغ من دقة وابتكار، يظل عاجزاً إن لم يجد من يتبناه ويترجمه إلى سياسة، والسياسة وحدها تبقى جوفاء إن لم تستند إلى معرفة راسخة تُجنّبها الارتجال، أما المجتمع، وتحديداً المزارعون والتعاونيات، فهم الروح التي تمنح هذا البناء معنى وقيمة، لأنهم الفاعل الأول والمستفيد الأخير. وعندما تتباعد هذه الدوائر، يتولد فراغ يجعل الأفكار العلمية رهينة الورق، والقرارات التشريعية معزولة عن الحقول، وحاجات الناس بلا صوت يسمعه من يملك القرار.
إن الخلاصة التي نخرج بها من هذه المناقشة أن التكامل ليس ترفاً بل ضرورة وجودية، لأنه يحدد المسافة بين الفشل والنجاح، بين المبادرات التي تذبل في مهدها وتلك التي تتحول إلى سياسات راسخة تستمر لأجيال. كل مشروع زراعي أو برنامج تنموي ينجح في إقامة هذا الجسر الثلاثي يصبح مشروعاً قادراً على التوسع والبقاء، لأنه يتغذى من العلم، يستند إلى الشرعية المؤسسية، ويستمد طاقته من المجتمع الذي ينفذه ويطوّعه. في المقابل، أي انقطاع في هذا المسار يعيدنا إلى أخطاء الماضي: بحوث غير مطبقة، خطط حكومية غير واقعية، أو مبادرات مجتمعية بلا دعم مستدام.
إن الطريق إلى التطبيق الحقيقي للتنمية المستدامة في الزراعة يبدأ من الاعتراف بأن هذه الأضلاع الثلاثة لا يمكن أن يعمل أحدها بمعزل عن الآخر. فالعلم هو البوصلة، وصانع القرار هو اليد التي تحملها، والمجتمع هو الأرض التي تحدد اتجاهها. وعندما يلتقون في نقطة مشتركة، تصبح الزراعة أكثر من مجرد إنتاج غذاء؛ تتحول إلى مشروع وطني جامع، وإلى ركيزة لاستقرار اقتصادي واجتماعي وبيئي يليق بالأجيال القادمة. بهذا المعنى يصبح التكامل أفقاً لا بد من السعي إليه بوعي وإصرار، لأنه وحده الكفيل بأن يحوّل الرؤى إلى تطبيق، والأحلام إلى واقع، والجهود المتفرقة إلى مسار تنموي متماسك يزرع الأمل قبل أن يزرع المحاصيل.
🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.



